من الصعب أن نجد توثيقاً يحدّد متى لحّن رياض السنباطي (1906 - 1981) المقطوعة الموسيقية المعروفة بـ"لونغا رياض"، ما يدلّ على أن الملحن المصري ظلّ على هامش التأريخ الموسيقي كلّما ابتعد عن دائرة الضوء الكلثومية، أو على الأقل كلّما ابتعد عن قالب الأغنية.
ما يشدّ الانتباه ليس فقط عنوان المقطوعة ذا النزعة النرجسية، والتي تبدو محبّبة مع شخصية لم يُعرف عنها غرور فني أو سعي وراء الشهرة، ولكن أيضاً لفرادتها الموسيقية. وَضع فيها السنباطي الكثير من جموح الخيال الموسيقي الشرقي، وأظهر أثر الصنعة في التركيب النغمي، وسرد شيئاً من قصّة استرجاع النفس والقدرة على تجاوزها.
المقطوعة، التي تنتمي إلى تفريعة في مقام النهاوند تُدعى "فرح فزا"، تتميّز ببناء مترابط قائم على جمل سريعة من دون أن تخلو من شجنٍ، وقد تحوّلت إلى واحدة من أبرز تحدّيات العازفين، فالنجاح في تنفيذها هو شهادة إتقان في حدّ ذاته.
من "لونغا رياض"، يُمكننا اتخاذ موقع يفتح على جزء كبير من عالم السنباطي. إنها كعمل موسيقي بحت تنتمي إلى الملحّن وحده، ولعلها كُتبت بقصديّة لترسيخ مثل هذا الاستنتاج، حيث يرجَّح وضعها في لحظة من لحظات ابتعاده عن أم كلثوم.
صحيح أن الجزء المعروف من الملحّن المصري هو ما عاشه ضمن مشروع "الست"، وهو جانب لم يخلُ من عبقريةٍ، في استيعاب اتساع مساحات صوتها ومتطلباتها الفنية. لذلك، فإن "لونغا رياض" قد تصلح عليها تسمية "الفلتة" لعدّة أسباب، ولعل هذه الكلمة تختصر الكثير من رياض.
في طفولته، لم يحبّ السنباطي التعليم، لا في الكتاتيب ولا في المدرسة، وقد أسعفه خلل بيولوجي في عينيه كي تنتهي بسرعة حياته المدرسية. كان والده منشداً وعازف عود، فوجد في البيت الأسري فضاء لتعلّم أصول الموسيقى بعيداً عن سلطة المعلمين والأساتذة، فتنمو موهبته بشكل طبيعي وسلس.
يُفسّر الخلل البيولوجي أيضاً عدم اتجاهه، وهو في أوج شهرته كملحن في الأربعينيات إلى الغناء أو السينما (شارك في فيلم يتيم)، ولا إلى أي ظهور في الحياة العامة (ومن بينها حفلات أم كلثوم) كما فعل موسيقيّو جيله مثل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، ما جعله يبدو أقرب إلى عقلية الجيل الذي سبقهم مثل زكريّا أحمد ومحمد القصبجي، سواء في هذا التمشّي أو عند الإجابة عن السؤال الموسيقي الأبرز لتلك المرحلة: "كيف نطوّر الموسيقى العربية؟".
وبينما انهمك تيّارٌ في استلال سبل التطوير من رؤى ومنهجيات موسيقية وافدة من الغرب، في تجارب تراوحت بين الاستيعاب الرصين والانبهار والتجديد الارتجالي، لم يؤمن السنباطي بتوقّف نبع الموسيقى الشرقية.
لقد كان لهذا التحفّظ دورُه في تركُّز تجربة السنباطي وتطويرها على أساس هذه الرؤية. يُذكر هنا تكريم اليونسكو له سنة 1977، فقد جاء في التقرير أنه "الموسيقي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بأية موسيقى أجنبية".
أتاحت مسيرة السنباطي الطويلة التأكّد من مواظبته على منهجيّته، وهي تجربة من الصعب أن نجد لها نظيراً لدى من جايلوه من الموسيقيين ومن لحقوه، كما لا نجد من يضاهيه في هذا التوجّه حتى في مجالات ثقافية أخرى، كالأدب والفكر والعمارة.
في المشهد العام لهذه الثقافة العربية، يأخذ السنباطي موقعاً خاصاً، كونه أبرز من لحّن القصيدة. إذ إنه في ما عدا مُنجزِه، ومنجز عبد الوهاب بدرجة أقل، لم تهضم الأغنية، باعتبارها الشكل الغالب على الموسيقى العربية، القصيدةَ العموديةَ؛ كونها الشكل الغالب على الشعر العربي حتى ذلك العصر.
هنا، تفرّد السنباطي، منتقلاً بين عصور ومناخات الشعر الكلاسيكي؛ من "أراك عصي الدمع" لأبي فراس الحمداني، إلى "أطلال" إبراهيم ناجي، مروراً بـ "رباعيات الخيّام" أو "مصر تتحدث عن نفسها" لحافظ إبراهيم، من دون أن ننسى الألحان التي وضعها لروائع أحمد شوقي.