تشهد العاصمة الليبية هدوءا في كافة أحيائها بعد معارك ضارية خلال الأيام الماضية، بين مليشيات مختلفة الانتماء والولاء، فيما دعت البعثة الأممية، في وقت متأخر ليل أمس، كافة الأطراف المعنية لاجتماع موسع، يوم غد الثلاثاء، لمناقشة الوضع في طرابلس.
وخلال ساعات فجر اليوم، وصلت إلى طرابلس قوة مكافحة الإرهاب، بإمرة العميد محمد الزين، قادمة من مدينة مصراته، بتكليف من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فايز السراج، "للإشراف على ترتيبات وقف إطلاق النار وفض الاشتباك بمناطق جنوب طرابلس وانسحاب كافة القوى المتمركزة بمناطق الاشتباكات".
وقامت القوة، بحسب مصادر حكومية من طرابلس، بالتمركز داخل قاعدة معيتيقة العسكرية القريبة من المقر المؤقت لحكومة الوفاق.
وأكد مصدر في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "القوة ستنسلم قاعدة معيتيقة بالكامل من قوة الردع التي تسيطر عليها منذ سنوات"، لافتا إلى أن القاعدة تتوفر على سجن كبير يحوي قرابة 1300 سجين، منهم عدد من مقاتلي تنظيم "داعش" الذين سلمتهم لقوة الردع قوات "البنيان المرصوص" إبان حربها في سرت على التنظيم، بالإضافة لعدد من أفراد عصابات التهريب والاتجار بالبشر.
وبحسب مراسل "العربي الجديد" الذي تجول في أجزاء العاصمة، صباح اليوم الاثنين، فإن الحياة بدت طبيعية في الأحياء الشمالية البعيدة عن التوتر، بينما لا تزال الأجزاء الغربية الجنوبية والشرقية وأحياء بوسليم وطريق المطار تعيش حالة من الهدوء الحذر، وسط استمرار قفل طرقات رئيسية بسواتر ترابية، وانتشار سيارات مسلحة ومقاتلين من مختلف الفصائل، كما أن المحال التجارية فيها مقفلة وحركة السير خفيفة.
ورغم رشقات قليلة من الرصاص تسمع بين الفينة والأخرى في حي المشروع والرابش على تخوم حي بوسليم، إلا أنها لا تشير إلى وجود قتال.
ولم تتضح صورة الوضع الأمني الحالي، وسط أسئلة تثيرها أوساط ليبية عن أسباب توقف القتال بشكل مفاجئ وغياب تام لأمراء المليشيات السابقة وما يشبه انهيار قواتهم مقابل تقدم سريع لقوات "اللواء السابع"، القادم من ترهونة، وفصائل أخرى قادمة من الزنتان، بالإضافة لاستلام قوة مكافحة الإرهاب القادمة من مصراته لمقار قوة الردع في معيتيقة.
ويعلق الخبير الأمني الليبي، محيي الدين زكري، على الأحداث بالقول "يبدو أن مخططا لقلب الأوضاع الأمنية كان يجري باستحكام طيلة الأيام الماضية ملخصه استبدال مليشيات قائمة بمليشيات أخرى كانت قد خرجت من العاصمة وأعيدت".
ويرى زكري في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "وجود الأمم المتحدة خلال مشهد الأحداث كونها جزءا من خطة أمنية يبدو أن وراءه قرار دولي لاستتباب الأمر لصالح حكومة الوفاق المدعومة دوليا، فالمليشيات السابقة بدت عامل إزعاج كبير لها وأحرجتها أكثر من مرة".
وعن أوضاع المليشيات القائمة في طرابلس، قال "بدأت في التناحر وتصفية فصائل بداخلها منذ فترة بسبب التنافس للسيطرة على المواقع الإدارية والحكومية الحساسة التي تبتز مسؤوليها من أجل عقود بالملايين لصالحها"، مشيرا إلى أن ناقوس الخطر دقته نائبة البعثة الأممية، ستيفاني وليامز، منذ اجتماعها منتصف الشهر الماضي مع رئيس المؤسسة الليبية للاستثمار، الذي جاهر بأن قرار المؤسسة وأوضاعها مرتهنة لأمراء المليشيات في طرابلس.
وتلاها بعد يومين، بيان أممي، هو الأول من نوعه، طالب السراج بكبح جماح أمراء تلك المليشيات الذين "يهددون العمليات التي تضطلع بها أية مؤسسة سيادية".
وعن الفرق بين المليشيات القائمة والقادمة، قال زكري "القادمة كانت أكثر انضباطا وسبب إخراجها كان سياسيا ولم يكن أمنيا، بالإضافة لخضوعها لقرار مناطقها في الزنتان وترهونة ومصراته، وهي مدن تمثل أطرافا ليبية لها علاقة مباشرة بالانتخابات المقبلة وإمكانية إنجاحها أو إفشالها".
وأكد أن ما يجري في كواليس طرابلس لا يمكن الوقوف على تفاصيله، فالحكومة يمكن أن تذهب في اتجاه إنقاذ وضعها الحرج أمام العالم، حتى وإن كان من خلال مواجهات في شكل "حرب ضروس" وفي حقيقتها ربما وسيلة لهرب أمراء المليشيات واختفائهم لتمكينهم من الإفلات من العقاب.
وفيما لفت إلى أن "انهيار قوة المليشيات بهذا الشكل وبهذه السرعة أمر لا يمكن تصوره، فمليشيات ثوار طرابلس قوية بحيث منعت اللواء السابع من دخول طرابلس المرات عديدة فلماذا ضعفت أمامه الآن فقط؟"، تساءل زكري عن خروج السراج بشكل مفاجئ، ليل أمس الأحد، يطالب وزاراته بحصر أضرار الحرب، وكأنه يريد أن يقول إن الأمر انتهى وكانت المواجهات وقتها لا تزال قائمة في بعض المحاور، لنفاجأ بتوقفها بعد إعلانه بساعات وحتى الآن.
وأكد أن ضبط المليشيات القادمة سيكون من خلال دور أممي، وتحديدا من خلال بند الترتيبات الأمنية الذي استبق السراج تمركز المليشيات الجديدة القادمة بالإعلان عنه، مرجحا أن تكون مناقشته هي سبب دعوة البعثة الأممية لاجتماع غد الثلاثاء.
لكن الناشطة السياسية من طرابلس، مروة الشعافي، ترى غير ذلك، واعتبرت أن "السراج فوجئ بهذه الفوضى المسلحة، ومحاولة إدارته للفوضى من خلال عقد هدن واتفاقات لوقف إطلاق النار وفشله مرات، دليل على ذلك"، متسائلة "كيف له الآن أن يقبل بوجود اللواء السابع وقد أعلن أنه لا يتبع له بل ونص على أنه خارج عن القانون؟".
ورجحت الشعافي في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "يمكن أن تكون هناك أطراف دولية وراء هذه الفوضى بقصد إفساد مسار الانتخابات المقبلة التي اقترب موعدها من خلال إعادة المدن المؤثرة سياسيا وعسكريا في غرب البلاد إلى طرابلس، لكن أن يكون ذلك بترتيب من حكومة السراج فهو أمر بعيد"، لافتة إلى أن "السراج لا يمكن أن يضحي بعشرات القتلى والجرحى، وإمكانية انفلات الوضع الأمني في طرابلس من أجل هدف تبقى محل ترجيح".
واعتبرت أن "دخول الأمم المتحدة على خط الأحداث ليس جديدا، فهي التي كونت وفدا للتفاوض مع ترهونة من أجل وقف إطلاق النار، الجمعة الماضي"، مؤكدة أن "دخولها اليوم مجددا ودعوتها للاجتماع سيكون من أجل حث الأطراف الجديدة على الانخراط في الترتيبات الأمنية المنصوص عليها في الاتفاق السياسي".
لكنها تساءلت "من هي القوة التي ستجبر المليشيات الجديدة على التقيد ببنود الترتيبات الأمنية، ولا سيما اللواء السابع الذي لم تعترف به حكومة الوفاق؟ كما أن قوة مكافحة الإرهاب التي طلب منها الإشراف على قاعدة معيتيقة على أن تخرج من طرابلس نهاية الشهر الجاري، من سيحل محلها ويؤمن القاعدة الأهم في طرابلس؟".
لكن كلا من زكري والشعافي متفقان على أن الوضع الراهن والمقبل في طرابلس متوقف على نجاح جهود البعثة الأممية، ولا سيما أن بيانها ليل أمس تخلله تلويح بالتهديد من خلال إشارتها إلى "قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وإلى عرض الأمين العام للأمم المتحدة بالتوسط بين مختلف الفرقاء الليبيين"، بالإضافة إلى الإشارة إلى أن حكومة الوفاق الوطني معترف بها دوليًّا.
وتقول الشعافي إن "السراج الذي اختفى كل أعضاء مجلسه وبقي وحيدا لم يعد يمتلك القوة لفرض قراراته على القادمين بعد انهيار وشيك لمليشياته السابقة وربما انهيارها بالفعل". والسؤال الأبرز هنا: هل ستقبل المليشيات الجديدة، وربما القديمة من ضمنها إن بقيت، بالترتيبات الأمنية التي تهدف إلى حلها وإعادة دمجها في مؤسسات أمنية وعسكرية؟