12 نوفمبر 2024
في أحد الشعانين
لكأنّ معظم صورنا آنذاك ارتبطت بآحاد الشعانين، وقد التُقطت على يد مصوّر جوّال، كأحد شروط اكتمالها.
تبقى أمّي أسابيع طويلة، "تتآمر" والخيّاطة كريمة، لإعداد موديلات لبناتها الثلاث وابنها الوحيد، بشكل سرّي تام، يضمن عدم قابليتها للتقليد أو للكشف قبل اليوم الموعود. والشطارة تقوم في التنويع على لفّةٍ من عدة أمتارٍ لقماشةٍ واحدةٍ تنزل إلى سوق الطويلة لشرائها، مرفقة إياها بأذرع من قماش آخر مزركش، مقلّم أو مزهر، يفترض أن يلعب دور الزينة. فهنا هو على شكل قبةٍ وقلبة أكمام، وهناك هو على شكل كرافاتٍ تتدلى على صدر الفستان، فيما يلعب في الموديل الثالث دور صدرة قصيرة تكسر رتابة اللون الواحد. وإن استعصى تطويع القماش إياه لذكورة أخي، اختارت له ما يتناسق وإيانا، لونا على الأقل، متفكّرةً بشكل استباقيّ في الصورة التي ستخلّد كل هذا الجهد، في حين لن تكترث هذي الأخيرة سوى لنقل تدرّجات الرماديّ وما يتخللها من نور وظل.
وكثيرا ما يحدث أن تتشاجر والدتي مع كريمة الخيّاطة، جارتنا الشابة التي انتقلت حديثا ووالدتها إلى السكن في الشقة المجاورة، وقد أهملت تفصيلا ما، أو اعترضت على التقيّد بطلبٍ معينٍ بحجة استحالة تنفيذه. تحرد أمي، ناعتةً إياها بالمبتدئة غير المجرّبة التي تهدر القماش، وتسيء القصّ والتفصيل، مهدّدة بالذهاب إلى خيّاطة أخرى، قبل أن تتنبّه أنها لن تجد من يحتملها كما تفعل كريمة، أو من يقبل معها على الأقل بصيغة "لن نختلف" على السعر الذي تنتهي كريمة دائما بالموافقة عليه. وإن أشار أحدٌ إلى مبالغات أمّي معها، استنكرت وحلفت بأن أحدا آخر لن يقبل المجيء إليها، لولاها، وأنها بفضلها هي أصبحت كريمة تجيد الخياطة، بعد أن "جرّبت" وأخطأت على حساب أمي، عشرات المرّات.
وإذ يحين دورُ القياس، ترانا ندخل، نحن الأولاد، في الثوب كمن يدخل في نفق تحفّه المخاطر والصعاب. فهناك هشاشة الخيط الذي يمسك قطع القماش ويصلها ببعضها. وهناك الدبابيس التي تخزّ الجلد الطريّ، تليها الأوامرُ الصارمة بضرورة الوقوف بشكل مستقيم، وعدم التحرّك بانتظار ضبط الأكمام والقبة و"البنسات" واختيار الطول الصحيح، هذا إن خلا الثوب من أي مشكلةٍ عضويةٍ تستدعي نقاشاتٍ مطوّلة بين السيدتين، فيما الطفل واقفٌ بينهما يكاد يكره حياته من أصلها وتلك الثياب "الحديدية" الجديدة التي كان يحلم بها خفيفةً طائرةً مشعّة، كما هو يوم العيد. وإذ تمعن أمّي في إعطاء ملاحظاتها وتوجيهاتها، تبدأ عينا كريمة ترفرفان كالطائر المذعور، لسانها يضطرب ويداها تتأتئان، إلى أن تحمرّ أذناها إلى حدّ لا يطاق، فيطفر الدمع من عينها سخيا، واضعا حدا لجبروت أمي، مستدعيا رأفتها وما تجيد إظهاره من لين وحنان.
وعندما تجهز الأثواب، وتُكوى وتُعلّق فوقها القبعات، إذ لا أحد شعانين من دون قبعات، يجيء دور الشموع، فتختار أمي الأطول من بينها - وهذه أولى صفات الشمعة الجميلة، بالإضافة طبعا إلى زينتها - ليحملها أخي، ترافقها شموعٌ أخرى أقلّ طولا، لنا نحن البنات. متعرّقين، متعبين وجياعا، نقف أمام المصوّر، مصطفين جنبا إلى جنب، في باحة الكنيسة، بعد أن نكون قد حضرنا القدّاس، وأشعلنا شموعنا لنحترق بشمعها السائل الساخن، دائرين بها خلف الكاهن وملوّحين بأغصان الزيتون، في استعادةٍ لدخول السيد المسيح أورشليم على ظهر حمار واستقبال الأولاد له. يدعونا المصوّر إلى الابتسام، فلا تخرج الابتسامة من فموينا، أخي وأنا، في حين ترسم الأختان الكبيرتان على وجهيهما التعبير المطلوب، أي ذاك الذي ينبغي أن يشي بالفرح والامتنان.
أحفظها تلك الصور في رأسي، واحدة تلو الأخرى. منذ كنت في سني خطواتي الأولى، واقفة بين أختَي الممسكتين بيديّ من جهة وأخرى. ثم تلك التي أضيف أخي إليها. ثم تلك الواقفة أمي معنا، في فيء شجرة صنوبر. لا أفهم سببَ غياب أبي عن صورنا تلك، هو الذي لطالما أخبرنا عن جدّنا الأكبر، وخروجه بصدرته وشرواله الأبيضين في آحاد الشعانين، منتزعا لعائلتنا اللقب "آل شعنين".
تبقى أمّي أسابيع طويلة، "تتآمر" والخيّاطة كريمة، لإعداد موديلات لبناتها الثلاث وابنها الوحيد، بشكل سرّي تام، يضمن عدم قابليتها للتقليد أو للكشف قبل اليوم الموعود. والشطارة تقوم في التنويع على لفّةٍ من عدة أمتارٍ لقماشةٍ واحدةٍ تنزل إلى سوق الطويلة لشرائها، مرفقة إياها بأذرع من قماش آخر مزركش، مقلّم أو مزهر، يفترض أن يلعب دور الزينة. فهنا هو على شكل قبةٍ وقلبة أكمام، وهناك هو على شكل كرافاتٍ تتدلى على صدر الفستان، فيما يلعب في الموديل الثالث دور صدرة قصيرة تكسر رتابة اللون الواحد. وإن استعصى تطويع القماش إياه لذكورة أخي، اختارت له ما يتناسق وإيانا، لونا على الأقل، متفكّرةً بشكل استباقيّ في الصورة التي ستخلّد كل هذا الجهد، في حين لن تكترث هذي الأخيرة سوى لنقل تدرّجات الرماديّ وما يتخللها من نور وظل.
وكثيرا ما يحدث أن تتشاجر والدتي مع كريمة الخيّاطة، جارتنا الشابة التي انتقلت حديثا ووالدتها إلى السكن في الشقة المجاورة، وقد أهملت تفصيلا ما، أو اعترضت على التقيّد بطلبٍ معينٍ بحجة استحالة تنفيذه. تحرد أمي، ناعتةً إياها بالمبتدئة غير المجرّبة التي تهدر القماش، وتسيء القصّ والتفصيل، مهدّدة بالذهاب إلى خيّاطة أخرى، قبل أن تتنبّه أنها لن تجد من يحتملها كما تفعل كريمة، أو من يقبل معها على الأقل بصيغة "لن نختلف" على السعر الذي تنتهي كريمة دائما بالموافقة عليه. وإن أشار أحدٌ إلى مبالغات أمّي معها، استنكرت وحلفت بأن أحدا آخر لن يقبل المجيء إليها، لولاها، وأنها بفضلها هي أصبحت كريمة تجيد الخياطة، بعد أن "جرّبت" وأخطأت على حساب أمي، عشرات المرّات.
وإذ يحين دورُ القياس، ترانا ندخل، نحن الأولاد، في الثوب كمن يدخل في نفق تحفّه المخاطر والصعاب. فهناك هشاشة الخيط الذي يمسك قطع القماش ويصلها ببعضها. وهناك الدبابيس التي تخزّ الجلد الطريّ، تليها الأوامرُ الصارمة بضرورة الوقوف بشكل مستقيم، وعدم التحرّك بانتظار ضبط الأكمام والقبة و"البنسات" واختيار الطول الصحيح، هذا إن خلا الثوب من أي مشكلةٍ عضويةٍ تستدعي نقاشاتٍ مطوّلة بين السيدتين، فيما الطفل واقفٌ بينهما يكاد يكره حياته من أصلها وتلك الثياب "الحديدية" الجديدة التي كان يحلم بها خفيفةً طائرةً مشعّة، كما هو يوم العيد. وإذ تمعن أمّي في إعطاء ملاحظاتها وتوجيهاتها، تبدأ عينا كريمة ترفرفان كالطائر المذعور، لسانها يضطرب ويداها تتأتئان، إلى أن تحمرّ أذناها إلى حدّ لا يطاق، فيطفر الدمع من عينها سخيا، واضعا حدا لجبروت أمي، مستدعيا رأفتها وما تجيد إظهاره من لين وحنان.
وعندما تجهز الأثواب، وتُكوى وتُعلّق فوقها القبعات، إذ لا أحد شعانين من دون قبعات، يجيء دور الشموع، فتختار أمي الأطول من بينها - وهذه أولى صفات الشمعة الجميلة، بالإضافة طبعا إلى زينتها - ليحملها أخي، ترافقها شموعٌ أخرى أقلّ طولا، لنا نحن البنات. متعرّقين، متعبين وجياعا، نقف أمام المصوّر، مصطفين جنبا إلى جنب، في باحة الكنيسة، بعد أن نكون قد حضرنا القدّاس، وأشعلنا شموعنا لنحترق بشمعها السائل الساخن، دائرين بها خلف الكاهن وملوّحين بأغصان الزيتون، في استعادةٍ لدخول السيد المسيح أورشليم على ظهر حمار واستقبال الأولاد له. يدعونا المصوّر إلى الابتسام، فلا تخرج الابتسامة من فموينا، أخي وأنا، في حين ترسم الأختان الكبيرتان على وجهيهما التعبير المطلوب، أي ذاك الذي ينبغي أن يشي بالفرح والامتنان.
أحفظها تلك الصور في رأسي، واحدة تلو الأخرى. منذ كنت في سني خطواتي الأولى، واقفة بين أختَي الممسكتين بيديّ من جهة وأخرى. ثم تلك التي أضيف أخي إليها. ثم تلك الواقفة أمي معنا، في فيء شجرة صنوبر. لا أفهم سببَ غياب أبي عن صورنا تلك، هو الذي لطالما أخبرنا عن جدّنا الأكبر، وخروجه بصدرته وشرواله الأبيضين في آحاد الشعانين، منتزعا لعائلتنا اللقب "آل شعنين".