09 نوفمبر 2024
في ذكرى الوحدة، يسقط... يعيش
في الثاني والعشرين من فبراير/ شباط من عام 1958، أعلن عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، بتوقيع الرئيسين، السوري شكري القوتلي والمصري جمال عبد الناصر، ميثاقها، والإقرار بأن يكون نظامها رئاسياً ديمقراطياً. وبالفعل، جرى استفتاء شعبي على الوحدة، وتم انتخاب عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة. ووضع في 5 مارس/ آذار 1958 دستور جديد مؤقت للجمهورية العربية المتحدة. وقد أناط الدستور السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية، يمارسها فعلياً، بمعاونة نواب الرئيس والوزراء الذين يعينهم ويقيلهم بنفسه، وهم مسؤولون أمامه دون غيره. وفي 1960، تم توحيد برلماني البلدين في مجلس الأمة في القاهرة، وألغيت الوزارات الإقليمية، لصالح وزارة موحدة في القاهرة أيضاً. أما السلطة التشريعية فقد تولاها مجلس الأمة، المكون من نواب يعين نصفهم رئيس الجمهورية، والنصف الآخر يختاره من بين أعضاء مجلس النواب السابقين في سورية ومصر. وقد منح مجلس الأمة حق طرح الثقة بالوزراء. ولكن، بصورة فردية، من دون المسؤولية الوزارية الجماعية التي بقيت قائمة أمام رئيس الجمهورية فقط. وبذلك، حافظ النظام على طبيعته الرئاسية المتشددة، ولا سيما أن بعض أعضاء المجلس كان يعينهم الرئيس، وهذا يخالف ويتجاوز طبيعة النظام الرئاسي، القائم مبدئياً على الفصل بين السلطات.
وكان هذا الميثاق الخطوة الأولى لأحلام ذلك الشاب الأسمر الذي سلب لبّ الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، في وحدة عربية شاملة. وكان للمواقف التي اتخذها جمال عبد الناصر، وما أنجزه من برامج وأهداف، تدغدغ مشاعر الشعوب العربية التي كان قسم منها قد حصل على استقلاله، وقسم لا زال في مرحلة الثورة، للحصول على استقلاله، أن جعلت منه زعيماً يستقطب الجماهير العربية، في النصف الثاني من الخمسينات.
كان الاتحاد السوفييتي قد باشر، في بداية عام 1956، بحملة ديبلوماسية واسعة لاكتساب دول الشرق الأوسط، وقبلت سورية ومصر في فبراير/ شباط من العام نفسه صفقات السلاح السوفييتي، في وقت كان فيه حلف بغداد يهدّد الأراضي السورية، بدعم من بريطانيا. وبعد وقوع العدوان الثلاثي على مصر، في عام 1956، أعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في أراضيها، واتجهت وحدات من قواتها للمرابطة في الأردن، بعدما عطلت خط أنابيب التابلاين الناقلة للبترول العراقي إلى الساحل اللبناني. وقد اضطرت هذه الوحدة للانسحاب من الأردن، ابتداء من 24 إبريل/ نيسان 1957، بعد أن هددت القوات الأميركية بالتدخل ضدها.
لاقى إصرار ميشيل عفلق على أن يتضمن البيان الوزاري للحكومة الدعوة إلى الوحدة السورية المصرية تأييد مجلس الشعب السوري. وقام عدد من قادة الألوية في الجيش السوري بمفاوضة الحكومة المصرية حول الوحدة، وكان منهم عبد الغني قنوت، وأمين الحافظ، وصلاح جديد، ومصطفى حمدون. وأعلنت الوحدة، ومنح الرئيس السوري شكري القوتلي لقب "المواطن العربي الأول".
أدى قرار عبد الناصر إلغاء الأحزاب السياسية إلى جمودٍ في الحركة السياسية السورية، ثم حدث الانفصال، ووصل حزب البعث إلى السلطة في الثامن من مارس/ آذار عام 1963، رافعاً شعاراته الجامحة: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. وأهدافه: وحدة حرية اشتراكية، لكن سورية وقعت تحت حكم نظام عسكري شمولي قمعي، تحت مسمى حكم الحزب القائد للدولة والمجتمع، فأكمل القضاء على الحياة السياسية في سورية.
ما تمرّ به المنطقة العربية من أحداث مزلزلة، وما تكشّف من الواقع المأزوم والنسيج المجتمعي المتهتك الذي يُظهر، بشكل واضح، فشل الأحزاب القومية والمشاريع الوحدوية في قيامها بأي مشروع، مهما كان صغيراً، فحتى الوحدة المجتمعية على صعيد الدولة الواحدة فشلت فشلاً ذريعاً. وهذه سورية والعراق واليمن ومصر، بواقعها الراهن، أدلّة دامغة، تظهر كمّ الخسائر والنكبات في تاريخنا. في سورية، على الرغم من هول الواقع، وفداحة الإجرام الممارس بحق شعبها، والثمن الباهظ الذي دفعه، لم يستطع الحراك الشعبي إنتاج نخبةٍ توجه الحراك، وتدير عملية التغيير، بل أنتج وعوّم أفراداً لا يختلفون في شيء عن النظام في طريقة أدائهم، بل حتى الشعب المنتفض منذ خمس سنوات كان يدور في فلك إيجاد الزعامات وتكريس الأسماء، وطرح الشعارات الرنانة والحماسية على مختلف مشاربها. وها هي الصراعات الإقليمية والدولية، والسعي المحموم، من كل دولة أو حلف، إلى ترسيخ نفوذها وحماية مصالحها في سورية، تعيد الذاكرة إلى ذلك الماضي الذي كان، قبل ما يقارب الستين عاماً، مع بعض الاختلافات في المسميات، كأن تكون اليوم روسيا بدلاً من الاتحاد السوفييتي مثلاً، ودولة الخلافة الإسلامية بدلاً من أمة عربية واحدة، ومشروع تقسيم المنطقة بدلاً من السعي إلى شكل من أشكال الاتحاد. ولا زلنا في مرحلة البحث عن زعاماتٍ فردية، وقائد نمجده أو خليفة نبايعه، والبحث عن شعاراتٍ طنانةٍ، نجلب أجل الرجعية والإمبريالية بها، أو نقضي على أعداء أمة الإسلام والمسلمين، مثلما لو كان هناك شيء ملتصق على كريات دمائنا، نحتاج إلى فترات زمنية طويلة من أجل تنقيتها منه، حتى نستطيع التفكير في سبل النهوض من واقعنا المرير.
شاهدت فيلماً وثائقياً لزيارة جمال عبد الناصر إلى الإقليم الشمالي (سورية الحبيبة الجريحة المسبية من يومها). كانت حلب المنكوبة اليوم زاحفة من صغيرها إلى كبيرها، والكل يتسابقون إلى لمس دولاب السيارة المكشوفة التي يركبها الزعيم الأسمر. حمص المقهورة ما كانت أقل من حلب، الشام غير مصدّقة فرحتها، الحسكة، في كل مكان من سورية كانت الجماهير تزحف مردّدة الشعارات التي تمجد القائد الزعيم، وتُسقّط الرجعية وأذناب الإمبريالية المندحرة أمامه.
أعادني الفيلم إلى حكايةٍ كنت نسيتها، مثل ما نسيت كل شيء في زحمة القتل السوري، حكاية حُفرت في ذاكرتي من كثرة ما حكاها أهلي لأصدقائهم، وأنا صغيرة، بتندر: في زيارة عبد الناصر التاريخية تلك، دخل سورية من ميناء اللاذقية، وزار كل المحافظات السورية. كنت طفلة رضيعة، وكانت أختي الأكبر بحدود ثلاث سنوات، وتغار مثل أي طفل يأتيه أخ من حيث لا يدري، فيزيحه عن الصف الأول. تعلقت بوالدي الذاهب إلى اللاذقية لاستقبال الزائر الأسطوري عبد الناصر، والأطفال عندما يريدون شيئاً يجب أن يحصلوا عليه بسلاحهم الفتاك: البكاء بلا حدود. راحت أختي تبكي وتنتحب عالياً، وأنفها يسيل، وعيناها تسكبان الدموع المدرارة وهي تصرخ: بدي ناصر بدي ناصر، وتعربش متل القطة على سيقان والدي الذي لم يستطع الإفلات منها. سألها: طيّب، إذا شفتِ ناصر ماذا ستقولين له؟ بعد شهقة أو شهقتين، ردت، وهي تشرق بدموعها: بدي قول له تسقط سوسن!.
وكان هذا الميثاق الخطوة الأولى لأحلام ذلك الشاب الأسمر الذي سلب لبّ الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، في وحدة عربية شاملة. وكان للمواقف التي اتخذها جمال عبد الناصر، وما أنجزه من برامج وأهداف، تدغدغ مشاعر الشعوب العربية التي كان قسم منها قد حصل على استقلاله، وقسم لا زال في مرحلة الثورة، للحصول على استقلاله، أن جعلت منه زعيماً يستقطب الجماهير العربية، في النصف الثاني من الخمسينات.
كان الاتحاد السوفييتي قد باشر، في بداية عام 1956، بحملة ديبلوماسية واسعة لاكتساب دول الشرق الأوسط، وقبلت سورية ومصر في فبراير/ شباط من العام نفسه صفقات السلاح السوفييتي، في وقت كان فيه حلف بغداد يهدّد الأراضي السورية، بدعم من بريطانيا. وبعد وقوع العدوان الثلاثي على مصر، في عام 1956، أعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في أراضيها، واتجهت وحدات من قواتها للمرابطة في الأردن، بعدما عطلت خط أنابيب التابلاين الناقلة للبترول العراقي إلى الساحل اللبناني. وقد اضطرت هذه الوحدة للانسحاب من الأردن، ابتداء من 24 إبريل/ نيسان 1957، بعد أن هددت القوات الأميركية بالتدخل ضدها.
لاقى إصرار ميشيل عفلق على أن يتضمن البيان الوزاري للحكومة الدعوة إلى الوحدة السورية المصرية تأييد مجلس الشعب السوري. وقام عدد من قادة الألوية في الجيش السوري بمفاوضة الحكومة المصرية حول الوحدة، وكان منهم عبد الغني قنوت، وأمين الحافظ، وصلاح جديد، ومصطفى حمدون. وأعلنت الوحدة، ومنح الرئيس السوري شكري القوتلي لقب "المواطن العربي الأول".
أدى قرار عبد الناصر إلغاء الأحزاب السياسية إلى جمودٍ في الحركة السياسية السورية، ثم حدث الانفصال، ووصل حزب البعث إلى السلطة في الثامن من مارس/ آذار عام 1963، رافعاً شعاراته الجامحة: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. وأهدافه: وحدة حرية اشتراكية، لكن سورية وقعت تحت حكم نظام عسكري شمولي قمعي، تحت مسمى حكم الحزب القائد للدولة والمجتمع، فأكمل القضاء على الحياة السياسية في سورية.
ما تمرّ به المنطقة العربية من أحداث مزلزلة، وما تكشّف من الواقع المأزوم والنسيج المجتمعي المتهتك الذي يُظهر، بشكل واضح، فشل الأحزاب القومية والمشاريع الوحدوية في قيامها بأي مشروع، مهما كان صغيراً، فحتى الوحدة المجتمعية على صعيد الدولة الواحدة فشلت فشلاً ذريعاً. وهذه سورية والعراق واليمن ومصر، بواقعها الراهن، أدلّة دامغة، تظهر كمّ الخسائر والنكبات في تاريخنا. في سورية، على الرغم من هول الواقع، وفداحة الإجرام الممارس بحق شعبها، والثمن الباهظ الذي دفعه، لم يستطع الحراك الشعبي إنتاج نخبةٍ توجه الحراك، وتدير عملية التغيير، بل أنتج وعوّم أفراداً لا يختلفون في شيء عن النظام في طريقة أدائهم، بل حتى الشعب المنتفض منذ خمس سنوات كان يدور في فلك إيجاد الزعامات وتكريس الأسماء، وطرح الشعارات الرنانة والحماسية على مختلف مشاربها. وها هي الصراعات الإقليمية والدولية، والسعي المحموم، من كل دولة أو حلف، إلى ترسيخ نفوذها وحماية مصالحها في سورية، تعيد الذاكرة إلى ذلك الماضي الذي كان، قبل ما يقارب الستين عاماً، مع بعض الاختلافات في المسميات، كأن تكون اليوم روسيا بدلاً من الاتحاد السوفييتي مثلاً، ودولة الخلافة الإسلامية بدلاً من أمة عربية واحدة، ومشروع تقسيم المنطقة بدلاً من السعي إلى شكل من أشكال الاتحاد. ولا زلنا في مرحلة البحث عن زعاماتٍ فردية، وقائد نمجده أو خليفة نبايعه، والبحث عن شعاراتٍ طنانةٍ، نجلب أجل الرجعية والإمبريالية بها، أو نقضي على أعداء أمة الإسلام والمسلمين، مثلما لو كان هناك شيء ملتصق على كريات دمائنا، نحتاج إلى فترات زمنية طويلة من أجل تنقيتها منه، حتى نستطيع التفكير في سبل النهوض من واقعنا المرير.
شاهدت فيلماً وثائقياً لزيارة جمال عبد الناصر إلى الإقليم الشمالي (سورية الحبيبة الجريحة المسبية من يومها). كانت حلب المنكوبة اليوم زاحفة من صغيرها إلى كبيرها، والكل يتسابقون إلى لمس دولاب السيارة المكشوفة التي يركبها الزعيم الأسمر. حمص المقهورة ما كانت أقل من حلب، الشام غير مصدّقة فرحتها، الحسكة، في كل مكان من سورية كانت الجماهير تزحف مردّدة الشعارات التي تمجد القائد الزعيم، وتُسقّط الرجعية وأذناب الإمبريالية المندحرة أمامه.
أعادني الفيلم إلى حكايةٍ كنت نسيتها، مثل ما نسيت كل شيء في زحمة القتل السوري، حكاية حُفرت في ذاكرتي من كثرة ما حكاها أهلي لأصدقائهم، وأنا صغيرة، بتندر: في زيارة عبد الناصر التاريخية تلك، دخل سورية من ميناء اللاذقية، وزار كل المحافظات السورية. كنت طفلة رضيعة، وكانت أختي الأكبر بحدود ثلاث سنوات، وتغار مثل أي طفل يأتيه أخ من حيث لا يدري، فيزيحه عن الصف الأول. تعلقت بوالدي الذاهب إلى اللاذقية لاستقبال الزائر الأسطوري عبد الناصر، والأطفال عندما يريدون شيئاً يجب أن يحصلوا عليه بسلاحهم الفتاك: البكاء بلا حدود. راحت أختي تبكي وتنتحب عالياً، وأنفها يسيل، وعيناها تسكبان الدموع المدرارة وهي تصرخ: بدي ناصر بدي ناصر، وتعربش متل القطة على سيقان والدي الذي لم يستطع الإفلات منها. سألها: طيّب، إذا شفتِ ناصر ماذا ستقولين له؟ بعد شهقة أو شهقتين، ردت، وهي تشرق بدموعها: بدي قول له تسقط سوسن!.
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024