فولغانغ باولي وحفلة راقصة اسمها الكون

14 أكتوبر 2015
فولفغانغ باولي، 1945
+ الخط -

"السيداتِ والسادةَ الإشعاعيين، توصّلتُ إلى ما لم يكن في الحسبان سيُمكّننا من إنقاذ قوانين حفظ الطاقة. يتعلق الأمر بإمكانية وجود جزيئات محايدة داخل النواة (...)، أطْلقُ عليها اسم النيوترون. أدرك أن حلاً كهذا قد يستعصي على التصديق، لكنْ وحده من يجرؤ ينتصر".

هذا مقطع من رسالة بعثها الفيزيائي النمساوي فولفغانغ باولي (1900 - 1958)، من زيورخ، إلى زملائه في "الجمعية الفيزيائية الألمانية"، المُجتمعة أواخر عام 1930 في توبنغن.

في آخر رسالته هذه، كتب باولي: "أيها الشعب الإشعاعي العزيز، أعْمِلوا النّظَر ثم احكُموا. لسوء الحظ، لن أستطيع الحضور إلى جانبكم في اجتماع توبنغن، لأن وجودي لا غنى عنه في حفلة راقصة. خديمكم الأوفى، ف. باولي".

منذ أيام، تُوّج عالمان فيزيائيان، هما تكاكي كاجيتا من اليابان وآرثر ماكدونالد من كندا، بجائزة نوبل عن أبحاثهما المتعلقة بتذبذبات النيوترينو، هذا الجسيم الأولي الذي افترض وجوده، قبل 85 سنة، الشاب الثلاثيني المحب للسّهر باولي، ولم يتأكّد العالم من نظريته إلا في عام 1956 لتصبح أفكاره ملهمة للكثيرين، وقد مُنحت نوبل - قبل تتويج هذا العام - في مناسبتين سابقتين (1995 و2002) لباحثين في الطريق الذي وضعه باولي.

قبل باولي، لم يكن أحد يعلم أن النيوترينوات موجودة، ولكننا اليوم نقف على أنها تمثل ثاني أكثر الجسيمات وفرة في الكون، بعد الفوتونات، لكنها في الوقت نفسه من أشدّها "خمولاً"؛ أي أقلها تفاعلاً مع محيطها. هي من ثلاثة أنواع، ثبت وجود آخرها عام 2000 في شيكاغو، بعد أن كان علماء أوروبيون قد برهنوا عام 1990 أن عددها لا يمكن أن يتجاوز الثلاثة تُستعمل، للتفريق بين تلك الأصناف، خاصيةٌ كوانتية تُدعى "المذاق" أو "الطَّعم".

ما جاءت به تجارب مرصد أونتاريو في كندا وكاميوكا في اليابان هو الوقوف على تذبذبات النيوترينو؛ أي انتقاله من "طعم" إلى آخر أثناء رحلة عبوره (من قلب الشمس إلى الأرض مثلاً)، ونتيجة لذلك تم دحض اعتقاد سابق بأن النيوترينو، مثل الفوتون، لا كتلة له. ولا يزال "الجُسيم الشبح"، كما يحلو لدارسيه توصيفه، متكتّماً على جزء من أسراره.

إن تاريخ علوم الطبيعة لا يخلو من حالات مماثلة لاكتشاف باوْلي "الورقي"، حيث التنبّؤ بوجود كائنات فيزيائية جديدة يتم عن طريق الرياضيات وحدها، قبل أن تؤكد التجربة أو المشاهدة الوجود الفعلي لتلك الكائنات.

ولعل أشهرها اكتشاف يجري تداوله بكثرة في أدبيات العلوم، هو الذي قدّمه الرياضي والفلكي أوربان لوفيريي عن وجود كوكب نبتون في آب/ أغسطس 1846، بناء على حسابات معقدة متعلقة بمدارات أورانوس، أعقبته رؤية الكوكب الجديد بمرصد برلين بعد شهر.

هذا الإنجاز جعل السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية آنذاك، فرانسوا أراكو، يصرّح: "لقد اكتشف السيد لوفيريي كوكب نبتون، دونما حاجة إلى أن يرفع عينيه إلى السماء".

المساهمون