01 نوفمبر 2024
عن الدبلوماسية التونسية المخمورة
الدبلوماسية المخمورة صفة قد تصحّ على الدبلوماسية التونسية، وفق ما ذكره محافظ البنك المركزي المستقيل، الشاذلي العياري، من أعلى منبر لجنة المالية في البرلمان التونسي، إن دبلوماسيا تونسيا كان وراء وضع البرلمان الأوروبي، تونس، يوم 7 فبراير/شباط الجاري، على القائمة السوداء التي تمثل البلدان الأكثر عرضةً لمخاطر عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وما أكده عضو مجلس نواب الشعب، طارق الفتيتي، في الجلسة العامة للمجلس، يوم 15 الشهر الجاري، بكل ثقة في النفس، متحديا الحكومة التونسية أن تثبت عكسه، أن هذا الدبلوماسي هو السفير التونسي لدى بلجيكا، قائلا "إن سفير تونس في بروكسل ولدى البرلمان الأوروبي هو المتسبب في التصنيف المذكور، بعد أن حضر في إحدى لجان هذا البرلمان وهو في حالة سكر واضح، وأدلى بموقف مفاده بأنه لا وجود للانتقال الديمقراطي في تونس، وأن الانتخابات البلدية لن تتم في موعدها المحدد يوم 6 مايو/أيار المقبل". وما همس به بعض النواب الذين زاروا السفير في مكتبه، على هامش المشاركة في الأسبوع الأفريقي في البرلمان الأوروبي الذي انتظم في نهاية العام المنقضي، أن السفير التونسي كان يتناول المشروبات الكحولية في مكتبه بحضورهم، بمن في ذلك النائب عن حركة النهضة الإسلامية، ومن دون أي التزام بالقوانين التونسية التي تحظر ذلك السلوك، الأمر الذي جعل من الدبلوماسية التونسية فاقدة العقل والمنطق والبوصلة، واضعة البلاد في موقفٍ مزرٍ، وضاربة بمصالحها العليا عرض الحائط.
ومن دلائل السكر وفقدان التوازن الذي أصاب الدبلوماسية التونسية في بروكسل، ما جاء في صحيفة لوموند الفرنسية، يوم 8 فبراير/شباط الجاري، أن هدايا متمثلة في زيت الزيتون
والتمر "دقلة النور" قُدمت لنواب البرلمان الأوروبي، في إطار الدعاية لتونس، وحث البرلمانيين الأوروبيين على التصويت ضد قرار إدراج تونس في القائمة السوداء للدول الأكثر عرضةً لخطر تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، توهماً ممن هم في صدارتها أن شراء الذمم مدخل سليم للدفاع عن المصالح، أو ربما هو الأسلوب المناسب لإصلاح الخطأ القاتل الذي قد يكون السفير ارتكبه.
قد يُفاجأ بعضهم بهذا السلوك الشاذ والغريب للسفير، الذي أكّده نائب محلّف مؤدّ للقسم على القرآن العظيم، ما يعطي صورةً سيئةً عن التجربة الديمقراطية التونسية الفتية، ويصدّ الأبواب أمامها، ويحاصرها إقليميا ودوليا، ويؤثث عوامل تخريبها وإجهاضها، بدلا من ممارسة اللوبينغ لحمايتها، وتوفير أسباب النجاح لها، حتى تتحول إلى نموذج يحتذى في الوطن العربي برمته، الذي تلهث نخبه النيّرة وراء تحرّر دولها من الهيمنة والتسلط واحتكار السلالات الأسرية وجنرالات العسكر والقوى الطائفية والقبلية الحكم، رغبة منهم في عقلانية سياسية ممكنة، لكن انتماء السفير إلى المنظومة القديمة التي لا تعترف بالثورة التونسية، وتعتبرها لحظة عابرة في تاريخ تونس السياسي أمر مؤكد لا لبس فيه، وما ذكره حول التجربة الديمقراطية التي هي إفراز رئيسي لهذه الثورة هو موقفه الحقيقي، الساكن في لا وعيه، وفي تخيلاته العميقة التي لا يفصح عنها إلا في حالة مناجاةٍ مع ذاته، أو مع مقرّبيه الذين يشتركون معه في تمثلاته السياسية والتاريخية. ويكفي التنقيب في ماضي الرجل، للكشف أن أغلب حياته الدبلوماسية على رأس بعض سفارات تونس في الغابون واليونان وباريس، وتجربته المهنية في وزارة الخارجية رئيس بعض الأقسام والإدارات المهمة، لاسيما المتعلقة منها بالشأن الأوروبي. ودوره في توقيع اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي سنة 1995، قبل تعيينه في منصبه الحالي نهاية سنة 2012 والتمديد له، على الرغم من تجاوزه سن التقاعد منذ سنتين.
تصريح السفير بعدم وجود انتقال ديمقراطي حقيقي مأتاه تنشئته السياسية التي تلقاها في شكل تعليمات وأوامر وقرارات وسياسات واستعلام عن الجالية التونسية في الخارج ونخبها وقواها المعارضة، وكتابة التقارير حولها، في مؤسسات وزارة الخارجية التونسية التي ترأسها عتاة منظري التجربة البنعلية، ومسوّقوها في السوق السياسية الدولية، من أمثال عبد الرحيم الزواري وعبد الباقي الهرماسي وعبد الوهاب عبد الله، التي استمرت ربع قرن أو يزيد، بكل ما حفّ بتلك التجربة من استبداد وحكم قمعي وبوليسي، وبكل ما صاحبها من حكم عائلي مقيت، وفساد وسرقة المال العام وهدره، وتوظيفٍ للبعثات الدبلوماسية التونسية في الخارج في هذا الاتجاه، فكيف له أن يعترف بالانتقال الديمقراطي، وينافح عنه، وهو سليل المدرسة القديمة المحافظة التي كافحت طويلا من أجل ترسيخ الاستبداد، وتثبيت الحكم الفردي والحزب الواحد، وتوزيع المناصب في الدولة على أرضية الزبونية والولاء لذلك النمط السياسي الذي استطاع تغيير جبّته ومظهره بعد سنة 2011، لكنه لا يزال يلقى المعارضة والصد من أحزاب الثورة التونسية وقواها المؤمنة بالحق في الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة؟
عرفت تونس موقفا مشابها على هامش زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في نهاية
الشهر الماضي، من الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي صرّح بأن الانتقال الديمقراطي في تونس انطلق منذ ثلاث سنوات فقط، أي مع توليه السلطة نهاية 2014. وماشاه في هذا الأمر رئيس مجلس النواب، في الجلسة العامة الممتازة الي عُقدت في الغرض، ناكرين ومتجاهلين انطلاق التجربة الديمقراطية التونسية مع سقوط نظام بن علي، وانبلاج الثورة التونسية سنة 2011، وكأن الأمر يتعلق بعودة الأمور إلى نصابها، وربط الحلقات بين النظام القديم المتهاوي والنظام الجديد الصاعد، بعد أن انفصلت عراها ثلاث سنوات. وهذه المواقف هي نتاج للرؤية الدستورية القديمة الموروثة عن الفترتين، البورقيبية والبنعلية، للعمل السياسي عامة، واستتباعاته في مجال السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي خصوصا، والذي يقوم على ثقافة الريع وتوزيع المنافع والمزايا والغنائم الذي يُترجم توليا للسفارات والقنصليات والاشتغال في البعثات الدبلوماسية التونسية في الخارج، وبما يتماشى مع سياسة الأحلاف والولاءات التي بقيت تونس أسيرة لها أكثر من نصف قرن. وتجلت من جديد في قبول الدولة التونسية حليفا رئيسيا للولايات المتحدة الأميركية من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفق مذكرة التفاهم الممضاة بين الطرفين سنة 2015، وانخراطها في التحالف الإسلامي الذي شكلته المملكة العربية السعودية، مع ترويج أن تونس دولة محايدة.
لقد آن الأوان للدبلوماسية التونسية كي تصحو من سكرتها، وتستيقظ من غفوتها ونومها العميق، المتأتي من عتاقة مسؤوليها وقادتها، ورؤيتهم العمل الدبلوماسي غنيمة، والذين لم يتحرّروا بعد من الآثار الجغرافية السياسية ومقاربات السياسة الخارجية التي انبنت على نتائج الحرب العالمية الثانية، وعلى رؤيتهم الدولة ومؤسساتها حديقة خلفية لا أكثر، ويؤسسوا رؤية جديدة تعي (وتنسجم مع) التحولات السياسية العميقة والسريعة التي يعيشها عالم اليوم الذي تلوح في أفقه أقطاب اقتصادية ومالية وعسكرية وسياسية متعددة، بدلا من القطبين والقطب الواحد اللذين سادا قرنا أو يزيد، ما يستدعي كفاءاتٍ شابة، على غير شاكلة السفير وعثراته وخطاياه، مليئة بالحيوية والإيمان بالمشروع الوطني القادر على العيش والاستمرارية، الجدير بالحماية في المنظومات الإقليمية والدولية.
ومن دلائل السكر وفقدان التوازن الذي أصاب الدبلوماسية التونسية في بروكسل، ما جاء في صحيفة لوموند الفرنسية، يوم 8 فبراير/شباط الجاري، أن هدايا متمثلة في زيت الزيتون
قد يُفاجأ بعضهم بهذا السلوك الشاذ والغريب للسفير، الذي أكّده نائب محلّف مؤدّ للقسم على القرآن العظيم، ما يعطي صورةً سيئةً عن التجربة الديمقراطية التونسية الفتية، ويصدّ الأبواب أمامها، ويحاصرها إقليميا ودوليا، ويؤثث عوامل تخريبها وإجهاضها، بدلا من ممارسة اللوبينغ لحمايتها، وتوفير أسباب النجاح لها، حتى تتحول إلى نموذج يحتذى في الوطن العربي برمته، الذي تلهث نخبه النيّرة وراء تحرّر دولها من الهيمنة والتسلط واحتكار السلالات الأسرية وجنرالات العسكر والقوى الطائفية والقبلية الحكم، رغبة منهم في عقلانية سياسية ممكنة، لكن انتماء السفير إلى المنظومة القديمة التي لا تعترف بالثورة التونسية، وتعتبرها لحظة عابرة في تاريخ تونس السياسي أمر مؤكد لا لبس فيه، وما ذكره حول التجربة الديمقراطية التي هي إفراز رئيسي لهذه الثورة هو موقفه الحقيقي، الساكن في لا وعيه، وفي تخيلاته العميقة التي لا يفصح عنها إلا في حالة مناجاةٍ مع ذاته، أو مع مقرّبيه الذين يشتركون معه في تمثلاته السياسية والتاريخية. ويكفي التنقيب في ماضي الرجل، للكشف أن أغلب حياته الدبلوماسية على رأس بعض سفارات تونس في الغابون واليونان وباريس، وتجربته المهنية في وزارة الخارجية رئيس بعض الأقسام والإدارات المهمة، لاسيما المتعلقة منها بالشأن الأوروبي. ودوره في توقيع اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي سنة 1995، قبل تعيينه في منصبه الحالي نهاية سنة 2012 والتمديد له، على الرغم من تجاوزه سن التقاعد منذ سنتين.
تصريح السفير بعدم وجود انتقال ديمقراطي حقيقي مأتاه تنشئته السياسية التي تلقاها في شكل تعليمات وأوامر وقرارات وسياسات واستعلام عن الجالية التونسية في الخارج ونخبها وقواها المعارضة، وكتابة التقارير حولها، في مؤسسات وزارة الخارجية التونسية التي ترأسها عتاة منظري التجربة البنعلية، ومسوّقوها في السوق السياسية الدولية، من أمثال عبد الرحيم الزواري وعبد الباقي الهرماسي وعبد الوهاب عبد الله، التي استمرت ربع قرن أو يزيد، بكل ما حفّ بتلك التجربة من استبداد وحكم قمعي وبوليسي، وبكل ما صاحبها من حكم عائلي مقيت، وفساد وسرقة المال العام وهدره، وتوظيفٍ للبعثات الدبلوماسية التونسية في الخارج في هذا الاتجاه، فكيف له أن يعترف بالانتقال الديمقراطي، وينافح عنه، وهو سليل المدرسة القديمة المحافظة التي كافحت طويلا من أجل ترسيخ الاستبداد، وتثبيت الحكم الفردي والحزب الواحد، وتوزيع المناصب في الدولة على أرضية الزبونية والولاء لذلك النمط السياسي الذي استطاع تغيير جبّته ومظهره بعد سنة 2011، لكنه لا يزال يلقى المعارضة والصد من أحزاب الثورة التونسية وقواها المؤمنة بالحق في الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة؟
عرفت تونس موقفا مشابها على هامش زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في نهاية
لقد آن الأوان للدبلوماسية التونسية كي تصحو من سكرتها، وتستيقظ من غفوتها ونومها العميق، المتأتي من عتاقة مسؤوليها وقادتها، ورؤيتهم العمل الدبلوماسي غنيمة، والذين لم يتحرّروا بعد من الآثار الجغرافية السياسية ومقاربات السياسة الخارجية التي انبنت على نتائج الحرب العالمية الثانية، وعلى رؤيتهم الدولة ومؤسساتها حديقة خلفية لا أكثر، ويؤسسوا رؤية جديدة تعي (وتنسجم مع) التحولات السياسية العميقة والسريعة التي يعيشها عالم اليوم الذي تلوح في أفقه أقطاب اقتصادية ومالية وعسكرية وسياسية متعددة، بدلا من القطبين والقطب الواحد اللذين سادا قرنا أو يزيد، ما يستدعي كفاءاتٍ شابة، على غير شاكلة السفير وعثراته وخطاياه، مليئة بالحيوية والإيمان بالمشروع الوطني القادر على العيش والاستمرارية، الجدير بالحماية في المنظومات الإقليمية والدولية.