ما زال عرض "الحضرة" للمسرحي التونسي، فاضل الجزيري، يبرمج في أغلب المهرجانات التونسية، وصيف 2015 تأكيد جديد للقاعدة. فرغم أن العرض ليس جديداً، إذ تجاوز عمره 20 عاماً، لا يزال يحظى بدعاية إعلامية ملحوظة ويملأ مدارج الفضاءات التي يزورها.
عقدان من الزمن، أصبح لـ "الحضرة" تاريخها الخاص، تندرج ضمنه مسيرة فنان تونسي في سياق الحياة الثقافية عموماً في تونس، بتقاطعاتها السياسية والدينية والاجتماعية.
ينتمي الجزيري (1948) إلى جيل من المسرحيين الذين تلقوا تعليمهم في أوروبا، وتأثروا بمناخات ربيع الطلاب الثورية (1968). ومنذ أن عاد أبناء هذا الجيل إلى تونس، سرعان ما ضربوا بحجر في مياه الفن التونسي الراكدة بحكم ما تعيشه البلاد من هيمنة الحزب الواحد والذوق الواحد.
بمشروع "المسرح الجديد" برزت أسماء فاضل الجزيري وفاضل الجعايبي وجليلة بكّار ومحمد إدريس والحبيب المسروقي وغيرهم. غير أن هذا الجيل سرعان ما سيتفرّق في منتصف الثمانينيات في أوج حصاد النجاحات.
هنا، ترك الجزيري اختصاصه المسرحي، وتزامناً مع "التغيير" الذي حدث على رأس السلطة بصعود زين العابدين بن علي إلى الحكم (1987)، جاء الجزيري بعرض فرجوي ("النوبة") ليحلّق خارج السرب، تاركاً أترابه غارقين في النخبوية.
عرضٌ التقفته السلطة، إذ وجدت فيه ضالتها كتعبير عن أن شيئاً تغيّر في البلاد، لذلك دفعه الإعلام إلى الواجهة، ليتحوّل بسرعة إلى رمز لـ "التغيير". لقد أجمع المتابعون آنذاك أن الجزيري التقط لحظة التغيير في تونس وجسّدها، أو لنقل "مسرحها".
كان المجتمع التونسي، هو الآخر، في حاجة إلى نسمات جديدة وروح أخرى غير السائد الذي تعوّد عليه، معادلة فهمها الجزيري فجاء بخلطة عجيبة بين النخبوية والشعبوية. لعب الجزيري على الصدمة، فأتى بأكثر الفنون المهمّشة في عهد بورقيبة إلى العلن (فن المِزوِد) وأدخله التلفزيون إلى كل البيوت.
رغم نجاحها، لم تعرف "النوبة" استمرارية، فاقتصرت على عروض معدودة، إذ تفرّق المشاركون فيها لأسباب مادية خصوصاً. ولكنها كانت عرضاً يكشف عن فلسفة فاضل الجزيري في بقية مشواره، فهو سيلعب على حبلين؛ ظاهرياً على الإخراج الفرجوي للتراث التونسي والتوثيق للمهمّش المهدّد بالاندثار، غير أنه من جهة أخرى سيكون أنموذج فنان يعبّر عن فهم لـ "هوى الدولة" ويتصدّى لتنفيذه بأفضل الوسائل، لتفتح له في ما بعد "خزائن الدعم الثقافي" وتتضاعف مشاركاته في المهرجانات. وسيكون عرضه الموالي "الحضرة" تلك الدجاجة التي تبيض كل عام ذهباً.
لا يخلو خيار "الحضرة" من بعد سياسي، كان النظام التونسي قد دخل في صدام حاد مع التيارات الإسلامية، وبدأ في اجتثاثها بقوة من الحياة العامة. هنا، وكأن الجزيري قد وجد فرصة جاهزة فتقدّم ببديل لـ "هذا الإسلام السياسي المتوتر".
ذهب إلى عالم الإنشاد الصوفي التونسي، ومدارسه من سلامية وعيساوية وغيرها، فاستخرج منها مقطوعات يمكن أن تتحوّل إلى عناصر ضمن عمل فرجوي أتى له بموسيقيين وعازفين ومغنّين محترفين (عوض المنشدين الصوفيين) وحشد على الركح ما يقارب الـ 100 مشارك.
بهذا الإخراج الإبهاري، كما في النوبة، حقّق الجزيري للنظام ما كان يصبو إليه؛ صورة جاهزة للاستخدام لما يسمّونه بـ "الإسلام التونسي" (إسلام على مقاس السلطة، تماماً كحداثة على مقاسها) حيث تمتزج العادات والتقاليد فيه بما هو إسلامي أصيل.
وتلك ببساطة هي التركيبة الكيمائية لـ "الحضرة" وأغانيها؛ مراوحة بين التغني بالأولياء الصالحين وشيء من النفحات الروحانية، مع بعد حداثي بإدخال آلات غربية ووضع كل ذلك في قالبٍ مرحٍ قابل للاندماج في الأفراح والمناسبات التونسية.
لا بد وأن الجزيري كان يعرف استعمالات السلطة للإنشاد الصوفي على مرّ التاريخ، وهو استعمال لم يتعفف عنه الاستعمار الفرنسي، ثم كان رغم تهميشه زمن الاستقلال يحظى بقبول الدولة ورعايتها. كان يعرف أن السلطة ستبارك خياره، فجاءه الدعم هذه المرة على نطاق أوسع، ضمن الصراع مع الحركات الإسلامية أولاً، ثم كإحدى وسائل تلميع الدكتاتورية في وقت لاحق أي بعد منتصف التسعينيات، بإظهار أن الدولة حاضنة للإسلام.
هكذا تحوّلت "الحضرة" إلى رمز سياسي وثقافي وديني للبلاد، كثيراً ما تسمعها في التلفزيون الرسمي وفي الإذاعات وفي الشارع وحتى في المباريات الرياضية (وهذا إلى اليوم).
مثل النوبة، أصبحت "الحضرة" موضوع تخاصم حول العائدات المالية. هذا التخاصم كان سبباً جديداً في اتساع ظاهرتها، إذ ظهرت "الحضرة" لـ سمير العقربي، الذي كان المنفّذ الموسيقي للجزيري، ثم جاءت "حضرة رجال تونس" لـ توفيق دغمان وهو يحاول أن يرد هذا العمل إلى أصوله الصوفية قبل توظيفها الفرجوي (وليس السياسي). جميع هؤلاء، وآخرون بعدهم، وجدوا في "الحضرة" اسماً تجارياً يستثمرونه.
منذ أن تجاوز عمرها العقد، أصبحت مواصلة تجربة "الحضرة" تشير إلى فشل أكثر مما تشير إلى نجاح. الجزيري دخل تجربة ثالثة باسم "الزازا" في محاولة لإخراج فرجوي لموسيقى المألوف التونسية، ولكنه سرعان ما تركه وعاد إلى "الحضرة" إذ لم يجد في العرض الجديد نفس الدعم. كما أنه اتجه صوب السينما، مرة أخرى ضمن التقاط "هوى الدولة" حين أخرج فيلم "ثلاثون" (2008).
إن الجزيري أنموذج لمثقف يتجسّد في نماذج كثيرة في تونس وخارجها؛ يأتي في البداية بموهبته فينتزع بفضلها موقعاً من مواقع الفعل الثقافي، وربما السياسي، ثم يبدأ بعد ذلك في توظيفها وعرضها والانتفاع بها.
خاصية الجزيري أنه إضافة إلى ذلك يشتمّ في كل فترة حاجيات الدولة ويصنع لها أداة تحكم جديدة بوسائل فنية. إنه "الفنان" الذي يعرف مواقع الأوتار التي ينبغي أن تضرب لبرمجة الذوق الشعبي وتوجيهه ضمن منظومة إلهاء واستهلاك تحبها السلطة.
مع ذلك، نجح الجزيري في أن يكون ارتباطه بالسلطة غير علني، بل إنه بانسحابه معظم الوقت من يوميات الحياة الثقافية، بدا كمن هو غير راض عن أدائها أو متعفّفاً عن عائداتها أو مترفعاً عن مشاكلها. لكنه بعد الثورة ظهر بشكل علني في عالم السياسة، بنفس الأدوات الفولكورية والدينية، كمخرج لاحتفالات وتظاهرات "حزب نداء تونس".
بعد كل ذلك، لا يفرّط الجزيري في عرضه "الحضرة"، وها هو يجوب به المهرجانات ككل عام ويملأ المسارح التي يزورها. ربما بسبب عدم صعود بديل أكثر جودة مما يقدّمه، أو ربما لأن لعبة التحكّم في الأذواق قد أعطت ثمارها، صارت "حضرة الجزيري" الطبق المفضّل للتونسيين.
العجيب أن عملية التحكم هذه وعملية الإلهاء تحدثان بنفس الوسائل منذ عقود. حتى أن صانعيها، ومنهم الجزيري، لم يعودوا يبحثون عن أفكار جديدة، بل باتوا مطمئنين إلى أنها وسائل مضمومة الفاعلية.