07 نوفمبر 2024
شكوى محمود درويش
سمعت، قبل سنوات، محمود درويش، رحمه الله، يتحدث في لقاء تلفزيوني جمعه مع مجموعة من الشعراء، اتّفق أنهم لا يكتبون سوى قصيدة النثر، شاكياً من أنه صار من وجهة نظرهم "شاعر تفعيلة"، بدلاً من أن يكون شاعراً فقط. وهي شكوى منطقية جداً، تشير إلى أن كثيرين ممّن اختاروا قصيدة النثر خياراً شعرياً أوحد بالنسبة لهم يرونها القصيدة الوحيدة، ويرون شاعرها الشاعر الوحيد، وكل مَن لا يكتبها، أو يفضّل قصيدة التفعيلة، أو القصيدة العمودية عليها، مثلاً، حتى وإنْ كان متذوّقاً لها، ومعجباً بتجلياتها الجميلة، لا يمكن أن يكون شاعراً حداثياً.
ويبدو أن شعور درويش بالمرارة تجاه كثيرين من شعراء قصيدة النثر، وليس من القصيدة ذاتها، ظلّ عالقاً في حلقه، وتسرّب منه القليل في بعض لقاءاته الصحافية، منها مؤتمر صحافي عقده بعد ذلك اللقاء التلفزيوني بسنوات، في تونس على هامش آخر أمسياته هناك، فقد صرح أن "الشعر العربي الحديث مصاب بالتكرار والتشابه، حتى نظن، أحياناً، أن المؤلف واحد، وأن المتنبي العظيم ما زال أكثر حياة ومعاصرة وحداثة منكم أيها الشعراء"!
لكن درويش، الغاضب، عاد بعد أيام، وصحّح بعضاً ممّا جاء في تلك التصريحات، مخفّفاً من وقعها على الشعراء المعنيين ممّن رأوا فيها قدحاً بمنجزات قصيدة النثر العربية، ما جعلهم يشنّون هجوماً "مضاداً" عليه. وخلقت تلك التصريحات المتبادلة يومها جواً صحافياً مثالياً لتداول ما حدث، والتعليق عليه، كما فعلت أسبوعية "الأهرام العربي" التي أثارت القضية، ووجهت حولها أسئلة لبعض المهتمين، ومنهم كاتبة هذه السطور. وقد أجبت على تلك الاسئلة المهمة، موافِقةً محمود درويش في كل ما ذهب إليه، كما ورد في تصحيحه.
يومها ذكرتُ أن درويش، الذي يقول في إحدى قصائده الجميلة: "أحبّ من الشعر عفوية النثر"، في ما يشبه رأيا عفوياً له بقصيدة النثر خياراً من خيارات متعددة لحداثة الشعرية العربية، أنه لا يقصد، كما فهمت، أن يقدح بقصيدة النثر أو بشعرائها مثلاً، لكنه يحاول أن يقول إنها إحدى تجليات القصيدة العربية الراهنة، وليست القصيدة الوحيدة. فلا يمكن لمنطق الإلغاء أن يكون سائداً في فضاء الشعر، ولا يمكن أن نؤمن بأن هناك قصيدة قادرة على إلغاء قصيدة أخرى، وأن أسلوباً يمكن أن يسود على حساب أسلوب آخر، وخصوصاً أن الشعر أحد أكثر الفنون قدرة على التحاور والتجاور.
لكن هذا لا يمنع من أن يكون لكل عصر لغته وأدواته وفنونه وأساليبه في الكتابة أيضاً. وإذا كانت القصيدة العمودية لم تستطع الصمود كثيراً في راهننا، كما يرى بعضهم، فهذا لا يعني أنها قاصرة فنياً، بقدر ما يعني أن الشعر يجدد نفسه دائماً. وإذا كانت قصيدة التفعيلة قد سادت سنوات طويلة، وها هي قصيدة النثر تنتشر بشكل أفقي كبير الآن، فلا يعني ذلك أنهما سدرة المنتهى الشعرية، بقدر ما يعني أن المستقبل مفتوح دائماً على اقتراحات شعرية جديدة ومبتكرة. وهذه مهمة الشعراء دائماً، حيث التجاوز والتجدد هما الضرورة الأساسية التي تعطي للقصيدة الجديدة، أيّ قصيدة جديدة، شرعيتها الإبداعية.
ولعلّنا لا نأتي بجديد، عندما نقول إن القصيدة الحقيقية لا تموت أبداً، فالقصيدة الكلاسيكية إن لم تجد الآن سوى قلّة ممّن يكتبها بفنية عالية مثلاً، فذلك لا يعني أننا لا نتذوّق ما أُنتج من نسخ رائعة منها، على مدى تاريخنا الشعري الطويل. وهكذا الأمر بالنسبة لقصيدتي التفعيلة والنثر أيضاً، خصوصاً إذا ما تعاملنا مع كل قصيدة وفقاً لظروف عصرها. طبعاً، نستخدم، في هذا المقال، مثل هذه المصطلحات التصنيفية، مثل "قصيدة التفعيلة"، و"قصيدة النثر"، و"شعراء النثر".. إلخ، توضيحاً لأي لبس محتمل فقط، فرأيي دائماً أن الشاعر الحقيقي شاعر وحسب، وبلا أي تصنيف، والقصيدة الحقيقية قصيدة وحسب، وفوق كل تصنيف.
ويبدو أن شعور درويش بالمرارة تجاه كثيرين من شعراء قصيدة النثر، وليس من القصيدة ذاتها، ظلّ عالقاً في حلقه، وتسرّب منه القليل في بعض لقاءاته الصحافية، منها مؤتمر صحافي عقده بعد ذلك اللقاء التلفزيوني بسنوات، في تونس على هامش آخر أمسياته هناك، فقد صرح أن "الشعر العربي الحديث مصاب بالتكرار والتشابه، حتى نظن، أحياناً، أن المؤلف واحد، وأن المتنبي العظيم ما زال أكثر حياة ومعاصرة وحداثة منكم أيها الشعراء"!
لكن درويش، الغاضب، عاد بعد أيام، وصحّح بعضاً ممّا جاء في تلك التصريحات، مخفّفاً من وقعها على الشعراء المعنيين ممّن رأوا فيها قدحاً بمنجزات قصيدة النثر العربية، ما جعلهم يشنّون هجوماً "مضاداً" عليه. وخلقت تلك التصريحات المتبادلة يومها جواً صحافياً مثالياً لتداول ما حدث، والتعليق عليه، كما فعلت أسبوعية "الأهرام العربي" التي أثارت القضية، ووجهت حولها أسئلة لبعض المهتمين، ومنهم كاتبة هذه السطور. وقد أجبت على تلك الاسئلة المهمة، موافِقةً محمود درويش في كل ما ذهب إليه، كما ورد في تصحيحه.
يومها ذكرتُ أن درويش، الذي يقول في إحدى قصائده الجميلة: "أحبّ من الشعر عفوية النثر"، في ما يشبه رأيا عفوياً له بقصيدة النثر خياراً من خيارات متعددة لحداثة الشعرية العربية، أنه لا يقصد، كما فهمت، أن يقدح بقصيدة النثر أو بشعرائها مثلاً، لكنه يحاول أن يقول إنها إحدى تجليات القصيدة العربية الراهنة، وليست القصيدة الوحيدة. فلا يمكن لمنطق الإلغاء أن يكون سائداً في فضاء الشعر، ولا يمكن أن نؤمن بأن هناك قصيدة قادرة على إلغاء قصيدة أخرى، وأن أسلوباً يمكن أن يسود على حساب أسلوب آخر، وخصوصاً أن الشعر أحد أكثر الفنون قدرة على التحاور والتجاور.
لكن هذا لا يمنع من أن يكون لكل عصر لغته وأدواته وفنونه وأساليبه في الكتابة أيضاً. وإذا كانت القصيدة العمودية لم تستطع الصمود كثيراً في راهننا، كما يرى بعضهم، فهذا لا يعني أنها قاصرة فنياً، بقدر ما يعني أن الشعر يجدد نفسه دائماً. وإذا كانت قصيدة التفعيلة قد سادت سنوات طويلة، وها هي قصيدة النثر تنتشر بشكل أفقي كبير الآن، فلا يعني ذلك أنهما سدرة المنتهى الشعرية، بقدر ما يعني أن المستقبل مفتوح دائماً على اقتراحات شعرية جديدة ومبتكرة. وهذه مهمة الشعراء دائماً، حيث التجاوز والتجدد هما الضرورة الأساسية التي تعطي للقصيدة الجديدة، أيّ قصيدة جديدة، شرعيتها الإبداعية.
ولعلّنا لا نأتي بجديد، عندما نقول إن القصيدة الحقيقية لا تموت أبداً، فالقصيدة الكلاسيكية إن لم تجد الآن سوى قلّة ممّن يكتبها بفنية عالية مثلاً، فذلك لا يعني أننا لا نتذوّق ما أُنتج من نسخ رائعة منها، على مدى تاريخنا الشعري الطويل. وهكذا الأمر بالنسبة لقصيدتي التفعيلة والنثر أيضاً، خصوصاً إذا ما تعاملنا مع كل قصيدة وفقاً لظروف عصرها. طبعاً، نستخدم، في هذا المقال، مثل هذه المصطلحات التصنيفية، مثل "قصيدة التفعيلة"، و"قصيدة النثر"، و"شعراء النثر".. إلخ، توضيحاً لأي لبس محتمل فقط، فرأيي دائماً أن الشاعر الحقيقي شاعر وحسب، وبلا أي تصنيف، والقصيدة الحقيقية قصيدة وحسب، وفوق كل تصنيف.