عرفت الثورة التونسيّة خلال سنواتها الأربع الماضية، جملة من الأحداث المتلاحقة التي هدّدتها في كلّ مرة، منذرة بالانحراف بها إلى مربّع المواجهات الشعبيّة وربّما إلى مصير مشابه لما شهدته دول الربيع العربي، على غرار سورية وليبيا واليمن ومصر. لكنّ التونسيين ولأسباب عدة، تمكّنوا في كل مرة من إدراك اللحظة الأخيرة الحاسمة، واستنباط حلول مكّنتهم من تفادي السيناريوهات الكارثيّة والنجاح في تأسيس مؤسّساتهم الدستوريّة الحامية للديمقراطيّة الوليدة، في ما بات يُعرف بـ "الاستثناء التونسي".
لم تُتح الأحداث المتلاحقة منذ 14 يناير/كانون الثاني 2011، للتونسيين التقاط أنفاسهم. وبعد أولى لحظات انهيار النظام القديم وانحلال المنظومة الأمنيّة، وما رافق ذلك من أحداث عنف عُرفت بـ"موجة القنّاصة"، مع انتشار قنّاصة استهدفوا التونسيين، من دون كشف هوياتهم حتّى اليوم، انتظم التونسيون في مجموعات تلقائية، تشكّلت في المدن لحماية الأحياء والمساكن.
واتفقت هذه المجموعات من شمال البلاد حتى جنوبها، على لباس يوحّد عناصرها، فيما انخرطت العائلات في السهر على راحة الشباب المتطوّعين وتوفير ظروف الرقابة المريحة لهم، ما ساهم بتسريع استتباب الأمن واستعادة الشرطة والجيش سريعاً لمهامهما. ويشير عدد من المراقبين إلى أنّ هذه اللحظة كانت حاسمة في الحفاظ على الحد الأدنى من الامن الذي مكن من الالتفات سريعاً إلى الضرورات السياسيّة الملحّة التي كانت مطروحة على التونسيين وقتها.
منذ لحظات الثورة الأولى، أدرك الشباب التونسي، في حالة من ذهول الساسة والأحزاب، أنّ حماية ثورتهم تنطلق من مقرّ الحكومة في حي القصبة الشهير في المدينة العتيقة، لتشكيل حكومة تمكّنهم من الاطمئنان على عدم الانقلاب عليهم والارتداد على الثورة. انتظم اعتصام "القصبة 1" واعتصام "القصبة 2"، الذي أطاح بحكومة محمد الغنوشي، وتعيين حكومة الباجي قايد السبسي التي أقصت وجوه النظام القديم. ولم يكن اعتصام القصبة ليمر من دون مواجهات بين الشباب التونسي الذي سارع إلى حماية ثورته، وبين قوات الأمن، ما أسفر عن سقوط عدد من الضحايا.
ولعلّ من أبرز إنجازات الثورة في لحظاتها الأولى، تعيين "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي"، التي ترأسها عياض بن عاشور، وضمّت وجوهاً من الطيف السياسي التونسي بكل تعبيراته وشخصيات حقوقيّة وثقافيّة شكّلت رمزاً لمواجهة الديكتاتورية.
نجحت تونس بعد ذلك، في انجاز أول انتخابات حرة، أسفرت عن ولادة المجلس الوطني التأسيسي، الذي كُلف بكتابة الدستور، وانتخب أوّل حكومة منتخبة، قادتها حركة "النهضة" فيما عرف بعد ذلك بحكومة الترويكا مع حزبي التكتل والمؤتمر. وترأس الحكومة القيادي النهضوي حمادي الجبالي، قبل انتخاب المنصف المرزوقي رئيساً للبلاد.
ومع بدء النقاش في تونس حول أولويات الثورة وكتابة الدستور وانشاء المؤسّسات والشروع في حلّ المشاكل المتراكمة، جاء اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد ليضع البلاد على فوهة بركان. وفي ردة فعل شعبية، خرج مئات الآلاف من المواطنين في كامل أرجاء البلاد احتجاجاً، لتشهد تونس لحظة من أدقّ لحظاتها، وكادت تقودها إلى مواجهات حقيقية، أشبه بسيناريو ليبي، لكنّ الجبالي بادر إلى استقالة حكومته وطالب بتعيين حكومة مستقلة، قابلها رفض النهضة وحليفيها للاقتراح. بعدها، شكّل علي العريض حكومته من حركة النهضة أيضاً، ليعود الاستقرار النسبي إلى البلاد ويستأنف المجلس التأسيسي عمله من جديد.
ومع تنامي المجموعات الدينيّة واحتمائها بالجبال في الغرب التونسي، على الحدود مع الجزائر، شهدت تونس جملة من أحداث العنف المتفرّقة، ليشكّل اغتيال النائب في المجلس التأسيسي، المناضل اليساري محمد البراهمي، القطرة التي أفاضت كأس صبر التونسيين، على ما اعتبروه تراخي الدولة في مواجهة الإرهابيين.
بعد ذلك، أبصرت النور جبهة الإنقاذ، التي ضمّت كل القوى المعارضة للترويكا، في ما سُمّي "اعتصام الرحيل"، أمام المجلس التأسيسي، مطالبة بحلّ حكومة الترويكا، وتعالت أصوات أخرى مطالبة بحلّ التأسيسي نفسِه، في سيناريو رآه البعض شبيهاً بالسيناريو المصري. وأفضت "الحكمة التونسيّة"، كما يحلو للبعض تسميتها، إلى اختراع مؤسّسة جديدة، هي مؤسسة "الحوار التونسي"، التي ضمّت اتحاد الشغل وغريمه التقليدي، نقابة رجال الأعمال، بالإضافة إلى هيئتي المحامين وحقوق الانسان.
واجتمع الطيف السياسي كلّه تحت قبّة الحوار، على الرغم من الاحتقان الشديد الذي كان معروفاً بين النهضة واتحاد الشغل، وأفضى الحوار إلى استقالة حكومة العريض وتعيين حكومة مستقلة، تولتها شخصيّة غير معروفة، هي شخصية المهدي جمعة، الذي قاد البلاد إلى أول انتخابات حرة لمجلس نواب الشعب وأول انتخابات مباشرة لرئيس الجمهورية الثانية. واستمر المجلس التأسيسي التونسي في عمله، وأنجز كتابة الدستور التونسي بروح توافقيّة عالية، بأغلبيّة ساحقة، عكست يوم المصادقة عليه، حالة من التآلف السياسي الداخلي على الرغم من الاحتقان السابق.
ولم تهنأ حكومة جمعة بدورها، إذ عرفت لحظات صعبة للغاية في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي من ناحية، وتحرّك مجموعات متشددة ضربت بقوة، مع اغتيال 14 جندياً، ما هدّد تنظيم الانتخابات الرئاسيّة، خصوصاً لدى اعلان هذه المجموعات استهدافها المسار الديمقراطي برمته، من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من هذه المخاوف الكبيرة، تمّ تنظيم الانتخابات الرئاسية التي شهد دورها الثاني تنافساً كبيراً بين المرشحيْن، الرئيس الحالي، الباجي قايد السبسي، والرئيس المنتهية ولايته، المنصف المرزوقي. وأسفر التنافس عن حالة من التشنج الكبير والاحتقان بين أنصارهما، في وقت شهدت فيه بعض مدن الجنوب التونسي احتجاجات مباشرة بعد الاعلان عن فوز السبسي. وأثارت هذه الاحتجاجات مجدداً، المخاوف من تقسيم البلاد بين شمال صوّت للسبسي، وجنوب صوّت ضدّه، لكنّ المرزوقي توجّه مباشرة الى أنصاره وطالبهم بالهدوء وتقبّل النتائج احتراماً للعبة الديمقراطية. وتمّ تسليم السلطة سلمياً بين الرئيسين في مشهد حضاري أمام باب القصر الرئاسي. ووضع ذلك حجراً جديداً في الممارسة الديمقراطية التونسية الوليدة.
وعلى الرغم من المخاوف التي أبداها البعض، من فوز "نداء تونس" في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، وما قد يعكسه ذلك من عودة النظام القديم والمخاوف من تهديد الحرّيات، فإن الطبقة السياسيّة بكل مكوّناتها وأحزابها وتشكيلاتها المدنية وشخصيّاتها البارزة، تقبّلت نتائج الانتخابات ودعت إلى احترامها وتهنئة الفائزين، بعين مراقبة وتتبّع لكلّ انحراف ممكن.
وتعيش تونس هذه الأيام، على إيقاع امتحان جديد بين قطبيْ الأمس اللدودين "حركة النهضة" و"نداء تونس"، في مشهد تحالف حكوميّ، قد يفضي إلى خارطة سياسيّة جديدة، ما يعني أنّ امتحانات الثورة التونسية تتلاحق ولا تنتهي أبداً.