كان من الصعب أن نحظى بلقاء مع الطبيب الفرنسي المغربي زهير لَهْنا، الذي قلما يستقر في مكان واحد، والذي أدرك منذ البداية، أي قبل عشرين عاماً، أنه لن يشتغل طبيبا عاديا بمرتب، في انتظار تقاعد مريح.
"ثمة شيء أهم من كل هذا، وهو السفر للقاء مرضى مهمشين وفقراء"، لهذا السبب سافر إلى أفغانستان في السنوات الأولى من الألفية الثانية لتكوين طاقم طبّي محلي وجيل من القابلات، خصوصا في المناطق الجبلية التي تصل فيها وفيات الرضع إلى نِسَب مهولة، البعيدة عن اهتمام وزيارات الدولة ووزارة الصحة الأفغانية، إلا حين يتعلق الأمر بالقضايا الحربية.
جال الطبيب زهير لهْنا من أفغانستان إلى أفريقيا ثم الضفة الغربية فقطاع غزة في ذروة العدوان الإسرائيلي، ثم دول الربيع العربي، من مصر إلى سورية ثم لبنان والأردن. ولم ينس بلده المغرب، حيث يجتهد على قدر طاقته، من أجل "فك العزلة الطبية عن العالَم القرويّ". وأسس مستوصفا لمعالجة المهاجرين واللاجئين في الدار البيضاء، ما دفعه إلى المناداة بتأسيس جمعية للأطباء، لكنه اكتشف أن العمل التطوعي لا يزال فكرة غريبة في بلده.
وجّه "العربي الجديد" جملة من الأسئلة للدكتور زهير لَهْنا، أجاب عنها بتلقائية.
أين كنت عند اندلاع الثورة السورية، وماذا فعلت أثناء الثورة؟
اندلعت الثورة السورية في مارس/آذار عام 2011، بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية. كانت في بدايتها ثورة سلمية، إلى أن قام النظام السوري بقتل المتظاهرين فاضطر الشعب إلى الرد باستخدام السلاح. وكان الأطباء السوريون الذين يعالجون ضحايا التظاهرات منذ بداية الثورة، يُعاقبَون من قبل قوات النظام، إذ أن بعضهم قُتل أو ضرب أو اعتقل. وكان الطبيب السوري منذ بداية الثورة مُستهْدَفاً.
وكان أول عمل لي إلى جانب السوريين في 2012 في مخيم الزعتري، حين فتحت أول وحدة صحية للولادات في المستشفى الفرنسي. بعدها عملت في مخيم عين الحلوة في لبنان، مع المُهجَّرين السوريين والفلسطينيين، بالتعاون مع جمعية "تجمع أطباء فلسطين أوروبا". ثم التقيتُ بـ"اتحاد المنظمات الطبية السورية" في فرنسا، وبدأت العمل معهم عام 2014 داخل سورية في تدريب القابلات والطبيبات النسائيات والجرَّاحين على الحالات المستعجلة، في عدة مناطق طبيّة في الشمال السوري، في محافظتي إدلب وحلب. كنا نجري عمليات جراحية، إذ لم يتبقَّ أيّ جرّاح نسائيّ في الشمال السوري، فمعظمهم إمّا لجأ إلى مناطق النظام أو سافر إلى الخارج، نحو تركيا أو ألمانيا وبعض دول الخليج العربي، وأكثريتهم لا يعملون. وهكذا أصبحنا أمام نقص كبير في الطبيبات في الداخل، كما أن أغلبيتهن لم يتخرجن بعد، ويحتجن إلى استشارات.
ما هي طريقة عملك كطبيب؟
أضع الإنسان نصب عيني في كل المحن والحروب. فالمواطن هو الذي يدفع الثمن في الحروب، ولاحظنا ذلك أثناء إجلاء المدنيين عن حلب. فمن بقي في بيته واحتمل إلى أقصى حد، اضْطُرّ في النهاية إلى ركوب الحافلة في الثلج واتجه نحو إدلب. كانت الخيام الباردة بانتظارهم، مليون سوري تقريبا في حالة تشرذم كبير، إن في إدلب أو في 18 منطقة محاصَرة داخل سورية. الحرب طالت، وهي حرب ليست إقليمية فحسب بل عالمية.
بعضهم يتحدث عن "الطب الإنساني"، لكني لا أوافق على هذا المصطلح لأن الطب واجب. والذي يساعدني في شغلي، هو تحدثي باللغة العربية وخبرتي في العمل الإنساني على مدى عشرين عاماً، وهي تجربة كان لا بدّ لي أن أوظفها في أكبر أزمة إنسانية عرفتُها في حياتي ويعرفها العالَم منذ الحرب الكونية الثانية، بل إن ما يتعرض له السوريون أكبر مما جرى في الحرب الكونية الثانية.
ماذا قصدت بقولك إن مساعدة السوريين تتخذ أشكالا أخرى، إضافة إلى مساعدتهم في الداخل أو في دول الجوار؟
صحيح، أسسنا في المغرب مع بعض الأصدقاء مركز استشفاء يستقبل حالات المهاجرات واللاجئات إضافة إلى المغربيات الفقيرات، وبوفر لهن الجراحة في مصحات خاصة. وفي فرنسا أحاول مناداة العائلات الفرنسية من أصول عربية وإسلامية، كي تستقبل العائلات السورية التي لديها أطفال، حتى لا تظلّ في الشارع. ومن واجبنا عرب ومسلمون في بلداننا وفي أوروبا أن نستقبل إخواننا السوريين، الذين هم ضحية حرب فاقت كل ما يتصوره العالم. أمّا حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والأمم المتحدة، فكلها مجرد كلام، لا وجود له في الحقيقة.
ما هو برنامجك المقبل؟
أسافر إلى المغرب كي أتفقد ما أنجزناه في مركز الاستشفاء، إلى جانب ورش تكوين القابلات في الريف والقرى. كما أنتظر اتصالا من اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية (UOSSM) للالتحاق بتركيا ثم سورية. فالشعب السوري دائما في القلب.