سورية.. وفد أستانة في ثوب الملك العاري

29 ابريل 2019
+ الخط -
توافق "المعارضة" السورية، ممثلة بوجوهٍ عيّنتها الأنظمة التي تستثمر وجودها في أستانة وسوتشي وحتى في جنيف، على خطط التصعيد ضد سكان مناطق سوريةٍ، لا تزال الخلافات حول تبعيتها قائمة بين الدول الثلاث الضامنة لاستمرار الصراع في سورية وعليها، وهي وفود المعارضة إلى أستانة بحضورها المتكرر، أو حتى تكليف من ينوب عنها في المشاركات الدبلوماسية أو العسكرية، توقِّع على قرار إعدامات كل ضحايا الحرب السوريين، ليس فقط ضحايا خلافات الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا) حول طاولة مفاوضات أستانة، وحواراتها المسلحة خارجها، بل منذ تأسيس تلك الفصائل، ذات الأجندات والطموحات غير السورية، وتصدير قادتها، أو ممثلين عنهم، إلى الجلوس مفاوضين عن الشعب السوري، وحتى آخر ضحية لاقت المصير نفسه، بعد قصف استمد شرعيته من اجتماعات "أستانة 12" الذي اختتم الأسبوع الماضي ببيان "ترفيهي" على صوت قرع طبول الحرب "المؤجّلة" في حلب ومناطق في إدلب.
منذ بدء العملية السياسية، مارست الوجوه نفسها (يجلس معظمها اليوم مقابل وفد النظام والداعمين له في أستانة) عملية تعطيل ممنهجة لأي مسار تفاوضي منذ عام 2013. وكانت هذه الأسماء الرائجة اليوم، والتي تحتل شاشات معظم الفضائيات للحديث عن نجاحات التفاوض "الوهمية" التي تجري في أستانة، قد عملت سابقاً على تجريم كل الراغبين بفتح أبواب الحل السياسي آنذاك، وأصدرت بحقهم بيانات التخوين، وفتاوى قتل من يحضر المفاوضات أو يروّجها، على الرغم من أن العملية السياسية بدأت معالمها في التبلور اعتماداً على نجاحات الجيش الحر (2012-2013) في صد هجوم قوات النظام عن مناطق كثيرة، وإبعاد خطر أن تداهمها القوات الأمنية، ما وضع الأمم المتحدة ودولا كثيرة أمام استحقاقات وجوب السعي إلى الحل السياسي، إما لتجنب سخط شعوب العالم المتعاطفة مع ثورة السوريين آنذاك، أو لإنقاذ دور النظام في المنطقة. وفي الحالتين، كان للشعب السوري مصلحة في الذهاب بطريق الحل السياسي الضامن لحقوقه، في وقت انكسرت فيه، بعد ما يزيد عن أربعين عاماً، صورة هيبة النظام داخل مخيلة السوريين، وضمن مسار وقائع الأحداث. ففي البيان المشترك للفصائل 
المنضوية تحت الجبهة الإسلامية (تم حلها لاحقاً)، والتي تشكلت بهدف إطاحة النظام السوري، وإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية، وينضوي كل من جيش الإسلام وأحرار الشام تحتها كأكبر فصيلين إسلاميين، والمشاركين في اجتماعات أستانة الآن، إلى جانب فصائل وشخصيات وظيفية من أشباههم في الأيديولوجيا والهدف، إذ اعتبرت الفصائل الموقعة على البيان في (27 أكتوبر/ تشرين الأول 2013): "مؤتمر جنيف 2 حلقة في سلسلة مؤامرات الالتفاف على ثورة الشعب في سورية وإجهاضها". وأكدت الجبهة أن اندماج فصائلها هدفه "التأثير في القرار السياسي للثورة، وامتلاك موقع متميز يمكنها من التحكّم بمسارات التسوية المحتملة". أي أن الهدف الأساسي كان هو ذاته ما وصلت إليه اليوم في أنها، كحركات إيديولوجية متحكمة بمسار التسوية، سواء عبر ممثلين لها في المفاوضات العسكرية التي تجري في أستانة، أو المشاركين في وفود التفاوض السياسي بعد أن استولت على قرار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أيضاً، في نسخته الحالية غير السورية، والذي لم ينتج سوى بيانات خطابية أكثر رداءةً من بيانات النظام الشعاراتية لمؤيديه حول أن الحرب "خلصت"، بينما خلصت قدرتهم على تأمين فرصة العيش بأبسط ظروف الحياة.
ومن هنا، يكمن حجم الدهشة في أن تكون الجهات التي ترى في "جنيف 2" مؤامرة هي نفسها من تتولى عملية التفاوض مع الجهات المتآمرة على السوريين في ثورتهم السلمية (إيران وروسيا)، للوصول إلى ما طرحته مباحثات جنيف 2 في حدّها الأدنى الذي تحاول مداولات أستانة وسوتشي إلغاء مفاعيل ايجابياته لمصلحة تسوياتٍ شكليةٍ، يحظى فيها الجالسون على مقاعد المفاوضات "بجوائز ترضية رخيصة".
ولعل هذا ما يسوّغ السؤال عن هذه التسوية التي تعمل عليها إيران وروسيا، وإلى جانبهما تركيا؛ فهل هي التسوية التي لا تلتف على ثورة السوريين وتُجهضها، حسب معتقدات من طرح بيانات التخوين سابقاً لكل من يقبل التفاوض مع النظام، وهم من يتولى تقديم التنازلات اليوم؟ أم أنها التسوية التي زرعت من أجلها كل تلك التنظيمات المسلحة، بمرجعياتها غير السورية، في قلب الثورة السلمية، فكانت أن أنجزت اتفاقات التسويات المجحفة والمدن الأربع وتهجير سكانها، ومناطق خفض التصعيد التي انتهت بتسليم المناطق إلى النظام، وأبرزها و"أبشعها" تسليم الغوطة، بعد معركةٍ وهميةٍ هدفت إلى خروج قادة الفصائل، بما يحملون من تجارة الحرب وأنفاقها من غنائم؟
التوغل في العمل المسلح من النظام السوري أتى أكله معه، على الرغم من حجم الدمار 
وفظاعة الجرائم التي ارتكبها بحق مواطنيه، إلا أنه حقق الغاية التي ابتغاها منه، وهو إبعاد مخاطر الحل السياسي العادل الذي كان يهدّد استبداديته وفردانيته ثمانية أعوام متتالية، وبالتالي غيّر هذا الخيار الأمني العسكري للنظام مواقع بعض الدول من المواجهة إلى التقارب، والتفاوض، وحتى التفاهم، بطريقة مباشرة، أو عبر شريكيه في قتل السوريين روسيا وإيران. إلا أن العمل المسلح نفسه تحت عنوان "المعارضة" أوصلنا إلى ما عبر عنه بيان الفصائل الإسلامية (2013) برغبتها الهيمنة على القرار السياسي، وأخذوا بذلك سورية إلى سوريات كثيرة بعدد الفصائل. وأنتجت فصلنة الثورة طبقةً من أمراء الحرب، استطاعت انتزاع أحلام السوريين في دولة ديمقراطية مدنية، تتساوى فيها حقوق المواطنة على اختلاف القوميات والديانات، وهو ما سهل عملية تمزيق سوريات الفصائل "المشتتة" أمام سورية النظام المدعوم من شركائه، وفق خطة واحدة ممنهجة، أنتجت في النهاية مؤتمرات أستانة من 1 حتى 12، والمزيد قادم بانتظار بياناتٍ ترفيهيةٍ، تبرّر سياحة الوفود المشاركة فيها بمضامين لا طعم لها ولا لون، كحال ما ورد في البيان الذي صدر أخيرا، المكرر بعباراته وقلة حيلته، لإنجاز أي خطوة باتجاه الحل الضامن لسلامة السوريين، وضمان وحدة أراضيهم، على الرغم من تكرار التأكيد على ذلك، من بداية انطلاقة البيانات حتى رقمها 12 في أستانة ومعها سوتشي، هي على الأكثر لتبرّر للضامنين خطواتهم العسكرية على دروب الدم السوري، بينما يهلل وفد المعارضة لمنجزات وهمية ومتخيلة، يسيرون بها في فضائياتٍ تمنحهم من وقتنا ودمنا فرصة السير بيننا، كالملك العاري الموهوم بثوبٍ لم يره ولن يراه غير المزاودين والمنافقين.
930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية