سورية.. بلاد أضيق من الحب
في الرابع عشر من فبراير/شباط، كان يتسلل طيف القديس فالنتين إلى مناطق سورية عديدة، وكانت الأسواق تزدان بالأحمر وتعج بالحركة، والمقاهي تُرصد أغلب طاولاتها للصبايا والشباب، في مواعيد حب، يتبادلون فيها الهدايا، كما تكثر العروض التجارية، وتطرح في الأسواق سلع مختلفة، أما شركات الخليوي فكانت تمطر المشتركين برسائلها بمناسبة العيد، بين عروض خدمية خاصة أو ترغيب بأجمل الرسائل القصيرة، كتهنئة يرسلها المشتركـ"ة" لمن يحب أو تحب. ولم تكن الشاشة الرسمية بعيدة عن هذا المهرجان العام، فقد كانت تجوب الأسواق، وتلتقي مع مواطنين في الشارع، بين مشترٍ وبائع، وتسألهم حول هذا العيد.
في سورية اليوم، لا بدّ من تذكّر "الحب" فهي أحوج ما تكون إليه. سورية التي تومض أرضها بأحمر قانٍ لم ينقطع تدفقه من شرايين أبنائها على مدى أربع سنوات. لا بدّ من استرجاع ماضٍ ليس بعيداً وسؤاله أمام واقع أليم تعيشه، اليوم، وهي مقطعة الأوصال، مهما صرخنا، وقلنا: لا.. سورية عصيّة على التقسيم. فهي، في الواقع، مقسّمة، مجتمعياً قبل كل شيء.
في سورية "العلمانية" على مدى أربعة عقود أو أكثر، منذ فرض حزب وحيد وصايته وقيادته على الدولة والمجتمع، بدأت المرأة تتعثر خطواتها، في درب التحرر من قيودها، وإدراكها ذاتها، فتحت شعارات العلمانية، والسعي إلى بناء مجتمع مدني ودولة حديثة، كانت المرأة تنزلق نحو استعباد آخر، ولم تقدم لها الإيديولوجية التقدمية ما يعزز مواطنتها وإنسانيتها، فبقي قانون "جرائم الشرف" متغوّلاً في الحياة إلى وقت قريب، بعد مطالبات مؤسسات وهيئات من المجتمع بإلغائه، فجرى تعديله بشكل بقي معه ضامناً للسلطة الذكورية، ومعززاً منظومة القبيلة والعشيرة، في موازاة قانون عاجز عن إدارة الحياة. وفي الحقيقة، ما درجت تسميته قانون جرائم الشرف، ذُكر في النصوص القانونية تحت مسمّى "جرائم الاعتداء على العرض"، بما يحمل هذا الاسم من معنى، يرسّخ ويدعم قانون القبيلة أو العشيرة، ويعوّمه فوق القانون المدني، مع إلغاء كامل لكيان المرأة، وتهميش لوجودها، مثلما لو أن الاعتداء على العرض هو الحالة المجسدة التي تحتل جزءاً من الوجود المادي، بينما المرأة جسداً وروحاً هي بحكم الميتة سلفاً، أو لكأنها فقط حاملة سلبية، لقيم يقوم، على أساسها، كيان القبيلة. كما أن القانون ربط الجريمة بالدافع الذي أطلق عليه اسم "الدافع الشريف"، حتى إن الاجتهاد ذهب إلى حدّ أن قرر أن الدافع الشريف يُعتبر موجوداً لمجرد وقوع القتل تحت تأثيره، ما دام القاتل وقع تحت تأثير ما سمعه، وتحت تأثير هذه "الفكرة المقدسة". وإذ تُرك للقاضي تحديد "الدافع الشريف"، ليبني عليه حكمه الذي هو في أقصى حدوده بعد تعديل المادة 548 سجن القاتل مدة أقصاها سبع سنوات تحت هذه الذريعة، فإن الفساد الذي كان متفشياً حدّ الوباء في مؤسسات الدولة والأجهزة الحكومية، ومنها مؤسسة القضاء، كان غالباً ما يمنح القاتل فرصة الإفلات من هذه العقوبة غير العادلة، أو حفظاً لماء الوجه ملاطفته بعقوبة مخففة، يمكن له أن يفكها بالمال. وفي الوقت نفسه، يشمخ "الدافع الشريف" رافعاً رأسه بصون كرامته، بعد أن تكون المرأة قتلت وشبعت قتلاً، بعد موتها من البيئة الاجتماعية الرازحة تحت نير العرف. ومن لم تمت، قتلوها بتزويجها من الشخص الذي اغتصبها، فيما لو كان الموقف اغتصاباً. وكم يخبئ التاريخ بين زواياه المعتّمة من قصص إناثٍ، قتلن على الشبهة، من دون دليل حي، أو لأنهن وقعن في حب، مهما كان عذرياً، ودفعن الثمن حياتهن.
بقيت "عشتار" آلهة الحب والخصب كامنة في اللاوعي الجمعي لسكان معظم المناطق السورية، وليست الاحتفالات الموسمية التي كانت تقام في تلك المناطق كل عام، بتسميات مختلفةٍ، إلاّ إحياء لتلك الذاكرة الجمعية الموغلة في القدم، تختص فيها بشكل أساسي المجتمعات الريفية، أو الزراعية، كعيد الرابع من إبريل/نيسان، بحسب التقويم الشرقي، تقام فيها الاحتفالات الجماعية لسكان المناطق، مبتهجين بعودة الربيع والحياة، وتقدح شرارات الحب بين الشباب والصبايا، كما كان من المعتاد أن تنشأ علاقات حب بين صبية وشاب، وتنشأ قصص، يتلقفها الخيال الشعبي، وتدخل في تراثه المحكي. بقيت تلك الاحتفالات تقليداً شعبياً مبهجاً ومفرحاً حتى الثمانينيات من القرن الماضي، ثم منعت، بقرار رسمي، بعد أحداث الثمانينيات الدامية، إثر المواجهات المسلحة بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين، في أكثر من مدينة سورية، لتعود ذاكرة الدم تستصرخ الفزعة منذ أربع سنوات، عندما انتفض الشعب نصرةً لكرامته المنتهكة، فجوبه بالرصاص، ودخلت سورية حرب بسوس أخرى.
شباب سورية وصباياها ممنوعون من الحب، لأسباب عديدة، بحسب الخارطة السياسية الحالية، ففي المناطق "المحررة"، سيكون ذكر الحب جريمة، فكيف بعيدٍ ابتدعه الكفار، ويشيع ما يشيع من الفاحشة والمنكر؟ هناك بدائل تناسب شرع الحكام فيها، هناك الحب "الحلال" بخيارات وتنوعات عديدة، زواج متعدد، زواج ملك اليمين، زواج السبايا، زواج من القاصرات حتى، وغيرها حلول لا تستعصي على المفتين. وفي المناطق "المحررة"، أو ما يشابهها، سوف تنظر الصبايا بعين الحسرة إلى واقع يصطاد الأحلام، ويقنصها، شباب الوطن شهداء أو مشاريع شهداء أو مهجرون أو طافرون في بقاع الأرض.
سوف تبكي جدتنا "عشتار"، عشتار الحب والخصب، نجمة الصبح، الزهرة، الرهينة في كهوف التاريخ، ستبكي حفيداتها السوريات، فلا عيد القديس فالانتاين مسموح له بالمرور، ولا مواسم الخصب والقيامة مسموح لها بالتجمع والاحتفال.
سورية تدخل سن اليأس باكراً، فهي بلاد "أضيق من الحب"، رحم الله سعد الله ونوس.