قبل الجولة الثانية لانتخابات تونس

29 نوفمبر 2014

لجنة لفرز الأصوات في الانتخاب الرئاسية التونسية (23 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، في ظل حالة فرز حاد، وتجاذب واضح بين المرشحين الصاعدين إلى الدور الثاني، سواء من حيث الخطاب، أو من حيث توجهات التصويت، وهي تشفّ عن المدى الذي وصلت إليه حالة الاستقطاب السياسي في البلاد، في ظل محاولة إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل ديمقراطي حقيقي، خلافاً لما عرفته خلال ستين سنة من حكم الحزب الواحد منذ الاستقلال.
وبصورة عامة، يمكن القول إن المزاج العام للانتخابات الرئاسية لم يشهد مفاجأة، وكما كان متوقعاً، صعد المرشحان، الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي، إلى الدور الثاني، ويمكن، في هذا الإطار، تسجيل الملاحظات التالية:
- تكشف جغرافيا التصويت أن مناطق الجنوب التونسي ومدن صفاقس والقيروان انحازت، بأكملها، لصالح المرشح المنصف المرزوقي، ويمكن أن نفسر هذه الظاهرة بعوامل متعددة، منها أن هذا المناطق هي الخزان التاريخي للمعارضة اليوسفية التي تم قمعها بعنف، طوال سنوات ما بعد الاستقلال، وتم استبعاد أبنائها من المساهمة في بناء دولة ما بعد الاستقلال، على الرغم من أنها أنجبت أبرز رموز النضال الوطني والاجتماعي زمن الاحتلال (محمد علي الحامي، الطاهر الحداد، الساسي وأحمد التليلي.. ). وتشكل مناطق الجنوب التونسي القسم الجغرافي الأكثر محافظة والداعم الأساسي للتيار الإسلامي، ما يفسر، أيضاً، اصطفافه وراء المرزوقي، بالنظر إلى الموقف المتعاطف من التيار الإسلامي معه.
ـ تمكن المرشح الباجي قايد السبسي من حصد أصوات الناخبين في مناطق الساحل ونابل والشمال الغربي، وهي الأماكن الأكثر كثافة سكانية، وإذا كانت أسباب توجهات التصويت في هذه المناطق تبدو متناقضة، فيمكن تفسيرها بأن مناطق الساحل التونسي، وتحديداً المنستير، صوتت بكثافة للباجي قايد السبسي، ربما من خلال محاولتها استعادة صورة البورقيبية التي ارتدى ثوبها المرشح السبسي، بالإضافة إلى أنها مناطق ظلت تاريخياً تحتكر الجانب الأهم من المصالح الإدارية والاقتصادية، مقارنة بغيرها من المناطق الداخلية المحرومة، غير أن ما يثير الاهتمام في ظاهرة التصويت للسبسي فوزه في محافظات الشمال الغربي المهمشة والفقيرة، وربما تجد الظاهرة تفسيرها في عاملين أساسيين: أولهما أن هذه المناطق شهدت عمليات عنف تصنف إرهابية، ما جعل السكان يبحثون عمن يتصورون أنه قادر على إعادة الأمن والاستقرار وهيبة الدولة، وهو الشعار الأثير إلى قلوب أتباع المرشح السبسي . ثانياً، لعب المال السياسي دوراً مركزياً في تلك المناطق، حيث يعرف القاصي والداني أن شراء الأصوات كان ظاهرةً ملحوظة (حسبما ذكرت منظمات مراقبة الانتخابات، مثل منظمة "شاهد")، وإن كان من غير الممكن ضبطها قانونياً ومتابعتها ومنعها.
ـ فشلت زعامات تاريخية، وقيادات سياسية مهمة، في اجتذاب أصوات الناخبين، على نحو ما نرى من نتائج كل من أحمد نجيب الشابي (حل سابعاً بنسبة تصويت لا تزيد على 4.1 %)، ومصطفى بن جعفر (حل عاشراً بنسبة تصويت 0.67 %)، الأمر الذي يمكن تفسيره بتآكل رصيدهما الشعبي الذي انحاز، في غالبه، إلى الباجي قايد السبسي، وبنسبة أقل للمنصف المرزوقي.
ـ تمكن حمة الهمامي، مرشح الجبهة الشعبية، من تحقيق نسبة تصويت مقبولة عموماً، وصلت تقريباً إلى 7.82% من مجموع الأصوات، وقد استفاد، في صعوده الانتخابي النسبي، من الحملة الدعائية التي سخرتها لصالحه إحدى القنوات الإعلامية الخاصة، المحسوبة على قطاع المال الفاسد، في مفارقة غريبة، أن يجد اليسار دعماً من خصومه المفترضين، على الأقل، من حيث الشعارات المرفوعة.

ـ لعب العامل الجهوي دوراً واضحاً في الانتخابات الرئاسية الحالية، وهو ما يمكن ملاحظته في النتائج التي سجلها المرشحون في جهاتهم، حيث حل المرشح حمة الهمامي أوّل في محافظة سليانة، مسقط رأسه، وكذلك حل المرشح الهاشمي الحامدي في المرتبة الأولى في محافظة سيدي بوزيد، موطنه الأصلي، وهو ما يجعل هذه النتائج تعبيراً عن انحياز جهوي، أكثر مما هي تعبير عن تطلعات وطنية لجمهور الناخبين.

ـ تكشف الإحصاءات المنشورة أن مزاج الناخبين كان متقلباً، وإذا كان المرشح قايد السبسي قد فاز بأصوات الشيوخ والعجائز، وكل المعارضين للتغيير السياسي والراغبين في استعادة زمن الاستقرار، فقد نال المرزوقي أصوات الشباب، وأيضاً، أصوات الفئات الأكثر ثقافة وتعليماً ووعياً، وهي، في غالبها، ممن يدرك خطورة استيلاء حزب واحد على كل أجهزة الدولة.

ـ على الرغم من الفارق الذي ينطلق به المرشح الباجي قايد السبسي، في الجولة الثانية للانتخابات، إلا انه لا شيء يبدو محسوماً بالنظر إلى جملة من العوامل، أهمها أن نسبة كبيرة من الأصوات ستحدد مصير الانتخابات ليست محسومة لأحد من الطرفين، إلى حد اللحظة، فالأصوات الكثيرة التي توزعت بين باقي المرشحين (أكثر من 885 ألف صوت) ستكون مرجحة لأحد المتنافسين في الدور الثاني.
ـ كشفت تصريحات بعض المرشحين بين الدورتين عن مدى التجاذب والتوجس الذي يعرفه المشهد الانتخابي، فقد اتهم الباجي قايد السبسي ناخبي خصمه المرزوقي بأنهم من الجهاديين والمتطرفين الدينيين، مثيراً مخاوف في نفوس ناخبي الطرف الآخر من خطابٍ يستعيد منطق الشيطنة والإقصاء، خصوصاً أن التصريح تم لإحدى القنوات الفرنسية، مع ما يعنيه من محاولة تحريض دولي على منافس انتخابي. وفي المقابل، أكد المرزوقي أن فوز خصمه سيضع تونس "في نادي دول عدم الاستقرار"، بالنظر إلى خطاب السبسي التقسيمي والتحريضي.
وبغضّ النظر عن النتائج المقبلة في الدورة الثانية، فإن التجربة الانتخابية، في ذاتها، تظل مكسباً حقيقياً بالنسبة للتونسيين، وفعلاً تراكمياً لممارسة سياسية ناضجة، على الرغم من أن هذه الانتخابات لم تخلُ من التجاذب، حيث لم يكن الصراع حول برامج محددة، بقدر ما كانت الخيارات نابعةً من صراع بين توجهين سياسيين، يستند أحدهما إلى منطق استعادة هيبة الدولة، مع ما قد يستثيره هذا الخطاب من مخاوف من عودة التضييق السياسي، والآخر ينتصر لشعار الحريات الذي فرضته الثورة التونسية. وكلا التوجهين لا يمكن إلغاء أحدهما لمصلحة الآخر، ما يقتضي من رئيس تونس المقبل أن يعمل، أولاً، وقبل كل شيء، على استعادة وحدة الشعب، والتصرف بوصفه رئيساً لكل التونسيين، وليس لناخبيه فحسب، وأن يتحرر قدر الإمكان من الأجندات الحزبية الضيّقة، والخروج من ضيق الخطاب الانتخابي إلى رحابة الخطاب الوطني الجامع.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.