غزّاويّات: هويّتي (2) العربية الإسرائيلية... التي تخلّصت منها

27 يوليو 2014
الصورة لبراين كروكشانك / Getty
+ الخط -


 
أحكي لابنتي الشابة عن الصعوبة التي أواجهها في كتابة هذا الفصل من حكايتي، فتسألني: "ماما ليش مجبورين يكون عنّا انتماء قومي سياسي. ألا يكفي أن نكون بشراً؟". فأحاول إقناعها أن الحاجة للانتماء هي من حاجاتنا الأساسية كبشر، لكن لا أظن أنّني أقنعتها.

كتابة هذا الفصل من حكايتي صعبة جداً لأنّه يتطلّب منّي جرأة ولا أدري إذا كنت أمتلكها لأواجه من سيزايد عليّ وعلى موقف كان لي قبل أن أصل إلى ما أنا عليه حالياً من وعي لهويّتي الفلسطينية. وسردي للأحداث لا يبرّر موقفي حيال تبنّي هوية "العربية الإسرئيلية"، بل هو محاولة لأفهم حالي يومها ولفهم الكثير من أبناء شعبي الذين ما تنازلوا بعد عن تبنّي هذه الهوية المسخ المشوّهة المصطنعة. ولا أقول هذا الكلام للمزايدة على أيّ كان، إنّما أقوله لأنّني، أنا نفسي، كنتُ هناك منذ أكثر من 25 عاماً، وفهمت أنّه من المستحيل أن نجمع بين كلمتين متناقضتين، هما "عربي" و"إسرائيلي". فالإسرائيلي لا يمكن، بحسب تعريف دولة إسرائيل، إلا أن يكون يهودياً صهيونياً. بينما العربي هو إنسان ينتمي إلى العروبة تاريخاً وثقافة. ويمكن أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً.

بعد حرب العام 1967 واحتلال إسرائيل الضفّة، أذكر جيداً أوّل مرّة زرنا رام الله، بلد جدّتي نورا، أمّ والدي. كنتُ في التاسعة من عمري، وللمرّة الأولى سمعتُ مصطلح "عرب إسرائيل". (على فكرة حتى الآن ما زال البعض من فلسطينيي الضفة يطلق علينا هذه التسمية). وحين سألني طفل أكبر منّي شوي، كنتُ أريد أن ألعب معه: "إنتِ من عرب إسرائيل؟"، كنت صغيرة ومقتنعة أنّني لبنانية، فتنازلت عن اللعب معه ولم أردّ عليه، وسكتت. لكنّ سؤاله حيّرني جداً. كما ذكرت في الفصل الأوّل من حكايتي أنّني كبرت في مدرسة تبشيرية، فتَجاهلت تماماً موضوع الهويّة والانتماء القومي، مما دفعني إلى انتحال الهوية اللبنانية.

في فترة تعليمي الثانوي والجامعي انتحلت هوية "العربية الإسرائيلية"، ربما لأنّه أهون، بحسب مقولة سائدة جداً تقول: "حطّ راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس". أو بحسب قول آخر: "تمشي الحيط الحيط وتقول يا ربّ السترة".

تلقيتُ تعليمي الثانوي في مدرسة فلسطينية خاصّة، لكنّها تخضع، مثل مدارسنا كلّها هنا، إلى منهاج وزارة التربية المخصّص لفسلطينيي البلاد. كي يستطيع طلابها المشاركة في امتحانات الثانوية العامة الحكومية. وبالطبع تعلّمنا عن تاريخ الشعوب القديمة وتاريخ العرب في الجاهلية وبداية الاسلام، وعن تاريخ أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. لكن لم نتعلّم عن فلسطين.

في درس المدنيات تعلّمنا عن المواطنة في "دولة إسرائيل". هذا كان في بداية السبعينيّات، حين كان المدرّسون مهدّدين يومياً بالفصل إذا تجازوا حدود وظيفتهم في التعليم وانتقلوا إلى التوعية، السياسية تحديداً. هذا بالإضافة إلى غسل الدماغ الإسرائيلي من خلال الإعلام والثقافة والفنّ، وفي ظلّ غياب أيّ بديل فلسطيني في تلك الأيام.

فلسطين كمفردة كانت غائبة عن الصحافة المحلية، وحتّى الوطنية منها. أيضاً تعرّض كتّاب أدب المقاومة إلى السجن عقب نشر أيّ نصّ يلوح في أفقه دليل ما عن فلسطين وما حدث أو يحدث فيها. منهم محمود درويش وتوفيق زياد وآخرون تعرّضوا للاعتقالات الإدارية بعد نشر قصائد لهم. 

بدأ التصدّع يتغلغل رويداً رويداً في ما يُسمّى "هويّتي العربية الإسرائيلية". أوّلا كردّة فعل على عنصرية الإسرائيلين شعباً وحكومة ضدّنا، خصوصاً بعد "يوم الأرض" الذي كان تظاهرة سلمية من مواطنين اعتقدوا أنّهم متساوون في الحقوق داخل دولة ديمقراطية. لكن فاجأتهم هذه الديمقراطية بالرصاص الحيّ، فاستشهد خيرة شباب سخنين عرابة ودير حنا في الجليل.

وبعد حرب لبنان الأولى واجتياح القوّات الإسرائيلية بيروت، ولاحقاً مغادرة المقاومة الفلسطينية لبنان إلى تونس، كلّ هذا جعلني أتنازل نهائياً عن هويّتي المشوّهة لأبدأ رحلة بحثي عن هويّتي الحقيقية. تلك التي أوصلتني إلى ما أنا عليه اليوم: "حكواتية فلسطينية"، أحمل حكايات وطني في قلبي لأحكيها لأولاد شعبي وأولاد العالم أجمعين. وكلّها تحمل رسالة واحدة: "نحن شعب يريد الحياة". وهذا سيكون الفصل الثالث والأخير في حكاية "هويّتي". 

دلالات
المساهمون