عيلان ودارينا.. عذراً
لا معايير واضحة للأخلاق، يمكن أن يحتكم إليها الكائن البشري في كل أحواله، وبغض النظر عن خلفيته الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الزمانية أو المكانية. ولا حدود أمامنا، نحن البشر، نعبرها فنصبح في الجانب الآمن من الضمير. لم يعد للعالم ضمير أصلاً نحتكم إليه، وربما لم يكن له، في يوم من الأيام، ذلك الضمير الجمعي المتوهم. وحتى لا جديد في ما نقوله سوى مناسبته، فها نحن نكرّر الكلام نفسه، بمثالية متوهمة ربما، كلما عايشنا حدثاً جديداً يصلح أن يكون امتحاناً لأخلاقنا واختباراً لضمائرنا.
من الواضح تماماً أن عالمنا غارق تماماً في بحيرة كبيرة من الدمامة والبشاعة والدماء البريئة والقمامة أيضا. لم تعد تنفع كل المحاولات التجميلية التي تجري هنا وهناك، لتحسين صورته أمامنا نحن أنفسنا. كلنا مشارك في صنع هذا الوجه البشع، ولكل واحد منا نصيبه الخاص من هذه البشاعة.
هل أهذي؟ هل أقول كلاماً يصعب فهمه حتى على قائلته؟ ربما.. أفعل ذلك كثيراً، وأنا بصدد تفسير سبب كل هذه البشاعة التي أحاول دفعها عني، فأجدني غارقة فيها ككل شيء، وككل أحد معي على الكرة الأرضية.
قبل أيام، سقطت طائرة روسية تقل مسافرين روس مدنيين، على الأراضي المصرية، ومات كل من فيها. لتفيض حول الأشلاء البشرية التي تناثرت على رمال سيناء مستنقعات البشاعة من كل الألوان. أبشع لون هو ذلك اللون المخاتل في خليط الأخلاق والثارات والأدعية الدينية التي استجاب لها الله، أخيراً، فوق أراضي سيناء.
أصغر ركاب الطائرة ال 224 طفلة جميلة اسمها دارينا، عمرها 10 شهور. سرعان ما انتشرت صورها الجميلة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن استدل الصحفيون على صفحة والدتها التي قضت معها على موقع "فيسبوك". تظهر دارينا في إحدى هذه الصور، وهي تنظر من زجاج مطار سان بطرسبرج الروسي إلى الطائرة المتوقفة على المدرج، استعداداً للطيران باتجاه شرم الشيخ المصرية. وفي صورة أخرى، تلهو دارينا على الشاطئ، في مشهد استدعى على الفور جثة الطفل السوري الذي قذفته تصاريف اللجوء إلى الديار البعيدة، هرباً من الحرب الدائرة في سورية بين أطراف كثيرة على شواطئ تركيا.
ومن الواضح أن ذلك الاستدعاء الذي قامت به الذاكرة الجمعية لكل مناهضي نظام الطاغية بشار الأسد غذّى منبع البشاعة التي فاضت حول جثث المسافرين الروس على شكل مستنقع آسن، عنوانه الشماتة وموضوعه العدالة الإلهية.. وخاتمته الثأر.
انتقم الله تعالى، إذن، وفقا لهؤلاء، من جرائم الطيران الحربي الروسي في سورية ضد الأطفال السوريين، بإسقاط طائرة مدنيين مسافرين بعد قضاء إجازتهم في مصر، وماتت دارينا الجميلة انتقاماً لموت عيلان الوسيم، في معادلةٍ لا أخلاقية، حاول أصحاب الأخلاق الجديدة أن يورّطوا العدالة الإلهية بها.
لم أفاجأ بردود فعل بعض الجماهير المنفعلة التي ربطت بين جثث الأطفال السوريين الأبرياء، وكل أطفال العالم أبرياء، الذين قضوا نحبهم بقصف الطيران الروسي لهم مساندة لنظام الطاغية بشار، وجثث الروس الذين سقطت طائرتهم على الأراضي المصرية، باعتبار أننا تعوّدنا على مثل هذا الربط، العفوي أحياناً من العاجزين عن التفسير وعن التدبير وعن ممارسة المنطق، لكنني لم أفهم أبداً كيف يتورط بعض من أجلّ وأقدّر من الكتاب والمثقفين في تصوير الأمر على هذا النحو العاجز والغبي. وكأن عدالة الله، جل جلاله، قد تضاءلت إلى الحد الذي عبّرت به عن نفسها بقتل دارينا ورفاقها انتقاما لعيلان ورفاقه.. تعالى الله عما يصف هؤلاء.