في انتظار زهير

14 أكتوبر 2016
ياسر صافي/ سورية
+ الخط -

من الصعب أن يجد الباحث في ديوان العرب الشعري قصيدةً تندّد بالحرب، وتصوّر أضرارها وأهوالها، وتُطلق الحكم المنذرة، أو المحذّرة من الخطر الذي تطاول به الإنسان، أكثر فصاحة، وقدرة، من معلّقة زهير بن أبي سلمى: "أمن أم أوفى دمنة لم تكلم"، وهي القصيدة التي عاين فيها الشاعر الحرب بين قبيلتَي عبس وذبيان، مثلما مدح السلام الذي أُقرّ في زمنه. وقد كان الشاعر واضحاً في ذكر السلم صراحة، وتمجيد الرجلين اللذين سعيا، والظاهر أنهما نجحا في مسعاهما، لتدارك الاقتتال الدموي المجّاني بين رجال القبيلتين الذين "تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم".

ولأن زهير ظلّ مختلفاً ومتفرّداً في تاريخ الشعر العربي الكلاسيكي، في هذا النهج السلمي، فإننا لا نجد بين الدراسات الأدبية التي أُعدّت في عصرنا، دراسة عن شعر السلام، على غرار "شعر الحرب في أدب العرب" التي كتبها الدكتور زكي المحاسني في ستينيات القرن الماضي. ذلك أن "شعر الحرب في أدب العرب"، كما يقول: "هو أقوى ما نظم الشعراء وأبقى على ترادف الأحقاب".

وليس لدينا ما نردّ به على رسالته بأمثلة من أدبنا نزعم فيها أن هذا الأدب الذي احتفى بشعر الحرب قد سعى أيضاً للتأمّل في أحوال السلم. وفي حساب المحاسني لمحاولة تفسير هذا الجموح الشعري في الانشغال بموضوعات الحرب أن "حب الحرب غريزة في الإنسان"، وهو قول يغلِّب الجانب الوحشي في الطبيعة الإنسانية على كل ما عداه من الطبائع والعواطف والميول، ويتناقض مع بحثه الذي يمضي إلى تأمّل ودراسة الجانب الفني أو الجمالي في الشعر.

ومع ذلك فإن الرجل قد يسألنا اليوم، فيما لو كان حياًّ، حين يرى ما يحدث هنا من سفك للدماء، وإزهاق للأرواح البشرية، بلا أي رادع نفسي أو أخلاقي: "لماذا؟"؛ إذ لا يزال كثيرون من بيننا يهتفون: "ألا لا يجهلن أحد علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا". ولدى أي متحدّث يؤيّد هذا القول مختارات من الشعر العربي، جمع أجزاء منها أبو تمام الطائي من قبل في كتاب سمّاه: "الحماسة"، وهي مفردة تعني المشاعر التي تتلهّف إلى القتال، أو تنجم عنه. بل إن أبا تمام دسَّ في الحماسة ذاتها شعراً آخر رأى أنه ينتمي إلى الحرب، حتى لو لم يأت على ذكر القتال.

وها نحن نعبر العتبة الثانية من القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد وليس في جعبتنا ما نردع به "غريزة الحرب" سوى بضع حكم قالها ذلك الشاعر العجوز.

ولكن إذا ما أُتيح لأي امرئ أن يستفتي الناس فيما يرغبون، في هذه "الحماسة" التي تسود المشرق العربي للحرب، فإنه سوف يعثر على الملايين ممن يلعنون الحرب من جهة، ويجد شراذم مسعورة تقتات من الضغائن، وتهتف للموت اليومي الذي يدمّر هذا المشرق في الجهة الأخرى، فيما ما نزال ننتظر الصوت الزهيري المقبل الذي قد يعود ليقول لنا من جديد: "وما الحربُ إلا ما علمتُم وذقتمُ".


دلالات
المساهمون