أنس سمحان: الكتابة من البرزخ

15 اغسطس 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الكتابة كفعل برزخي:** الكتابة تتواجد في برزخ بين الجسدي وغير الجسدي، بين الوعي واللاوعي، مما يجعلها فعلًا على الحافة.
- **مجموعة "غرفة 13 وقصص أخرى":** أنس سمحان يعكس في مجموعته القصصية حياة شاب من غزة، حيث تتنقل القصص بين الحدود وتعتنق ضبابيتها، مما يعكس محاولة الكاتب لاكتشاف أدواته الأدبية.
- **القصص والبوح الذاتي:** الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام تضم أربع عشرة قصة، تعكس شواغل شاب غزيّ، مع بروز ثلاث قصص مميزة تبشر بنضج عالٍ.

ليس ثمة منطقة واضحة مسؤولة عن الكتابة في الدماغ. لدينا منطقة "بروكا" المسؤولة عن النطق، وعن فهم اللغة وإنتاجها وإدراكها، إلا أنها ليست المنطقة المنشودة، فعلاقة النّطق والكتابة ليست تبادلية، ولا يحلّ أحدهما محل الآخر. لا بدّ لنا من إيجاد حيّز آخر خارج نطاق ما هو ماديّ وجسديّ لنلتقط موقع الكتابة، وحيّزها، ومصدرها. وبما أنّ الكتابة فعلُ تمرّد في جوهرها، لا بدّ أن يكون حيّزها برزخًا بالضرورة، بين بين، بين ما هو جسديّ وما هو غير جسديّ، بين الملموس والمحسوس، بين الوعي واللاوعي. كلُّ كتابةٍ بهذا المعنى كتابة على الحافّة، كتابة من البرزخ، ينطق فيها الجسد وما وراءه، والقلب وما وراءه. 

تنطلق باكورة أنس سمحان القصصية "غرفة 13 وقصص أخرى" (الصادرة عن دار مرفأ للثقافة والنشر)، من البرزخ. ما يميّز قصصه هذه أنّها تنطلق من هذا البرزخ الضبابيّ، وتواصل حفرها فيه من دون أن تتخلّى عنه ويتخلّى عنها. كتابة تعي برزخها وتتوق للبقاء فيه، إذ لا يُقْنعها هذا الحدّ أو ذاك. تنوس قصص سمحان بين الحدود، بحيث تعتنق ضبابيّتها، وترسم فضاءاتها بالضباب ذاته. وليس مصادفة أبدًا أنّها قصص شابٍّ من غزّة. غزّة، أيضًا، كمصائر سكّانها، وفضاءاتها، وحدودها، وآلامها، في برزخ دائم لا فكاك منه. وليس مصادفة، كذلك، أنّ القصص ليست قصصًا لو طبّقنا معايير التّجنيس الصارمة، إذ تنوس هي أيضًا بين البوح الذي لا جنس له، وبين نصوص أُخرى منضبطة إلى درجة عالية في قالب القصة، وكأنّ كاتبها يحاول اكتشاف أدواته واكتشاف حدود هذا الجنس الأدبيّ المراوغ بطبيعته. 

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام تضمّ أربع عشرة قصة - نصًا. عناوين الأقسام متناغمة مع فضاء تلك الحكايات، إذ هي عالقة بين حدّين قاتلين، مثل بندول يشقّ الهواء فينزف بوحًا مؤلمًا نتلمّس فيه ومنه شواغل شاب غزيّ كان عند الكتابة الأولى للنصوص على الأقل لا يزال في غزّة. بندول يشقّ وعيه ولاوعيه، ويشقّ هواء غزّة ذاتها في عناوين ثلاثة: ضجيج بلا إيقاع؛ تيه دون دليل (أو، في غزةّ)؛ تفكُّك. 

كان العنوان الأوّلي "صندوق رمل"، ثم غيّره سمحان إلى غرفة 13. ومع أنّ العنوان الأول يبدو للوهلة الأولى أكثر تعبيرًا عن أجواء المجموعة وقصصها، إلا أنّ الثاني، والقصة التي تحمل ذلك العنوان، هي المعبّر الفعليّ عن شواغل كاتبها في محاولته القصصية الأولى. غرفة تلتهم ساكنيها، تقضم حياتهم بحيث تُحيلهم إلى لا شيء، وتُحيلهم جزءًا منها في آن. هل ثمة مصادفة في أنّ فعل الالتهام والقضم كان ليلة الخامس من حزيران/ يونيو؟ لعلّها المصادفة، ولعلّه قَدَر الكتّاب الفلسطينيّين على اختلاف أجيالهم مع لعنة الأرقام.  

شواغل شاب غزيّ كان عند كتابة النصوص لا يزال في غزّة
 

جميع قصص ونصوص المجموعة تبدو ناقصة، مقضومة، وكأنها – هي أيضًا – تنتظر مصيرها المحتوم في أن تكون ضحية لهذه الغرفة أو هذا الاحتلال أو حتّى هذه اللعبة من تيّار الوعي الذي يبرع فيه سمحان بدرجة كبيرة بالنسبة إلى محاولة أولى في الكتابة. ثمة فعلُ إدانة دائم، أزليّ، سرمديّ، غير أنّ هذه الإدانة ذاتية. يجلد سمحان ذاته في هذه القصص التي تجلد هي أيضًا ذاتها، بحيث نقرأ النّدوب والسّياط لا الكلمات في ذاتها، فالكلمات غارقة في ذلك البرزخ الجهنّمي الذي يقبض على جميع تفاصيل الكلام. ما من أفعال جسديّة في القصص، ولو وُجِدت أحيانًا فقَدَرُها أن تكون مُجهَضةً، مكسورة، مبتورة، بينما الفضاء كلّه للبوح غير المنطوق والمنطوق في آن.  

يبدو سمحان هنا وكأنّه يحدّث نفسه على طول القصص؛ قصص تبدو في معظمها أجزاء مبتورة من نص أوحد كان يمكن الاشتغال عليه في نصوص أطول من بعض القصص التي بدا بترها مُجحفًا، خاصة حين تُقارَن بالقصص الثلاث الأفضل التي تتوّج المجموعة: "كلارينيت"، و"طاولة لاثنين"، و"شيكل". "كلارينيت" بالذات تستحق مجموعة أفضل، إذ يتبدّى فيها نضجٌ عالٍ يبشّر بنصوص قادمة مدهشة. 

تبدو تلك الغرفة-الحوت وكأنّها التهمت ذلك البرزخ الذي ظنّه سمحان، وأبطال قصصه، المنجى من كلّ ما هو واضح. الوضوح مقتل في عالم سمحان القصصيّ، ولا بدّ من غموض اغترابيّ، يكون فيه الكاتب والراوي (الرواة) غريبين حتّى عن ذاتهما، فيسعيان إلى التشكُّل في فضاء آخر لشخص آخر، يخلقهما بالمخيّلة. ولا تكون الراحة من هذا البرزخ الجهنّمي إلا بالهزيمة التي تكون استسلامًا ونجاة في آن، وكأنّ الكلام عالق في رمال متحرّكة حيث كلُّ فعلِ مقاومةٍ سيُمسي فعل موت، بينما النجاة في الاستسلام والغرق. غرق في البوح، وفي التأمّل، وفي كسر الحاجز بين الوعي واللاوعي، وفي جوف تلك الغرفة التي تُطوِّق كلّ شيء. 

في فيلم "إيجاد فورستر" (2000)، يحثّ الكاتب الشيخ وليم فورستر مُريدَه الفتى جمال والَس على الاستسلام لتيّار موج الكتابة، كما لو كان يقول له إنّ النّجاة هي في هذا الاستسلام في ذاته. يضع الآلة الكاتبة أمامه ويقول له: اكتب، فيبدأ الفتى بالتفكير، فينهره الشيخ: "اكتب، ولا تفكّر. التفكير يأتي لاحقًا". ليس المقصود هنا الاستسلام التام للاوعي، بل ترك المسوّدة الأولى على سجيّتها، بينما فعلُ التفكير سيأتي لاحقًا في التّنقيح الذي يكون الأداة الجوهريّة في تمييز كاتب عن كاتب. 

بالمقابل، تضخَّم برزخ قصص مجموعة "غرفة 13" إلى حدّ التهام ذلك الحاجز المهمّ بين فعل الكتابة وفعل التّفكير، فعلقت بعض النّصوص، وغرقت ولم تبقَ إلا أصداء بعيدة لقصص كان يمكن لها أن تحظى بتفكير أعمق وأكبر. ولكن لعلّ الأهم هو النّجاة، وهذا ما حظيت به قصص ثلاث، وبعض قصص أُخرى بدرجة أقل، تبشّر بكاتب حطّم باب غرفته، وسيواصل تحطيم الأبواب. 

* كاتب ومترجم من سورية

المساهمون