"منذ اعتقالي مساء الأربعاء حتى الإفراج عني، وأنا في حالة صدمة غير مستوعب لتسلسل الأحداث، ومشاهد سوريالية عدّة تتراءى في مخيّلتي"، بهذه العبارة يصف فنان الكاريكاتير الأردني الفلسطيني عماد حجاج (1967) الأيام الخمسة التي قضاها في السجن في حديثه إلى "العربي الجديد".
ورغم أنه مثُل أمام المدّعي العام بسبب رسوماتٍ سابقةٍ في حياته المهنية، إلا أنه يؤكّد أنه عاش لحظة عصيبة وقاسية عليه كفنان، وهو الذي لم يدخل مركز شرطة قط، مشيراً إلى أن من هوّنها عليه هم بعض الناس الذين ساعدوه وتضامنوا معه داخل السجن حين كانوا يتعرّفون إلى شخصيته؛ بعضهم يبتسم ثم تبدو عليه ملامح الحزن، لأن "أبو محجوب" (شخصية كرتونية خيالية ابتدعها حجاج) فقَد حريته.
ما أتمناه أن أبقى كما أنا دون أن يعاملني أحدهم كمجرم
يضيف: "كنت أفكر في عائلتي وحياتي، وفي أن التهمة الموجّهة إليّ ليست بسيطة أمام محكمة أمن الدولة، وخاصة أن المحامي كان متشائماً، ولم يرد تجميل الصورة، داعياً أن أحضّر نفسي للأسوأ. زارتني زوجتي وألمحت لي إلى أن هناك تضامناً معي، لكن دون أن توضّح شيئاً. كنت شبه معزول عن العالم الخارجي، إذ لم تكن هناك أيّة وسيلة تواصل متاحة، لكن أخبرني بعض السجانين همساً في أذني، أن هناك حملة تضامن كبيرة ضدّ توقيفي، أو أن إعلامياً بعينه أبدى تأييده لحريتي، إلى جانب بعض السجناء الجدد الذين كانوا يصفون لي الأحوال في الخارج، فبدأت معنوياتي ترتفع وأحسّ بتعاطف الناس دون أن أشاهده أو أسمعه".
يروي حجاج تفاصيل الليلة الأولى في السجن، قائلاً: "وصلت متأخراً بعد أن مثلت أمام المدعي العام العسكري، الذي أصدر حكماً بتوقيفي لأسبوعين على ذمة التحقيق. دخلت الزنزانة وكان فيها ثلاثة أشخاص، والكلّ صامت ونتبادل النظرات. أحدهم حدّق فيّ وسأل: أنت الرسام؟ وكان يعمل في أحد مكاتب توزيع الصحف المحلية. تودّد إليّ وتعارفنا أكثر. كنت مصدوماً، وأغلي من داخلي وغير مستوعبٍ أنني سجنت. واستدعيت من الذاكرة صورة طفلي كريم الذي لا ينام إلّا في حضني، وأننا في هذه الليلة قد حُرمنا من بعضنا، فشعرت بحنقٍ وغضبٍ شديدين، وأن ما يحدث معي كفنان غير عادل مطلقاً".
يتابع: "أبو محجوب كان يشعر بأسى كبير يوم اعتقالي، ولم يتوقّع أن يكون يوماً في السجن. كان يعتقد أنه الأقرب إلى الناس، وزملائي الرسامون لمسوا مشاعري حين رسموا أبو محجوب خلف القضبان، بينما مساحته الحقيقية مع جمهوره، وفي الشارع، يتنفّس حرية".
هل يُعتقل الفنان من أجل رسمة عام 2020؟ يردّ حجاج: "مندهش مثلك بأن رسم الكاريكاتير لا يزال مهنة خطِرة تشبه المشتغلين بخطوط الضغط العالي (الكابلات الكهربائية)، وهذا مؤسف. أنا كرسام عربي لي علاقات جيّدة مع رسامي كاريكاتير في الغرب الذي يعيشون قيامة جديدة ونهضة، حيث عادت رسوماتهم تتصدّر الصحف والمواقع الإلكترونية وينالون مكانة كبيرة، خلافاً للعالم العربي حيث تضيق المساحات أمام رسامي الكاريكاتير في الصحف، والمهنة تحيا أوضاعاً صعبة، ويواجه أصحابها قيوداً كثيرة، وباتت هناك أشكال مستجدّة من الرقابة".
يتابع: "في التسعينيات، كان الرسام يعاني من رقيب المطبوعات، بينما بات اليوم في عصر "السوشال ميديا"، ورغم السقوف الجديدة التي تُتاح له، إلا أن ثالوث التحريم؛ السياسي والديني والجنسي، يحطّ بثقله فوق لوحة الفنانين العرب، ورقابة المتابعين والمعلّقين على المحتوى الكاريكاتوري لها جانب معتم ومظلم، وهناك جنود مجنّدون من ذباب إلكتروني معنيّون بتشويه مقصد الفنان، وتشويه الفنان نفسه ومحاربته، ولا يزال رسام الكاريكاتير يحاول حجز مكان لرسمه في هذا الفضاء المشتعل".
"يخشى رسام الكاريكاتير من أشكال الرقابة المتضخّمة اليوم"، يقول حجاج مستذكراً أن "الأمور ربما كانت أسهل في الماضي، حيث كان الرسام يعرف من هو الرقيب، بينما لا يستطيع تحديده اليوم، فهو إنسان يعرفك وأنت لا تعرفه ويريد أن يقاضيك وفق قانون الجرائم الإلكترونية الذي اعتمد في أكثر من بلد عربي، وهناك تهمة إضافية، هي تعكير صفو العلاقة مع دول عربية. صدقاً، ليس سهلاً أن تقارن بين رقابتين في زمنين، فقد واجه رسام الكاريكاتير العربي سابقاً القمع والتعذيب والسجن، وكان يحصل ما هو أسوأ. لكننا كرسامين اليوم نسير في حقل من الألغام".
يصمت حجاج قليلاً متأملاً المشهد بأكمله، ويقول لـ"العربي الجديد": "هناك حقيقة بأن فنّ الكاريكاتير يزدهر في أجواء قمع الحريات، وهذه مفارقة، إذ إن الكاريكاتير مزدهر في الغرب، كما أسلفنا، لكن أهمّ الرسّامين في العالم هم من أميركا اللاتينية وإيران وتركيا وبلدان أخرى من العالم الثالث".
ماذا يخطر ببالك بعد الإفراج عنك بكفالة حيث ستمثل أمام القضاء المدني قريباً؟ سؤال لا يبدو مفاجئاً، وتأتي إجابته بعفوية: "لا أريد أن أسوق مثاليات وألعب دور البطولة. منذ إطلاق حريتي، وأنا أراجع نفسي، وأراجع الرسمة موضع الخلاف، واللحظة التي رسمت فيها هذه الرسمة، ويساورني أحياناً الندم. أصابتني هزّات عديدة في حياتي المهنية، ففي نهاية التسعينيات وأنا في عزّ شهرتي، أرسلتني إحدى رسوماتي إلى الشارع، بلا دخل ولا عمل، وقد أجريت حينها محاكمة لما حدث معي، وقلت لنفسي إنني لعبت دور دون كيشوت، وقرّرت بعدها أن أرسم أموراً عادية، وأبتعد عن السياسة ومشاكلها، لكن حين تأسّست جريدة أردنية مطلع الألفية الثالثة والتحقت بها، استعدت نفسي وجرأتي وبدأت أصرخ بالكاريكتير. ربما ننحني للريح، ولكن لا ننكسر، كان من الممكن هذه المرّة أن أسجن لفترة طويلة، في زمن باتت البلدان العربية تقتدي بدونالد ترامب في عدائه للصحافة، وهذا ما يجعل الناس تخاف من سلطاتها، وأنا منهم، لكن هناك دائماً رسام كاريكاتير يقول كلمته أيضاً".
لقد تعلّمت من الناس وأنا أشاهدهم في ساحات الاحتجاج
يلفت حجاج إلى مسألة تتعلّق بحدّة الاستقطاب الإعلامي بين معسكرين في المنطقة العربية، وانعكاساته على كثير من الرسّامين والكتّاب الذين يعيشون في الإمارات والسعودية، وبعضهم تضامن معي خفية، وتمنوا لي السلامة، وأنا أشكرهم جميعاً، لكن ذلك يستدعي إعادة النظر في الواقع العربي، وأستعيد هنا تجربة "اتحاد رسامي الكاريكاتير العرب" الذي شكّل مظلّة مهمة في الثمانينيات، لكنه انهار بعد حرب الخليج عام 1991، بسبب الانقسام في المواقف السياسية بين أعضائه، ولم يقم حتى اليوم. هناك محاولات في هذا السياق، لإحياء اتحاد قد يخرج إلى النور قريباً رغم صعوبة الأحوال العربية".
يضيف: "أرفض حالة الاستقطاب الحادّ في الإعلام العربي بين معسكرين، وأعتبر نفسي إلى اليوم فناناً مستقلاً لدي رؤية ولا تملي عليّ الصحيفة التي أعمل فيها ما أرسم، وأرفض أيضاً الرسام المسيَّر الذي يتحرّك بـ"الريموت كونترول"، ولا يقنعني ما يرسمه من قباحات وما يبثّه من خطاب كراهية، فلا يعقل أن يكون هناك رسام كاريكاتير يقدّم مثل هذه الرسومات، ويفترض بنا أن نكون أسمى من هذا الانقسام والشرخ القائم بين المحاور في المنطقة".
يصل حجاج إلى خلاصة تبدو قاسية بسبب توقيفه أخيراً، ويعبّر عنها بقوله: "منذ حوالى ثلاثين سنة أعمل في هذه المهنة، وكنت أعتقد أنني فاهم "السيستم"، وأعرف "الحفّة" (الحافة) وأسير عليها، وأظن نفسي كذلك، وطلعت مش فاهم السيستم ولا بعرفه، وهذا كان صادماً لي. ما أتمناه أن أبقى كما أنا دون أن يعاملني أحدهم كمجرم، ويغلّق عليّ الأبواب. فنّي هو فن إنساني ويؤمن بالآخر، ويقدم السخرية الراقية، ويعيد تحليل الواقع كما يحتاجه القارئ العربي، وأنا رسام كاريكاتير يحاول أن يقدّم فناً يغيّر الواقع".
بالعودة إلى تجربته، التي تناول في معظمها الهمّ الأردني قبل أن يركّز في السنوات الأخيرة على الواقع العربي، يبيّن أنه "منذ أن وُلد أبو محجوب عام 1993 في صحيفة "الرأي" الأردنية تنازعني الموضوعان المحلي والإقليمي العربي، وكنت أسير في مسارين، وبقيت أرسم شخصيته بشغفٍ كبير، وكانت تتبناه صحف أردنية، حتى لم يعد من ينشر له عام 2011، الذي مثّل نقطة مفصلية بالنسبة إلي حيث كنّا نتعامل مع واقعنا العربي بعدمية، ونعتقد أن العرب هم خارج التاريخ، لكن بعد أن انطلقت الانتفاضات الشعبية أصبحت معنياً بمصيرنا ومستقبلنا كأمّة ومؤمناً بالتغيير، وكأنني في مظاهرة أرسم لافتات للمتظاهرين وأسير معهم. الربيع العربي كان امتحاناً لجميع رسامي الكاريكاتير العرب، فالسخرية كانت أداة مهمة، بل إن بعض الناس رسم كاريكاتيراته بنفسه، وأفتخر بأنني من قلّة قليلة من الرسامين العرب الناجين، ورسوماتي حاضرة إلى اليوم، وهذا ما غلّب الكاريكاتير السياسي لديّ، وكرّس النمط الذي أرسم به اليوم".
يرى حجاج أن "رسم الكاريكاتير واجه تحدياً كبيراً في "زمن الربيع العربي". لقد تعلّمت من الناس وأنا أشاهدهم في ساحات مصر وسورية يرسمون رسومات عفوية أو يكتبون عبارات بسيطة فيها الكثير من الكاريكاتير، وكنت أسترشد بها وأحوّلها إلى رسم مستنبط من رحم ساحات الاحتجاجات فيه صور الواقع بكلّ تفاصيله، وأصبحت أكثر التحاماً مع الشارع وانسجاماً مع الواقع والناس وهمومهم وأحلامهم. ومع مآلات الانتفاضات، عدنا إلى أجواء سوداوية وسوريالية"، مستدركاً: "المفارقة أن رسام الربيع العربي كان بجدارة الفنان البرازيلي كارلوس لطوف، الذي كانت رسوماته حاضرة ومرفوعة مكبّرة الحجم بيد المحتجين العرب، كان يرسم لحظة بلحظة، وكان يحرص على أن تكون رسوماته في الميادين، وليست على صفحات الجرائد".
ولا يغفل أيضاً أنه استفاد درساً كبيراً من الانتفاضات الشعبية بأن "السوشال الميديا" ساحته الرئيسية، وليست الصحف، مع احترامه لها. لكنه في الوقت نفسه ضدّ رسام "الترند" الذي هيمن على هذه المرحلة، وبات يقدّم رسومات تلاحق الحدث وتغيب عنها المفارقة والدهشة، لا همّ له سوى السبق الصحافي، كذلك فإنه أدرك أن الاشتباك مع الجمهور والمعلّقين مطلوب، لكن لا يعني الامتثال لما يريدونه، وبدأ ينسحب تدريجاً ولا يتابع إلا القليل من التعليقات والرسائل التي تصله، مبيناً بقوله: "لا أستطيع أن أكون حاضراً مع الناس معهم بشكل دائم، وأفسّر ما أرسم وأتواصل معهم بلا معنى ولا غاية".
يختم حجاج حديثه إلى "العربي الجديد"، باستعادة حادثة وقعت معه حين زار الدنمارك: "دعاني هناك رسام كاريكاتير إلى بيته مع مجموعة من الرسامين، ولم أنسَ كيف استقبلنا بحفاوة في الكوخ الذي يعيش فيه مع عائلته معزولاً عن الناس، ويرسم قضايا إنسانية بحتة، ويرسم كما يشاء ومتى شاء. بصراحة، إذا تمنيت أمراً، فإنني أتمنى أن أعيش مثله، وأن أبدع في حالة هدوء واسترخاء ذات يوم، بدلاً من أجواء الشدّ والقلق التي أعيشها الآن".