10 نوفمبر 2024
فتاوى اقتصادية
تخرج المناطق في الشمال السوري من تحت سيطرة النظام خروجاً تاماً، فينقطع الاتصال والتواصل، إلا علاقة التوصيل الجوي، حين يرسل النظام طائراته لتنفيذ مهمة لا يتقن غيرها، فيما تتبدد قوانين النظام وثقافته الإدارية ونشيده الوطني وجيشه وعلمه أيضاً. أما شعاراته المنقوشة على الجدران فتنتظر بعض الوقت، قبل أن يتم طمسها بالألوان الجديدة، ولكن، يبقي في أيدي الناس عملته الورقية التي لا يعرفون عملة غيرها.
كانت سورية في عهدي الأسد قد أرست نظاماً "شبه تحريمي"، يُمنع فيه الناس من تداول غير العملة السورية التي يصدرها النظام الحاكم، فحُصرت جميع عمليات التبادل النقدي بمؤسساته المصرفية والمالية فيها، حتى باتت مشاهدة ورقة مالية لدولة أخرى شبه نادرة وحديث المجالس، وقد قاد عدم الثقة بمصارف الدولة إلى تكديس بعض الناس أموالهم بالعملة المحلية "تحت البلاطة"، أو في الكمر، كواسطة تخزين وحيدة، وهي أساليب ادخار بدائية، لم تنجح السياسة المالية للنظام بتجاوزها.
بعد تكريس خطوط التماس القتالية، وعزل المناطق التي يسيطر عليها النظام، وتوقف الحركة بكل أشكالها بالاتجاهين، ستتوقف الحاجة، تدريجياً، لاستخدام عملة النظام، خصوصاً في ظل ظروف انحدارها السريع، مع وجود منافذ للتحرك إلى دول الجوار، وخصوصاً تركيا التي تتمتع بوضع اقتصادي ممتاز، وحضور عريض لعملتها في أيدي السوريين الذين ينتقل بعضهم، دورياً، من الأراضي السورية وإليها، ما سيسبب ظهور حركة تبادل اقتصادي بسيط، تعزز وجود الليرة التركية على حساب السورية.
قد يكون أحد أسباب اختفاء صورة حافظ الأسد عن فئة الألف الجديدة مخاوف النظام من أن يتركها المواطن السوري الذي يعيش على تخوم تركيا، ويبدأ باستخدام الليرة التركية، عوضاً عن السورية، فصورة حافظ الأسد على العملة الورقية حافز إضافي لمن يعيش خارج مناطق النظام ليهجر العملة المحلية. والتحول إلى الليرة التركية، أو أي عملة سواها، لن تنفع معه الفتاوى، فعملية اقتصادية من هذا النوع يصعب على رجل الدين أن يتحكم بها، لأنها ليست شعاراً أو دعوة إلى السلف الصالح، وليست نوعاً من "الجهاد" الاقتصادي. وفي ظل غياب مؤسسي ناظم اقتصادي، يجمع المناطق الخارجة على سيطرة النظام، سيطرد "الانتخاب الطبيعي" العملة الرديئة، أو التي فقدت مستوجبات استخدامها، وهي العملة السورية بالطبع، لكن العملية لن تتم في يوم وليلة، بل ستحتاج إلى بعض الوقت، ليتم الاستبدال التدريجي، لتلافي حصول صدمة من جراء وجود نقص في كميات النقد التركي، أو صعوبة التخلص الفجائي من الليرة السورية، لكن التبديل التدريجي سيجعل العملة السورية تفقد بعضاً من قيمتها، وقد تحصل فروق سعرية شاسعة بالليرة السورية بين مناطق النظام التي تتعامل بها والمناطق المحررة التي ترغب في التخلص منها. وكما اختفت، أو تلاشت، كل الأشياء التي كانت تمثل النظام، أو تنشأ عنه، فإن العملة الورقية، بقيمتها وألوانها، وبالطريقة التي اختارتها سلطات النظام الاقتصادية، ستزول تدريجياً. ولا داعي لأي عجلة، فطريق هذه العملة إلى الزوال مفتوح، الأمر الذي يتطلب التوقف بعض الوقت عنده، فالسوق السوري متخم بالقادة العسكريين والكتائب المقاتلة والمحللين السياسيين الذين أثقلوا القمر المصري نايل سات، لكن الكيانات الاقتصادية اللازمة لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري ما زالت غائبة، أو ذات حضور خجول، أو مخيّب، كمؤتمر رجال الدين الذين يعتقدون أن تغيير العملة مجرد فتوى تذاع على شاشة التلفزيون، ليسارع السوري إلى قذف عملته في حاويات الزبالة. يتطلب الأمر آليات استبدال فعالة تفوت فرصة قد يكسب منها النظام، بتوفير فائض نقدي لديه، هو بحاجة إليه، يجنبه عمليات طبع جديدة، تنهكه وتودي بعملته إلى حضيض جديد.