عن حرية الصحافة في تونس

21 ابريل 2019
+ الخط -
أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود"، أخيرا، تقريرها السنوي المتعلق بحرية الصحافة في العالم، وجاء ترتيب تونس متقدّما نسبيا، إذ احتلت المرتبة 72 من 180 دولة، وعدّت بذلك الأولى في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وقد وثبت 25 مرتبة، مقارنةً بالسنة الماضية، في حين تحسّن مجموع النقاط المتحصل عليها بنقطة واحدة، وذلك ما يثير بعض التحفظات، على الرغم من تلك القفزة الهائلة على صعيد الترتيب الدولي.
لم تكن هذه الحرية، المتنامية من سنة إلى أخرى، منّة من أحد، بل كانت هبة الثورة لأقلام ضحت وناضلت سنين تحت نير القمع، فسجن صحافيون وكتاب عديدون، وصودرت مقالاتهم، واختفت صحفٌ كانت صوتا استثنائيا للمعارضة، مثل "الرأي" و"الفجر" و"الموقف"، فضلا عن مواقع إلكترونية تم غلقها مرات. استطاعت بعض هذه الصحف بعد الثورة العودة إلى الصدور.
يعود هذا التقدّم في الترتيب إلى جملة من العوامل، لعل أهمها تراجع الاعتداءات على الصحافيين، تحديدا بعد أن شهدت السنوات الفارطة اعتداءات استهدفتهم، خصوصا في أثناء تغطية الأحداث، والتحركات الاحتجاجية والعمليات الإرهابية وحتى المباريات الرياضية. وغابت تقريبا الأشكال الممنهجة التي تستهدف التضييق على الحريات الصحافية، أو الاعتداءات على الإعلاميين عموما. ولكن ظلت بعض تجاوزات رجال الأمن في التعاطي مع الصحافيين، في أثناء تلك الأحداث تحديدا ماثلة. وجابهها الصحافيون برفضٍ قاطع لها تحت أي ذرائع، وتقدّموا إلى القضاء لمتابعة المعتدين، فهم يعتقدون أنه لا إفلات من العقاب، حتى لو صدر عن منتسبي الأجهزة الأمنية، كما تقدّموا بمبادرات، من شأنها أن تقلص، إلى حد كبير، تلك التجاوزات التي قد تكون صادرة، من دون أن تكون وراءها نياتٌ مسبقة، وهي نتيجة سياقاتٍ ضاغطة، لم يتم التعود عليها. المستجدات التي حدثت في البلاد جعلت التجاوب مع التحولات العميقة تلك تتم بأنساقٍ متفاوتة، فإذا كان المتسيسون والمثقفون أول من استجابوا وحثّوا خطاهم بسرعة البرق في مسار الانتقال الديمقراطي، فإن بعض القوى والمؤسسات ظلت تقاوم مشكلة جيوب صد وممانعة لكل تلك التحولات العميقة، ولعل أهمها المؤسسات الأمنية تحديدا، على الرغم من تحولاتٍ بطيئةٍ سجلت في الأشهر الأخيرة. ونظمت الحكومة، في غياب وزارة الإعلام، مبادراتٍ، من قبيل تنظيم جلسات عمل بين نقابة الصحافيين والهياكل النقابية الأمنية ووزارة الداخلية، من أجل تبادل وجهات النظر وحل القضايا الخلافية بين الطرفين.
لذلك، قد يكون هذا الترتيب مضللا إذا لم نستحضر عناصر أخرى، من شأنها أن توسع 
المقاربة، وتجعلها أشمل، فالحرية، على الرغم من أهميتها، ليست المتغير الوحيد المتحكّم في تقييم المشهد الإعلامي في تونس، خصوصا إذا ما استحضرنا بياناتٍ تزامنت مع صدور تقرير "صحافيون بلا حدود"، عن نقابة الصحافيين، رأت أن حرية الصحافة مهدّدة، من خلال تنكّر الحكومة وأصحاب المؤسسات الإعلامية الخاصة لحل اتفاقيات مبرمة، من شأن تفعيلها أن يضع حدا لاستغلال الصحافيين المادي والأدبي، ذلك أن الأجور المتدنية والأشكال الهشّة للتشغيل، فضلا عن أن من شأن وضع المؤسسات الإعلامية وإدارتها أن تهدّد الصحافيين، وتجعلهم، كما قيل، "مرتزقة"، يتم تطويع أقلامهم ضمن مصالح وتوجهاتٍ لا تمت للحرية والديمقراطية بصلة، في إشارةٍ إلى وضع صحافيين عديدين يتم تأجيرهم وفق أشكال عديدة من الهشاشة.
باستثناء القطاع العام الذي يضمن الحقوق المادية العامة للصحافيين: أجر قارّ، تأمين وحيطة اجتماعية وتقاعد .. إلخ، فإن جل المؤسسات الخاصة، وعلى الرغم من نجاح بعضها على المستوى الاقتصادي، تعمد إلى التنكّر لحقوق الصحافيين المادية. ويبدو المشهد أكثر قتامةً، حين نستحضر المؤسسات الإعلامية الخاصة المصادرة بعد الثورة التي اضطر العاملون فيها إلى خوض تحرّكاتٍ احتجاجيةٍ عددية، من أجل استئناف صرف أجورهم، وهي التي توقفت أشهار عديدة.
ليس هذا الوضع المادي الهشّ للصحافيين العامل الوحيد الذي يهدّد حرية الصحافة، فالحرية لم تفلح بمفردها في أن تنهض بالمستوى العام للمشهد الإعلامي، إذ اقتحمه دخلاء واحتلوه لإشاعة "إعلام النفايات"، وهو شكلٌ عرفته أوروبا، ابتداء من تسعينيات القرن الماضي، إنه مزيج من الثرثرة والحميميات الفاضحة والعبث والخواء وحوارات الاستفزاز والإثارة. يشتكي صحافيون تونسيون عديدون من الابتذال الذي غدا سمةً بارزة للمشهد الإعلامي، وهو الذي تكفل، في سنوات قليلة، بإيجاد ذائقة إعلامية سطحية، تُقبل على تلك البرامج ضمن حلقة فارغة: مادة سطحية يقبل عليها جمهور سطحي، يطالب بمادة إعلامية ساذجة.
تُمتحن حرية الصحافة في تونس، وضمن هذا السياق، بوضعها على محكّ المضمون تحديدا، وليس على محكّ القمع الذي يبدو أنه لن يعود مجدّدا.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.