عن فوضى المشهد الحزبي في تونس

09 يونيو 2015

جلسة برلمانية لتقييم أداء حكومة الصيد (6يونيو/2015/الأناضول)

+ الخط -
بعد الثورة وسقوط نظام الاستبداد، شهدت تونس إسهالا حزبياً أسفر عن الترخيص لأكثر من 160 تشكيلا سياسيا تتوزع على مشارب أيديولوجية مختلفة، وإن كان غالبيتها متقاربا من حيث البرامج والشعارات وحتى الأسماء. وإذا كان من الممكن تفهم فوضى الأحزاب بعد الثورة مباشرة، بسبب السنوات العجاف زمن الاستبداد، حيث كان النشاط الحزبي مقننا بشروط صعبة، وحينما لم تكن أحزاب المعارضة المعترف بها سوى تنظيمات إدارية مدجنة، تشكل امتدادا للسلطة السياسية القائمة، فإن مرور سنوات أربع بعد الثورة عرفت فيها البلاد ثلاث جولات انتخابية (برلمانية ورئاسية) كان كافيا لذوي الدراية السياسية لإدراك أن البنية الحزبية في تونس وحالة التشتت التنظيمي أفضت الى غير المقصود منها، من حيث أن الهدف من إنشاء التنظيمات الحزبية هو المنافسة على السلطة، وليس مجرد تسجيل الحضور السياسي الشكلي. 

من الناحية الواقعية، يتشكل المشهد السياسي التونسي من خمسة تيارات سياسية كبرى، القومي واليساري والإسلامي والليبرالي والدستوري، غير أن هذه التيارات الكبرى عرفت حالة من التشظي الواسع، من خلال انقسام منتسبيها على طيف سياسي واسع من التنظيمات الحزبية والقيادات السياسية المختلفة، وتعود أهم أسباب هذا التشظي إلى جملة من العوامل الأساسية، حيث تعاني القوى الحزبية في تونس من حالة مفرطة من "الزعاماتية"، حيث تتشكل غالبية الأحزاب حول شخصية قيادية، تستأثر بكل الحراك الحزبي والظهور الإعلامي، مع غياب واضح لأي حضور جماهيري أو أي قدرة على التأثير في الواقع السياسي، ما يتجلى في غياب البرامج أو القدرة على تقديم البدائل، والاكتفاء بالشعارات العامة الفضفاضة، وهو أمر يمكن ملاحظته في أثناء الحملات الانتخابية.
من جهة أخرى، فقدت بعض الأحزاب امتدادها الجماهيري، بسبب لعنة الانشقاقات المتلاحقة، والتي أفضت إلى تحولها إلى كيانات صغيرة أقل نفوذاً وتأثيراً، وهو أمر يمكن ملاحظته بوضوح في أحزاب متعددة، مثل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي انقسم إلى ثلاثة كيانات حزبية، أو حالة الحزب الجمهوري، بزعامة أحمد نجيب الشابي، أو حزب التكتل من أجل العمل والحريات، وكلاهما فقد حضوره البرلماني بشكل شبه تام، بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، كما خفت تأثيره السياسي وحضوره الإعلامي، بصورة واضحة، أو ما شهدته، أخيراً، بعض المجموعات اليسارية من انشقاقات، والإعلان عن تنظيمات جديدة (مثل حزب العمال الشيوعي ـ الخط الراديكالي المنشق عن حزب العمال أو منظمة العمل الشيوعي المنشقة عن الوطد الثوري)، وهو أمر يفاقم حالة التشتت التنظيمي في قوى سياسية متقاربة فكرياً، وتنتمي للتيار نفسه، غير أنها فشلت في إيجاد صيغة تنظيمية واحدة، وهو أمر ملحوظ لدى أحزاب التيار القومي، بأحزابه الصغيرة المتعددة.

وكان من نتائج هذا التشتت الحزبي ضياع أكثر من 400 ألف صوت في الانتخابات البرلمانية الماضية، كان يمكن أن تغير الخارطة الحزبية في مجلس النواب، لو تمكن أصحابها من خوض المعركة الانتخابية في قوائم أكثر توحدا.
وإذا كان من غير الممكن إنكار الدور الذي لعبه المال السياسي في تشكيل المشهد الحزبي، حيث تمكّنت الأحزاب ذات الدعم المالي الواسع من تحقيق حضور واضح في البرلمان التونسي، بغض النظر عن خلفياتها الأيديولوجية أو الفكرية، فإنه لا يكفي لتفسير حالة التشتت التنظيمي وفوضى الأحزاب في البلاد.
كان واضحا أن كثرة التنظيمات الحزبية هي أحد العوائق الأساسية أمام تمثيل أكثر مصداقية للمشهد السياسي التونسي، وقد تمكنت القوى السياسية التي أدركت أهمية بناء تحالفات واسعة (مثلما فعلت بعض قوى اليسار المتآلفة في إطار الجبهة الشعبية) من الحفاظ على حضورها السياسي في المشهد العام، كما أن الأحزاب السياسية ذات التنظيمات القوية، والتي حافظت على وحدتها (مثل حركة النهضة) ظلت فاعلة ومؤثرة، غير أن فوضى الصراعات الداخلية التي مست الأحزاب السياسية، بما فيها ذات الحضور الكبير في أروقة السلطة، ونعني هنا "نداء تونس"، تنبئ بأن المشهد الحزبي العام مقبل على تغيرات كثيرة مستقبلا. وتثبت كل هذه العوامل أن زمن الكيانات الحزبية الصغيرة قد انقضى وولى، وأنه من الضروري أن تتوحد الأحزاب المتقاربة من حيث البرامج في تنظيمات كبرى قادرة على المنافسة، وإعادة تشكيل المشهد السياسي الذي لم يستقر بعد بصورته النهائية، ولعل هذا ما دفع الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، إلى تشكيل "حراك شعب المواطنين"، بوصفه إطارا يشمل قوى حزبية ومجتمعية، متقاربة من حيث التوجهات من أجل خوض المعارك الانتخابية المقبلة.
كان إعلان بعض الأحزاب السياسية الصغيرة عن حل نفسها ("التنمية والإصلاح" و"الثقافة والعمل") أشبه بجرس إنذار لكل القيادات الحزبية والتنظيمات السياسية الصغيرة، من أجل أن تعيد بناء ذاتها في تشكيلات سياسية أكبر وأشمل، تتميز بتعدد القيادات ومرونة العمل وواقعية البرامج، بشكل يسمح بتطوير المشهد الديمقراطي التعددي في تونس، بعيدا عن الغوغائية والشعاراتية، ورغبة بعض القيادات الحزبية في تصدر المشهد الإعلامي من دون حضور على الأرض، أو تجسيم لشعاراتها واقعياً، والوصول إلى مواقع القرار، لأن مثل هذه الغاية لا تتحقق إلا بإقناع الجمهور الواسع من الناخبين، وليس بدعايات فجة ودكاكين كثيرة، لا ينتبه إليها المواطن، ولا يوليها أدنى قيمة أو أهمية.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.