وصلنا سريعاً إلى المطعم، لم ندخله. جلسنا إلى طاولة في الخارج، حيث الشمس والناس، البرودة والدفء وهواء خفيف في الأجواء. بعد ساعة كنّا نشرب فنجان القهوة وقد رُفعت صحون البرغر عن الطاولة.
ساعة أمضينا معظمها في حديث بدأته ريما حين سألتني إن كنت أحبّ زيارة حيفا يوماً، كأنها تتابع حديثنا الصّباحي، ملحقةً سؤالها بالتعليق بأنّها ترغب في ترك المدينة، في البقاء هنا في باريس، محاولةً، كما بدا، أن تخفّف عنّي وطأة الإجابة، وطأة كلمة نعم التي توقّعتْها منّي، وطأة أن أتمنى أمامها زيارة المدينة التي أتت منها، أن تُفهمني بأنّ أهل المدينة أنفسهم يرغبون في الخروج منها، وأنّها هي واحدة من أهلها، وأنّي، كغريب عن المدينة وأهلها، أحمل رغبة معاكسة، لا تشبه رغباتهم، وذلك لسبب واحد هو أنّي لست منهم، أني لا أعرف المدينة عن قرب، أو لا أعرفها بالمرّة، ولو عرفتها لما كنت سأتمنى زيارتها، أو العودة إليها.
لم أقل "نعم". لم أجب فوراً على سؤالها، لا أدري إن كانت طبيعة السؤال أم تردّدي في الإجابة هو ما جعل ثلاثتهنّ ينظرن إليّ: شارلوت متأمّلةً أن لا يكون السؤال قد ضايقني، وريما منتظرة أن أجيبها بنعم كي تكمل مناظرتها وقد تأهّبتْ لذلك، وميلاني لأن لا مكان آخر يمكن لها أن تنظر إليه في حينه، أو لا، لأنّها كانت تتخيّلني على سرير صديقتها.
أجبت أخيراً بأني لا أعرف، فعلاً لا أعرف إن أردت الآن العودة إلى حيفا. لا أعرف أيضاً إن كانت إجابتي هذه قد تأثّرت بتعليق ريما، بأنّ أهل حيفا أنفسهم يحاولون مغادرتها متى استطاعوا، إلى أوروبا تحديداً، الشباب منهم تحديداً، من يرون في أنفسهم كتّاباً تحديداً. أرادت أن تقول بأني مثال جيّد لابن حيفا الرّاغب في تركها. وأنا كابنٍ لهذه المدينة، بالشكل الذي لا تفهمه ريما، لم أستطع أن أقول لحظتها أمامها "نعم، سأذهب إلى حيفا غداً صباحاً إن استطعت، ولأبقى هناك".
لكنّي لم أقفل إجابتي هنا، في أني لا أعرف. أردت فتح الموضوع معهن، وأنا مدرك أن لكل منهن نظرتها المختلفة، نظرة استطعتُ خلال الحديث تثبيتها: ريما التي لم تفهم طبيعة علاقتي مع المدينة التي ولدتْ وكبرتْ فيها، وكوّنتْ ذكريات، وتركتْها منذ أيام لتأتي إلى هنا كي تبقى.
شارلوت التي ترغب في أن تفهم هذه العلاقة لسبب واحد هو إدراكها لمدى أهميتها لدي، إدراكها النّبيه والسريع لذلك، بمحفّز واحد هو علاقتنا التي بدأت، كما يبدو، أمس.
ميلاني التي لا تبالي في أن تفهم العلاقة، المقتنعة أكثر بأنّ حيفا الآن مدينة إسرائيلية وأني أقرب لأن أكون سورياً والآن لاجئاً في فرنسا وأني بالتالي باقٍ هنا، وأنّ خلف ذلك تعقيدات ليست هي في حاجة لأن تتعرّف عليها.
- فعلاً، لا أعرف.
- كيف لا تعرف؟
- لا أعرف ريما إن كانت حيفا هي التي أرغب الآن في العودة إليها.
- تريد البقاء هنا؟
- كذلك لا أعرف شارلوت، أعتقد بأنّي أريد العودة إلى المخيم.
فكّرتُ بالمخيّم لحظتها، فكّرت بحيفا كمكان لا أعرفه، وبالمخيّم كالمكان الذي أعرفه. الـ…ـمكان. إن كان لا بد من عودة الآن فلتكن إلى المخيم في حمص، في المخيّم أعود إلى حيفا التي أعرفها وليس حيفا ريما.
هناك، في المخيم، أستطيع التفكير بعودة تالية تكون إلى حيفا، المدينة ذاتها، مدينةُ ريما، إنّما لن أستطيع القفز عن المخيّم، لن أستطيع التّفكير بحيفا في فلسطين من هنا وقد أتيت إلى هنا لاجئاً من المخيم. إن كان لا بد أن أعود إلى مكان ما، من هنا، فليكن المخيم. كيف لي أن أتخطاه إلى حيفا!
المكان بالنسبة لي هو الذي عرفتُه وأعرفه، المكان بألّ التعريف، أو مكاني أنا، أو مكاننا نحن، أهلي وأصدقائي وأقاربي، ليس حيفا، أو ليس حيفا التي أتت منها ريما، بل حيفا التي نعرفها كلّنا، التي يعرفها كل أهل المخيّم، تلك هي حيفا التي إن كان لا بد من عودة إلى حيفا ما، فلتكن إليها.
عودتي إلى حيفا المدينة لن أجعلها قبل عودتي إلى حيفا المخيّم، أعود إلى المخيم وأحمل تلك الحيفا معي إلى مكانها على الخارطة في فلسطين، أحملها من أطراف مدينة حمص إلى الساحل على المتوسّط، يلفّها جبل الكرمل. حيفانا هي تلك التي توقّفت صورتها سنة ١٩٤٨، حيفا ريما هي تلك التي بدأت صورتها بالحركة سنتها. لن أجد حيفا المخيّم في حيفا المدينة، لن أجد المخيّم في المدينة. لمَ أعود إذاً إلى تلك التي ستتسبّب لي برغبة في الرّجوع إلى باريس!
اللجوء الذي أشعر به الآن واضح تماماً، أراه وألمسه أمامي، هو فناجين قهوتي المكوّمة على الطاولة، هو هذا اللابتوب والنّص الذي أكتبه، هو بطاقة مترو باريس التي ترافقني أينما حللت، حتى في بيتي أراها أمامي، بجانب اللابتوب، بطاقة محدودٌ استعمالها بهذه المدينة، تنقّلاتي كلّها محدودة بهذه المدينة، هو بطاقة الإقامة الزّهرية التي تضمن لي صفة اللاجئ بصلاحية عشر سنوات، بصورة ممنوع الابتسام فيها كي تكون صالحة، و “لاجئ سوري”، لا فلسطيني، محفورة على وجهها الخلفي.
لجوئي هو اهتمام شارلوت الزّائد لكوني لاجئاً فلسطينياً سورياً، لكوني لاجئين اثنين في إنسان واحد، ولامبالاة ميلاني الزّائدة كذلك لكوني لاجئاً فلسطينياً سورياً، وهو الألفة التي تتحدث بها ريما عن مدينتي التي لا أعرفها، المدينة التي لا أعرفها والألفة التي لا أعرفها في الحديث عن أي مدينة، باريس… حمص… حيفا.
لجوئي هو سقوط الكلمات التي أدخلتُها إلى لهجتي كلّما تحدّثت مع ريما. أمامها أقول "هلّأ" وليس "إسّا"، "هناك" وليس "غاد"، أنفي الفعلَ بـ ما منفصلة وليس بـ ش متّصلة. ما حاولتُ لسنين جعلَه تلقائياً في كلامي، تلاشى تماماً أمام تلقائيّة ريما في قوله بلهجتها، بلهجة أهل حيفا.
حيفا التي أصرّ على أنّها مدينتي، الإصرار الذي لا يعني الكثير لصاحبة هذه المدينة، ريما، التي فقط إن ابتعدتُ عنها سأقول لنفسي بأنّها محقّة في كل ما قالته، ريما التي إن سألتني كيف أعرّف علاقتي بحيفا سأُعيدها إلى المخيّم، ستُعيد سؤالَها عن حيفا لأهرب منه ومنها إلى المخيّم، تسترجعني إلى حيفا، أُبقيني في المخيّم.
لجوئي هنا أعيشه في كلّ لحظة، هو البرغر التي التهمتُها قبل ساعات، هو المطعم الذي جلستُ على أحد كراسيه، هو الكرسي وهو كأس النبيذ الأحمر وهو القطرة منه التي سقطت على جينزي أثناء حديثي، وأرادت شارلوت مسحها بمحرمتها وتراجعت بعدما رأت أين تماماً سقطت. هو رغبتها المبالَغ بها في مسح القطرة، هو تلك المحرمة التي تمسح بها شارلوت فمها بعد كل لقمة، هو شارلوت ذاتها. هذه هي حالة اللجوء الماديّة وهذه لا تعني لي سوى أني خارج المخيّم، حيث لا نبيذ ولا برغر ولا شارلوت.
هذا اللجوء تلا خروجي من المخيم، لا خروجي من حيفا. لا علاقة لحيفا بكل هذا، وهو لم يأتني بخروجي منها، بل من المخيّم، من حارتنا الحيفاوية في المخيم، ولا يمكن له أن يزول إلا بعودتي إليه، إلى حيفا في المخيم، إلى بيوت الحيفاويّين في المخيّم، إلى مطعم الغنّام هناك وسندويش الفلافل لديه، إلى مدرسة الوكالة، التي لطالما لعبتُ الطابة في ساحتها، إلى شارع الباص، الذي أحفظ معظم المحال على جانبيه، إلى بيوت أعمامي الموزّعة على شوارعه وزواريبه، إلى كل ما أعرفه هناك، وهو ما لا أعرفه في حيفا المدينة، التي إن وجدتُ بالصّدفة مطعماً فيها فسيكون أشبه بهذا، هنا في باريس.
- لا أعرف شارلوت. كيف ستفهمنني؟ هذه إجابتي الأولى حين أقول بأني أريد العودة إلى المخيم، لكنّه… كيف أقول… مرحلة لا بد منها للعودة إلى حيفا.
- وإن لم تعجبك حيفا؟
- هذه مسألة أخرى، أنتِ لا تعجبك حيفا ولهذا أتيتِ ترغبين في البقاء هنا. أعجبتني أم لم تعجبني، سيكون ذلك لأسباب غير أسبابك.
- نسأل لنعرف فقط كريم، لا نحاول…
- أكيد شارلوت، لا تقلقي.
- أنت تعتبر نفسك أولاً من حيفا أم من المخيم أم من سوريا أم ماذا؟
- لا أستطيع أن أعرّف عن نفسي بكلمتين: أنا فرنسي، أنا فلسطيني، أنا سوري، أنا ألماني من أصلٍ…
كان لا بد من شرحٍ يرافق أي تعريف لي عن نفسي، عن هويّتي، عن انتماءاتي، هنا في باريس. في المخيّم كنّا كلّنا أهالي المخيّم فنقول "أنا من حيفا" "أنا من ترشيحا" "أنا من صفد" "أنا من الكابري"… وفي كل من هذه الأمكنة قبل عام النكبة، لا بد أن جدّي والآخرين كانوا يعرّفون أنفسهم بأسماء الحارات، فجدي الحيفاوي يعرّف عن نفسه لحيفاوي آخر باسم الحارة التي يسكن فيها، حارات لا أعرف اليوم أسماءها ولن أستطيع أن أورد أياً منها في هذه الرّواية. لا بدّ أنّ ريما تعرفها كلّها، تعرف كل حارات حيفا، الآن في لحظة كتابة هذه الكلمات التي لن أجد اسم حارة واحدة في ذهني أضعه بينها، تعرفها لا كمستمعة لحكاياتها من آخرين عاشوا فيها، بل كمارّة فيها ومتردّدة عليها وساكنة في واحدة منها.
في باريس، اليوم، أحاول التعريف عن نفسي بأكثر ما يمكن تبسيطه، "أنا فلسطيني من سوريا" "أنا فلسطيني سوري" "أنا فلسطيني من مخيّمات سوريا"، دون اكتراث لأي فروقات دلاليّة بين التعريفات الثلاثة. لكن ذلك لا يأتي إلا مرفقاً باستفسارات، أو بمطالبات لي بأن أكون إما فلسطينياً وإما سورياً، كي يستطيع السّائلُ وضعي ضمن تصنيف جاهز مسبقاً، يتّسع لكل الحالات المتوقَّعة. لكنّي لستُ فلسطينياً وحسب، ولستُ سورياً في الأساس. لن تكتمل فلسطينيتي في التعريف عن نفسي دون تصنيف يتفرّع عنها يكون سوريتي، ولا أساس لسوريتي، في التّعريف، إن لم تتفرّع عن فلسطينيتي.
لستُ أقلّ فلسطينية من ريما أو من ابن رام الله، لنقُل، الذي وصل صباح اليوم إلى باريس تاركاً مدينته. ولست أقلّ سوريّة من ابن حمص الذي وصل في الوقت ذاته. ليست حمص التي لا يعرفها أكثر مني، أقرب إليه منها إليّ، لم يتمشَّ هو في طريق الشام المقابل للمخيّم ولم يشترِ البوظة بالفراولة من دكّان أبو صدقي هناك، ولا في طريق العشّاق خلفه، أكثر منّي، ولم يحبّ بنات سوريات وانتظرهنّ أمام بوابات مدارسهنّ أكثر منّي، ولم يُخاطر أكثر منّي في إطالة النّظر إلى فتيات حيّ عكرمة العلويّات، في حاراتهنّ. وهذه كلّها أسباب تجعل حمص قريبة منّي كما هي قريبةٌ من أي طالب سوري كان في صفّي في مدرسة خالد بن الوليد آنذاك. وللأسباب ذاتها أقول لنفسي بأن حيفا أقرب لريما منّي.
لستُ أقلّ سورية من أي منهم، لكنّي لست أقل فلسطينية من ريما التي لم تحكِ، منذ التقينا، كلمة طيّبة عن حيفا التي لا أعرف كيف تعرفها. أنا فلسطيني قبل أن أكون سورياً، وأنا هذا وذاك، معاً، كما يكون الحمصيّ حمصياً وسورياً معاً. إزالة أي منهما يذهب بنصف هويّتي، إن عرّفت عن نفسي بأني فلسطيني سيأخذنا الحديث إلى القدس ورام الله وبيت لحم وغزة، وإن كان محدّثي الفرنسي مدركاً لتاريخ فلسطين ولأنّ الاحتلال بدأ عام ٤٨ حين تهجّر جدّي، وليس عام ٦٧، فسيمتد الحديث إلى حيفا والناصرة ويافا… وهذا كلّه، كلّه، لم أعرف عنه شيئاً كمعرفة أهله، أهل كل المدن والقرى هناك، كمعرفة ريما.
سيأخذنا الحديث إلى أمكنة بعيدة، لطالما كانت، وماتزال، الأبعد من بين كل الأمكنة في هذا العالم. لن أكون صادقاً في التعريف عن نفسي كفلسطيني، لا مع نفسي ولا مع محدّثي. لستُ ابن بلدٍ كما يتوجّب على ابن البلد أن يكون، لستُ فلسطينياً كما هي شارلوت فرنسية، ولستُ حيفاوياً كما هي ريما حيفاويّة.
لكنّي فلسطيني كما لا يُتوقَّع منه أن يكون، فلسطيني بحاجة أبديّة لشرح فلسطينيته وتبريرها، حتى لفلسطينيين، قائلاً "اعتبروني أقليّة سورية بين الفلسطينيين"، كما بحاجة لتبرير سوريّته لسوريين قائلاً "اعتبروني أقليّة فلسطينية بين السوريين".
قلت "اعتبرنني" للنساء الثلاث على الطاولة، قلت "اعتبرنني فلسطينياً بين السوريين وسورياً بين الفلسطينيين"، لكني لا أستطيع أن أقول بأنّي لا أكترث لما قد تظنّه كل منهن، ميلاني غير المعنيّة بالموضوع وشارلوت المعنيّة إنّما لسبب آخر يخصّ ليلة أمس، وريما التي تظنّ بأنّي أحاول الاستيلاء على مدينتها التي تخلّت هي عنها، ولم أجرؤ حتى اللحظة على القول لها بأنّها تتخلى عن مدينتي أنا كذلك، وتتركها لتهويد تلك الدّولة لها، سأبدو كخارجيّ يسدي نصيحة في ما لا يعرف، أو، أسوأ، في ما لا يعنيه.
أنهينا حديثنا مع انتهاء فنجان القهوة. لستُ أكيداً من أنّ ريما اقتنعت بشيء، ولا من أنّ ميلاني اكترثت لشيء، ولا تعجبني فكرة أنّ شارلوت إن كانت قد اقتنعت أو اكترثت فهو لكونها تحبّني أو بدأت تحبّني أو تحبّ أن تحبّني، أو لا أعرف، لأنّنا تنايكنا الليلة الماضية وحسب.
تفرّقنا من عند المطعم، وقبل أن تقول إلى اللقاء، "أَ بيانْتو"، أكّدت شارلوت عليّ بأن نلتقي، هي وأنا، غداً أو بعده لنشرب فنجان قهوة كأنّه كان لديها ما تريد قوله.
تمشّيتُ قليلاً قبل أن أقرّر العودة إلى البيت واستئناف الكتابة في الفصول التي لم أعرف من أين سأبدأ بها، من مساء أمس في البار مع الامرأتين، قبلها في السينما، بعدها على سرير شارلوت، صباح اليوم على الفطور، بعدها في المطعم، قبل المطعم في البلكون… لم يكن يهمّني كثيراً ما سأستأنف به كتابتي عن شارلوت، الكتابة التي توقّفت حين انقطعتُ عن رؤيتها في المقهى.
أمس مساءً فقط، في السينما، رأيتها بعد انقطاع لأسبوعين، لكنّي كذلك رأيت ميلاني، ورأيت ريما.
* كاتب فلسطيني مقيم في باريس
** مقطع من رواية بالعنوان نفسه تصدر هذه الأيام عن "الأهلية للنشر" في عمّان