تونس.. وسقطت الأكاذيب الثلاث

13 يناير 2015
تقييم ما حصل في تونس يحتاج إلى نظرة موضوعية
+ الخط -


في الذكرى الرابعة للثورة التونسية يستمر الخلاف بين التونسيين حول ما عاشوه، هل هو ثورة حقيقية، أم انقلاب خفي، أم انتفاضة عفوية، أم حلم سرعان ما تبخر؟ 

ولعل أكثر من يطرح هذه الأسئلة هم المثقفون، بحكم نزوعهم المستمر نحو مراجعة المفاهيم، وتدقيق المصطلحات حتى تتطابق مع الوقائع.
هذا الجدل مرشح ليستمر لسنوات طويلة، وربما يحسمه المؤرخون في يوم من الأيام، عندما يحاولون فهم الكيفية التي انتقلت بها البلاد من 14 يناير/كانون الثاني 2011 إلى ما بعد ذلك التاريخ.

وإلى أن يتم التوصل إلى توصيف جماعي لما حدث، لا يمكن أن يختلف اثنان حول التسليم بأن تونس تغيرت عما كانت عليه في عهد الرئيس السابق.
وإذا كان هناك نقاش مفيد يمكن قياسه في هذه المرحلة، سيتعلق بالضرورة بحجم هذا التغيير وتحديد مجالاته، ومقارنته بما كان عليه الأمر سابقاً، وكذلك بحالات أخرى سواء أكانت متزامنة معه أو تشبهه في دول مرت بذات التجربة.

​غالباً ما تنسى الشعوب أنها هي التي تصنع تاريخها. ولهذا ترى الكثير منها لا تحسن تقييم ما تنجزه، وتقلل من شأنه، وتشكك فيه أحياناً، وترتد عليه أحياناً أخرى. قد تخونها الذاكرة في بعض الحالات، وقد تحاصرها صعوبات اللحظة فتنسى بسرعة أن التغييرات العميقة تحتاج في كل مكان وفي كل زمان إلى عامل الوقت. وعندما يتم تغييب ذلك، يحن كثيرون إلى الجلاد القديم يذكرون أيامه بكل أسف عندما كان يحرمهم من حقهم في الحرية والكرامة والمساواة، مقابل أمن زائف وتوزيع غير عادل للثروة، لكنه نجح نسبياً في إخفاء الفوارق بطريقة ذكية امتصت حالات الانفجار التي أطلت برؤوسها في أكثر من مناسبة.

​من مظاهر التغيير التي حصلت سقوط ثلاث أكاذيب هيمنت على الثقافة السياسية، وصدّقها الجزء الأكبر من الشعب التونسي.

​أولى هذه الأكاذيب هي القول بأن الشعب التونسي، كبقية الشعوب العربية، غير ناضج للديمقراطية. وقد كان يقال بأن التعددية الحزبية ستؤدي إلى تفتيت المجتمع، وتغذية الفتنة، والعودة بالتونسيين إلى الانقسام القبلي والمناطقي. وكان يقال دائماً بأن التونسيين في حاجة إلى رجل قوي يقودهم إلى بر الأمان باعتباره المهدي أو الحكيم أو الأب أو صاحب الشوكة الذي تغفر أخطاؤه وخطاياه مقابل كونه الضامن للوحدة وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار والتقدم.

​جاءت مرحلة ما بعد 14 يناير/كانون الثاني لتثبت بعد أربع سنوات أن الشعب التونسي لم يتفرق كما كان يوهم به السابقون، ولم تسده الفوضى، ولم يصبح في غياب "القائد الأوحد" مائدة للحيتان الكبيرة المحلية منها والخارجية.
لقد حمى الشعب مصالحه منذ الأيام الأولى للفراغ الذي خلفه وراءه الدكتاتور بطريقة مذهلة عبر من خلالها عن المخزون الذي يتمتع به من تسامح وتعلق بالوطن، ثم تم سد الشغور بشكل دستوري، ثم رضي الشعب مؤقتاً بحكومة حققت استمرارية الدولة، ثم عقبتها حكومة لم تكن متوقعة قادتها شخصية قادمة من الماضي البعيد، ثم تشكلت هيئة موسعة خلفت البرلمان السابق الذي تم حله وشكلت محضناً للقوى الجديدة من سياسيين ومجتمع مدني، ثم نظمت انتخابات كشفت عن نضج مجتمعي نادر رغم غياب سوابق في المجال الديمقراطي، ثم تشكلت حكومة ائتلافية هي الأولى من نوعها، ثم انهارت هذه الحكومة وسلمت السلطة بدون حرب رغم أنه كان بالإمكان أن تتمسك بمواقعها لفترة أطول، ثم تم الإجماع على دستور رحب به العالم بدون استثناء، وأخيراً نظمت انتخابات تشريعية ورئاسية تحت رقابة دولية غير مسبوقة في كامل المنطقة العربية. كل هذا ألا يعكس دليلاً على أن الشعب التونسي ناضج للديمقراطية، وأن أصل البلوى وحقيقة المناورة أن الذين كانوا يحكمونه هم الذين لم يكونوا ناضجين لممارسة الديمقراطية لأنهم لم يكونوا ديمقراطيين.

​كما سقطت الأكذوبة الثانية، والتي كان يروجها الكثيرون وفي مقدمتهم أجهزة النظام السابق. كانوا يقولون بأنه في غياب الدولة القوية ممثلة في صاحب الشوكة ستتوفر الفرصة للإسلاميين باعتبارهم القوة الأكثر تنظيماً للسيطرة على الدولة وتخريب إنجازاتها وإقامة سلطتهم الدينية الظلامية والدكتاتورية. لقد تحولت ورقة التخويف من الإسلاميين إلى جزء من استراتيجية احتكار السلطة وإطالة عمر الدكتاتورية.

​حدث التغيير، وصدق الذين تنبأوا بأن الفراغ السياسي سيكون في صالح الإسلاميين، لكن هؤلاء لم يهجموا على المؤسسات ولم يفكوها، وإنما خضعوا لقواعد اللعبة الديمقراطية، واحتكموا لصندوق الاقتراع، وفازوا بأغلب مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، وسارعوا نحو خوض تجربة الحكم قبل أن تكون لهم برامج في مستوى المرحلة، وارتكبوا أخطاء فادحة، وفشلوا في حسن إدارة السلطة، فتوسعت جبهة المناهضين لهم، مما اضطرهم للاحتكام إلى الحوار الوطني من جهة، والرجوع للشعب من جهة أخرى.
تم ذلك في كنف الهدوء، فعاقبهم الشعب، ورضوا بحكمه، وتغيرت بذلك المعادلة السياسية في البلاد. وهكذا نجحت الديمقراطية، ولم يجد التونسيون أنفسهم أمام حركة متعطشة للدم ومصرة على السلطة مهما كلفها ذلك من ثمن. لقد نجح التونسيون في ترويض جزء من إسلامييهم، وبذلك انتصرت الخصوصية التونسية على مشروع العولمة العقائدية التي لا تزال تطرق أبواب تونس بعنف من خلال محاولات "السلفية الراديكالية" التي لم تجد إلى حد الآن أرضاً خصبة للقضاء على الدولة الوطنية وتحويل تونس إلى مجرد إمارة.

​أما الأكذوبة الثالثة التي كشفت الثورة عن بطلانها، والتي يقول أصحابها بأن الغرب لن يسمح لديمقراطية ناشئة في تونس بأن تزدهر ويصلب عودها. جاء التغيير الذي حصل ليؤكد أن الغرب ليست له استراتيجية واحدة، وأن مصالحه الحيوية تبقى هي المحدد قبل مبادئه وحساباته الضيقة والظرفية. لا يوجد أي دليل على أن الغرب يعمل على عرقلة التحول الديمقراطي في تونس. على العكس من ذلك تمتع المسار الانتقالي في تونس بدعم ملموس من قبل كبرى الدول الغربية. بل أصبحت تونس نموذجاً يتم الاستناد إليه عالمياً للقول بأن الديمقراطية ممكنة في العالم العربي.

​الخلاصة أن تقييم ما حصل في تونس بعد أربع سنوات يحتاج إلى نظرة موضوعية وشاملة. قد يكون الذي حصل ليس ثورة، أو هو ثورة غير مكتملة أو مفتوحة على أكثر من احتمال، أو ربما انتفاضة رجت المنظومة القديمة. لكن ما حدث خلال هذه الفترة أمر ليس بسيطاً، فتحقيق التداول السلمي على السلطة محطة تاريخية ضخمة، فلا تقللوا من شأن هذه الذكرى، وركزوا على المستقبل الذي يستوجب العمل على تجسيد التنمية والعدالة الاجتماعية وبناء الديمقراطية المحلية.