قديماً، كان يُقال بالعامية عن فلان من الرجال "ما عنده غير صلاته وشغله"، في إشارة إلى أنه لا يضيع وقته في اللهو أو الأمور غير النافعة. وقد كانت المقاهي، بالنسبة إلى كثير من الدمشقيّين من الأمكنة التي يهدر المرء فيها وقته وماله... يلعب طاولة النرد أو الورق ويدخّن النرجيلة، حتى أن بعض أبناء "النُخب"، كانوا يتجنّبون الدخول إلى المقاهي التي كان يرتادها جمهور شعبي، وإلا فإنهم يجازفون بسمعتهم.
وقد روى لنا، مرّة، أحد الدمشقيين، وهو ينحدر من عائلة ميسورة، أن ارتياد المقاهي كان يُعدّ في عائلته، مع بداية القرن العشرين، تزجيةً للوقت مزدراة، بل وحتى مُدانة وفق المعايير الاجتماعية والدينية السائدة؛ ففي ذلك الوقت، يقول، كان أبناء العائلات "المحترمون" يُفضّلون استقبال الناس في صالوناتهم، التي تُسمّى المضافة. ولعلّ ما يصنع ذلك الخوف على السمعة، هو وجود من لا عمل لهم في الحياة فيها، وكذلك نشوب المناوشات التي تعقب، عادةً، حصّة الحكواتي اليومية، والتي تقع ما بين أنصار البطلين المتحاربَين.
لكن على الضفّة المقابلة، نقرأ أن المقهى قد أصبح، بعد منتصف القرن التاسع عشر، المكان المفضّل لرجال الفكر والسياسة، حيث تحقّقت في جنباتها "يقظة الوعي العربي". وقد أشار المفكّر والمؤرّخ الدمشقي محمد كرد علي إلى الدور الحاسم الذي لعبته المقاهي في حياة السوريّين، حيث كانت تساوي، في أهميتها، الجمعيات التي كانت تجمع المفكّرين والأدباء أو السياسيّين، في دمشق كما في بيروت أو حمص أو حماة.
في ثلاثينيات القرن العشرين، شهدت دمشق ظهور المقاهي ذات الاتجاه الأدبي والسياسي بشكل واضح، كما بدأ بعضها بتقديم المسرحيات والأفلام السينمائية؛ مثل "مقهى اللوناربارك" قرب بوّابة الصالحية، كما يشير المحامي نجاة قصّاب حسن في كتابه "حديث دمشقي".
وفي نهاية الأربعينيات، وعلى امتداد الخمسينيات، تضاعفت هذه المقاهي وشهدت نجاحاً كبيراً، ما جعل الكاتب عبد الرحمن منيف يقول في كتابه عن حياة الفنان مروان قصاب باشي إنه "بين كل مقهيَين كان يوجد دائماً مقهى ثالث".
وبالعودة إلى كتب التاريخ ومذكّرات الرحّالة والمستشرقين، نقرأ للشاعر الفرنسي لامارتين الذي زار البلاد ما بين 1855 و1856 أن المقاهي كانت مكان اجتماع لعلية القوم، يأتي إليه الآغوات وهم يلبسون الحرير ويتمنطقون السيوف والخناجر المرصّعة بالأحجار الكريمة، ويتبعهم إليها خمسة إلى ستّة أشخاص من الخدّام أو العبيد، يمشون وراءهم بصمت، يحملون نرجيلتهم وغليونهم.
وبما أننا عدنا إلى الوراء وإلى كتب المستشرقين، نختار هنا ما هو طريف، وهو ما يخصّ تشبيه دمشق بباريس؛ فقد كان الناس في منتصف القرن التاسع عشر يتباهون بمقاهي دمشق على أنها من بين المقاهي الأكبر التي يمكن أن نجدها في الشرق كلّه.
ففي عام 1831، أكّد أديسون، وهو رحّالة إنكليزي، أن المدينة كانت مشهورة منذ ذلك الوقت بعدد وجمال مقاهيها، لا سيما تلك التي على ضفاف نهر بردى "التي كانت تجعل منها باريس الشرق بحق". يتردّد تشبيه دمشق بباريس، أيضاً، لدى الرحّالة الفرنسي لاروميه الذي زار العاصمة السورية في أواخر القرن التاسع عشر ورأى فيها مقاهيَ قد "أُنشئت تحت أغصان الشجر الوارف، تذكّره الموسيقى التي تصدح فيها وكذلك صَفّ الأنوار الذي يزينها بجادة الشانزيليزيه الباريسية".
وإذا ذكرنا المقاهي وباريس، فعلينا أن نذكر مقاهي الرصيف الشهيرة فيها حالياً، تلك التي تصطفّ كراسيها وطاولاتها الصغيرة بجانب بعضها، تاركة ممرّاً ضيّقاً يسمح لساقَي الزبون أو النادل أن تمرّا من خلاله. لكن يبدو أن "الغزو الثقافي" الأميركي والعربي بدأ يغيّر في المشهد القهوجي للمدينة العريقة وغيرها من المدن الأوروبية في وقتنا هذا؛ فسلاسل المقاهي والمطاعم الأميركية أو ما يشبهها قد غزت بعض الشوارع واستولت على بعض الأماكن، ليحلّ المعدن مكان الخشب في الديكورات، والملصقاتُ أو الصور التي لا نكهة فيها مكان الصور الفوتوغرافية للمدينة أو الحي أو لمن مر بالمقهى من مشاهير. كما تصبح المقاعد أكثر راحة للجلوس والقراءة أو التسلية بوجود شبكة إنترنت مجّانية للزبائن. أما بالنسبة إلى "الغزو" العربي، ويمكن أن نضيف التركي أيضاً، فيتمثّل في بدء انتشار المقاهي التي تُقدّم النرجيلة.
والنرجيلة في دمشق، كما هي في كثيرٍ من العواصم والمدن العربية الأخرى، ومنذ أكثر من عقدَين من الزمن، تُعدّ من أساسيات الأمكنة التي تُقدّم الطعام والشراب، ومن دونها يصبح المشروع التجاري خاسراً. ولم يبق هناك بالطبع أي حديث عن عادة ذميمة أو عادة محمودة، فقد ألفنا المقاهي والنراجيل، لكن ما تغيّر هي نسبة الوقت المخصّصة للثرثرة أو للنميمة، والتي تقلّصت لصالح تقليب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي... ولهذا الحديث أيضاً شجون.