عن كاملة .. والدة جبران خليل جبران
فوجئت صغيرةً عندما سألتُ والدي، ذات مرّة، لماذا اختفت عائلةُ "جبران" من بشرّي، قريتنا، ولم يتبّقَ أحدٌ منها بيننا، فأجابني بما أجابني به يومذاك، كاشفًا أنّ صلة قربى تربطنا بوالدة الأديب، السيدة كاملة أسطفان عبد القادر رحمة (1854 - 1903)، زوجة خليل يوسف جبران، المنتمية إلى عائلة رحمة التي منها عائلتُنا بركات. لقد بدا أمرا غريبا حينها أن أكتشف أن لنا قرابةً ما مع جبران خليل جبران، من جهة الأم. ونشأ لديّ فضول التعرّف إلى شخصية كاملة التي قيل إنه كان لها كبير التأثير على ولدها الأديب، وعلى علاقته بالنساء (سلبا وإيجابا)، هي التي حملته وإخوته إلى بوسطن، حيث عملت في الخدمة في البيوت، وفي التجارة، لتعيلهم.
بعد سنوات، عدتُ وصادفتُ كاملة في كتاب الدكتور جميل جبر، "جبران"، وفيه يروي أنها، قبل اقترانها بخليل، كانت قد تزوّجت من حنّا عبد السلام رحمة، وسافرت معه إلى البرازيل، حيث رزقت بولدها الأول بطرس، غير أنّ زواجها هذا لم يعمّر طويلا، فقد هجرها الزوجُ ما إن وضعت وليدَهما، ما اضطرّها إلى حمل رضيعها والعودة إلى لبنان، لتعيش من جديد في بيت أهلها في بشرّي. وفي أغلب الدراسات والأعمال التي وُضعت عن سيرة جبران، ذُكر أن كاملة تزوجّت للمرة الثانية من خليل الذي سمعها ذات يوم تغنّي المواويل، فأعجب بها وظل يلاحقها حتى قبلت الزواج منه. لكنّ الواقع كان غير ذلك، وهو ما ورد في أحد أجزاء الدراسة التي وضعها الدكتور بولس طوق بعنوان "شخصية جبران"، حول أن كاملة كانت قد تزوّجت زواجا آخر بين هذين الزواجين، وهو ما أظهرته وثيقة رسمية محفوظة في البطريركية المارونية عن دعوى طلاقٍ تقدّمت بها كاملة بعد شهر من زواجها الثاني في 14 أغسطس/ آب 1880، وكانت في السادسة والعشرين من عمرها، من المدعو يوسف إلياس جعجع الذي كان يصغرها بعامين، بذريعة وجود صلة قرابة من الدرجة السابعة بينهما.
في إحدى جلسات الاستجواب التي دارت في المحكمة، بتاريخ 25 سبتمبر/ أيلول 1880، نفت كاملة وجود أي مساكنة بينها وبين عريسها، قبل الزواج أو بعده، في حين شهدت إشبينتها حنة رحمة، وهي قريبتها، بحصول المساكنة بعد الإكليل وكذا التصرّف الزواجي، "إذ كنتُ أراهما يرقدان معا في بيتي"، في حين قال العريس: "كانت بيننا معاشرة قبل الإكليل بمدة عشرة أشهر. وكانت بيننا وعود بالزواج. وكنت في هذه المدة أصرف عليها من مآكل وملابس. وقد أعطيتها ستة ريالات مجيدية".
لم تكن إذاً كاملة رحمة امرأة ضعيفة، أو مغلوباً على أمرها، بل يمكن أن يقال إنها كانت عكس ذلك، هي التي تقول سيرتُها كم كانت قوية الشخصية، وصاحبة إرادة ومقدرة، بدليل أنها، بعد زواجها الثالث من خليل جبران، وإنجابها جبران وأختيه سلطانة ومريانة، تمكّنت من أن تترك زوجَها خليل الذي لم يكن البتّة رجلا مطواعا أو سهلا، في بشرّي، لتقوم بسفرة بحريةٍ لا تخلو من المصاعب، إلى أميركا، مع أولادها الأربعة، كل هذا وهي امرأة وحيدة، عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، تزوّجت ثلاث مرات، وعملت في خدمة البيوت والتجارة، لتوافيها المنية وهي في التاسعة والأربعين!
لقد قيل الشيء وعكسه عن كاملة رحمة، ووصفها كثرٌ بأنها كانت سيدة قاسية وذات بأس، ومسؤولة عن علاقات جبران المضطربة بالنساء أو المستغلّة لهنّ، في حين رآها آخرون امرأة مكافحةً وشجاعةً رعت موهبةَ ابنها، فدعمته ووفّرت له الظروف المناسبة كي يتثقّف ويتطوّر. أما جبران، فيصف علاقته بالمرأة كما يلي: "أنا مديون بكل ما هو أنا إلى المرأة منذ كنت طفلاً حتى الساعة. المرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي. لولا المرأة الأمّ، والشقيقة، والصديقة، لبقيت هاجعًا مع هؤلاء النائمين الذين ينشدون سكينةَ العالم بغطيطهم".