شكراً، جان ماري لوبان
كان جان ماري لوبان الذي ظهر نجمه في السبعينيات في فرنسا، زعيماً لحزب يميني متطرفاً، مدعاة خجل لمجموع السياسيين الفرنسيين الذين كانوا يأبون التعامل معه، أو حتى التعليق على مواقفه وتصريحاته، معتبرين أنه يشكل حالة شاذة، لا قاعدة شعبية حقيقية لها، في المجتمع الفرنسي. ثم، في الثمانينات والتسعينيات، أصبح جان ماري لوبان طرفاً حاضراً في الحياة السياسية الفرنسية، يغازله اليمين لاستمالة ناخبيه المتزايدين والمتشكلين من الفرنسيين المتململين والمتذبذبين من إفلاس كل طروحات اليسار الفرنسي، أو يتبرّأ منه اليسار ليستميل ناخبي اليمين الوسطيين، ورثة أفكار ديغول ونهجه، الذين يدينون طروحات اليمين المتطرف، أو لا يوافقون عليها.
عام 2002، استفاق الفرنسيون على كابوس، حين اكتشفوا أن لوبان مرشحهم الثاني في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. لوبان وجهاً لوجه مع جاك شيراك! "المنبوذ" الذي يتبرّأ منه الجميع، المعادي للسامية وصاحب التصريحات النارية المستفزة الصادمة التي يندى لها الجبين، أصبح على عتبة قصر الإليزيه! لم يحتمل الفرنسيون هذي الصورة عن أنفسهم، فانتخبوا شيراك شبه مجمعين، وكأنهم بذلك يدافعون عن دولتهم/الأمة، وما أورثته لهم وللحضارة العالمية من قيم أنتجها عصر الأنوار والثورة الفرنسية.
الرجل الذي ترأس حزبه من عام 1972 إلى عام 2011، يهرم، فيما تفطن ابنته إلى اللحظة الثمينة التي على أحدهم استغلالها. لقد انكسر حاجز ما في نفوس الفرنسيين، وإن كانت ألسنتهم تقول عكس ذلك، ولا بد من خطوةٍ مقابلةٍ يقوم بها الحزب تجاه ناخبيه الفعليين والمحتملين، المعلنين والمختبئين. تصعد مارين لوبان إلى المنصة، وتستلم من أبيها زعامة الحزب، لتكون هي الصورة الجديدة، الأخرى، النقيضة، لما كان. فهي أولاً امرأة، وثانياً شقراء وعلى حد أدنى من حسن المظهر، وثالثاً شابة في مقياس السياسة، ورابعاً هي تستخدم لغة سياسية، جريئة وغير خشبية، لكنها، على خلاف أبيها، تعرف كيف تدوّر الزوايا، وتلعب في ملعب الكبار.
الأهم من هذا كله أن مارين لوبان فهمت أن معاداة اليهود ليست عملة رابحة، ولن تعود عليها سوى بالوبال، فلا بأس من استبدالها بكراهيةٍ مبطنة أخرى، موجّهة إلى الأجانب، العرب والمسلمين منهم، على وجه الخصوص. لاحقاً، بعد سنوات، سيصعد نجم الحفيدة، ماريون مارشال لوبان، التي أصبحت، عام 2012، أصغر نائبة في تاريخ الجمهورية (22 عاماً)، والتي أظهر استفتاء أخيراً أن %40 من الشعب الفرنسي ينظر إليها بشكل إيجابي.
هللوليا، لقد أصبح للحزب هيئة "طبيعية"، على شاكلة الأحزاب الأخرى. الآن، وقد استلمته مارين، وحسّنت صورته، وقد ظهر فيه جيل جديد واعد تمثله ماريون. لولا أن الوالد "العزيز" عاد إلى الحلبة مجدداً، لينفخ في البوق، مردداً كل ما سعت الابنة، خلال أربع سنوات، إلى محوه ورميه في غياهب النسيان. فها هو يكرر تصريحاته حول غرف الغاز النازية، معتبراً أنها مجرد "تفصيل" في تاريخ الحرب العالمية الثانية، ويدافع عن المارشال بيتان المتعاون مع ألمانيا النازية، والذي تعتبره الأكثرية وصمة عار في التاريخ الفرنسي.
قصارى القول إن الحرب المفتوحة التي شنتها مارين لوبان على والدها، وإعلانها عن المباشرة بإجراء تأديبي بحقه، مع دعوته إلى اعتزال العمل السياسي، ما هما إلا دليل على ما يمثله ذلك من خطر إرجاعها، وحزبها، سنوات ضوئية إلى الوراء.
الابنة ترث الحزب عن الأب، وتعيد هيكلته بأن تسمي له عدواً آخر غير اليهود، والأب يخرّب عمل الابنة، ويعيد الحزب إلى حقيقته، حيث "فرنسا هي فقط للفرنسيين". الابنة تزيّن وتجمّل وتلمّع، وتكاد تنجح في جعل الفرنسيين ينسون ما كان، والأب يعيد الأمور إلى نصابها، فيزيل عنها الطلاء وغلاف "السوية". فشكرا لك جان ماري لوبان، وليطل الله في عمرك، ويزيدك صحة وفصاحة وطلاقة لسان!