لم تُستثن تونس في مسار ثورتها على امتداد السنوات الأربع الماضية، مِمَّا تلجأ إليه كل أطراف الأزمات تاريخياً حول العالم، لناحية الاحتكام إلى طاولة الحوار وتقديم التنازلات والانصياع لإكراهات التفاهمات السياسيّة. لقد استطاعت النخبة السياسيّة عموماً، وبعض الزعامات بشكل خاص، أن تتجنّب في لحظات الأزمات الكبرى، شكل القطيعة التي طغت على المشهد السياسي التونسي ما بعد الثورة، ونجحت بعكس كل بلدان الربيع العربي، في الدخول إلى قاعات الحوار قبل إراقة الدماء.
وفيما كانت البلاد تتجه عقب اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، ومن بعده المناضل محمد البراهمي، إلى سيناريو المواجهة ودوامة العنف، فاجأ "الشيخان"، الرئيس الحالي، زعيم "نداء تونس"، الباجي قائد السبسي وزعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، الأطراف كافة بلقاء باريس التاريخي في العام 2013. وأذاب اللقاء جبل الجليد بينهما ونزع فتيل الأزمة الخانقة، التي عطلت عجلات الدولة وحبست أنفاس التونسيين على امتداد أشهر. ولم يكن عقد هذا اللقاء، وفق ما توضحه مصادر مطلعة لـ "العربي الجديد"، مفاجأة، بل جرى الترتيب له قبل أشهر بين قيادات من "نداء تونس" وقيادات من حركة "النهضة"، أبرزهم وزير الخارجية السابق، صهر الغنوشي، رفيق عبد السلام والقيادي البارز في "النهضة" عامر العريض. جمعت هذه اللقاءات بين ما يمكن أن يمثل الشق الدستوري في "نداء تونس" والتيار القريب من فكر الغنوشي في "النهضة".
تعي هذه القيادات أنّ الخروج من الأزمة يمرّ عبر هذا التقارب الضروري بين الطرفين. وتوضح المصادر ذاتها أنّ السبسي، خلال لقاء باريس، قال للغنوشي بصريح العبارة: "إنّهما معاً وبشكل شخصي سيتحمّلان مسؤوليّة فشل البلاد في الخروج من الأزمة"، معتبراً أنّ "بأيديهما تجنيب البلاد سيناريو الفوضى"، وهو تفكير يبدو أن الغنوشي يؤيده فيه، بدليل النتائج المترتبة عن هذا اللقاء التاريخي.
بعد لقاء باريس، لم تنقطع لقاءات الشيخين، إذ إنّ اتصالات هاتفيّة ولقاءات سريّة جمعت بينهما خلال الفترة الماضية، واستضاف السبسي آخر هذه اللقاءات في منزله، يوم الإثنين الماضي، وفق المصادر التي تشير إلى أنّ البحث تناول "شكل التحالف الحكومي المقبل".
وسبق هذا اللقاء لقاء آخر، ليلة الإعلان عن تكليف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة الجديدة. وتشير المصادر إلى اجتماع آخر بين السبسي والغنوشي خلال بين دورتي الانتخابات الرئاسية، بعد غضب السبسي، ما اعتبره انحياز النهضة للرئيس المنتهية ولايته المنصف المرزوقي. ونجح اللقاء في تخفيف حدّة التوتّر بينهما، بعد التزام "النهضة" بحيادها في الدور الثاني حزبياً ولوجستياً، مع ترك الحريّة لقواعدها. ولا تخفي أطراف عدّة تخوّفها مما أسمته بمحاولة "الراديكاليين" داخل "النداء" و"النهضة" وخارجهما، لمنع حصول هذا التقارب.
ولم تكن لقاءات الشيخين يتيمة على الساحة التونسيّة في إطار التفاهمات الكبرى، إذ شكّلت مؤسسة الحوار الوطني مثالاً بارزاً على قدرة التونسيين على تقديم التنازلات، بعد فرض تشكيل حكومة محايدة يوافق عليها الجميع، وفرض الرباعي الراعي للحوار اقتراح مهدي جمعة على جميع المشاركين، وخصوصاً بعض مكونات العائلة الديمقراطية التي رفضت في البداية هذا الاقتراح بوصفه اقتراح "النهضة". وتمكّن الرباعي من إقناع الجميع بقبول القرار بعد أشهر عصيبة من الانتظار، كادت بدورها تعيد الجميع إلى سيناريو المواجهة، الذي عرفته ساحة باردو عندما كان أنصار الفريقين يتواجهون بالشعارات على امتداد أيام مقابل المجلس التأسيسي.
ومهّد الحوار الوطني للمصادقة على الدستور بعد خلافات كبيرة ودرجة احتقان عالية، أبرزت اختلاف التونسيين حول نمط عيشهم وتقسيمهم بين علمانيين وإسلاميين وحداثيين ورجعيين، وأخيراً بين شمال وجنوب، على خلفيّة نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسيّة. وجاء اجتياز المرحلة الأخيرة نتاج تفاهم هام بين المرزوقي والسبسي، عكس حالة من الإصرار السياسي على تكييف التونسيين على مبدأ التداول السلمي للسلطة. ويُعدّ التشكيل الحكومي الجديد اختباراً جديداً لمنطق التفاهمات، من شأنه أن يودي للمرّة الأولى إلى تحالف إسلامي حداثي، يراه البعض مستحيلاً، فيما يحاول الطرفان المعنيان به، إثبات إمكانيته على أرض الواقع، بما ينهي سنوات طويلة من سيطرة الفكرة المناقضة.