09 نوفمبر 2024
سورية بدها
في لفتةٍ ذكية، ضمن المستطيل الذي يطالعك أول ما تفتح صفحتك العامة في الفضاء الأزرق، ويسألك: ماذا يشغلك؟ كتب أحد الأصدقاء كلمتين فقط: سورية بدها.
الجملة التي تغنت بها الجماهير المحتشدة في الساحات في كل أنحاء سورية، عندما كانت صاحبة حلم وطامحة بمشروع مستقبلي، كانت: سورية بدها حرية. فهل ما زال الشعب، معظم الشعب السوري الذي نادى للحرية منذ أكثر من خمس سنوات، يريد الحرية؟ وهل ما تحقّق في الواقع يمكن مقارنته بالحرية، أم في المقارنة إجحاف بحق هذه الكلمة الساحرة؟
بمتابعتي للتعليقات على هذه الجملة المبتورة، أو الجملة الاسميّة التي رُصد لخبرها عدة نقاط لإملائها بالخبر اليقين، أو بالخبر الذي يتمّ المعنى، أو بالأماني والرغبات المكبوتة، فقد هالني الإحباط المتمكن من نفوس المتابعين، فلو اعتبرنا هذه المجموعة التي تفاعلت مع الاختبار بعفوية، هي عيّنة عشوائية من المجتمع السوري، فإن النتيجة محبطة ومحزنة.
لم يتعدّ الذين أصرّوا على الحرية، على الرغم من كل ما حدث، العشرة في المائة، أمّا الباقون فإما لا يريدون الحرية وكفى، أو إنهم يريدون الأمان، يريدون أن يعيشوا فقط، بتعبيرات مختلفةٍ أورد بعضاً منها بالحرف:
ما عاد بدنا شي غير نلتم مع أهلنا و يطلعوا المعتقلين/ ما عاد بدنا شي غير يحلّوا عن سمانا/ لم يعد من مكان سوى للحقد والغل/ أولادها/ سلاااااام وأماااااان/ بدها الخلاص/ رحمة الله/ بدها الكل برا/ بدها أهلها وناسها وكل مين لوث إيده بالدم ينقلع بره/ الخلاص/ حب/ مابقى بدها شي...
أما التعليق الذي جاء على شكل صورة للافتةٍ، رُفعت مرة في أثنائها تظاهرة فوق بقعة من الأرض السورية المنتهكة، فقد حملت عبارة موجعة: سورية بدها حنّية، جملة كثيفة البلاغة والمعنى، شديدة التأثير العاطفي، فماذا حلّ بهذا الشعب المتروك وحيداً يواجه كل أصناف القتل والدمار والتشريد والظلم والإذلال؟
يبدو الشعب السوري كأنه يدخل في سن يأس جماعي، مثلما لو أن الخيارات التي تؤدي إلى الحياة بحدّها الأدنى الضامن للبقاء على قيدها قد انعدمت أمامهم، ولم يبقَ في أفقهم بصيص نور. لم تبقَ نتيجة تنجم عن العنف المطبّق عليهم، إلاّ وصارت واقعاً مرّاً، تهديد بالحياة والأمن وفقر وجوع ومرض وتشريد وهجرة ولجوء، عدا عن أشكال المعاناة التي يكابدونها في أماكن اللجوء.
لا يمكن وصف الواقع فقط والصمت بعد ذلك، الواقع موصوفٌ، وما أكثر الكاميرات التي ترصده وتُدبّج التعليقات والتحليلات والخطابات حول وصفها وصورها الماكرة، لكن الأمر الأهم فيما لو أردنا تلقف هذا المريض الذي وهن حدّ تخلّيه عن أبسط أحلامه، والذي هو الشعب السوري، الأهم هو مقاربة حالته بمنهج طبيب وبصيرة حكيم، تشخيص العلّة وتبيان أسبابها هما حجر الأساس في العلاج.
هل يمكن الاعتراف بالأخطاء التي وقعت والارتكابات التي وصلت إلى حدّ الجرائم الإنسانية بحق الشعب، وهذا أهم الأسس التي تُبنى عليها العدالة الانتقالية، التي بدونها لا يمكن النهوض بنوايا ترنو نحو مستقبل مختلف؟
بعد خمس سنوات من العنف والعنف المضاد، تبين أن الشعب السوري يتيم حدّ الإفلاس من
الرحمة، ليست مشكلته الوحيدة مع نظام مستبدٍّ لا يريد التنازل عن السلطة بأي ثمن، بل أيضاً مع معارضة لم تمارس نشاطاً، ولم يكن لديها غاية أو هدف أبعد من الوصول إلى السلطة نفسها، وبأي ثمن، صادرت إرادة الشعب وطموحه في التغيير والوصول إلى حياةٍ أكثر إنسانيةً، بعد أن عانوا عقوداً من التهميش والإفقار والحصار الأمني، ولم تقدّم إلاّ مزيداً من أسباب التشرذم والفرقة والتطرف والعصبية.
الطرفان مسؤولان عن انحدار مستوى البلاد والعباد، كل منهما يدّعي العمل على حماية الوطن والشعب، ويرفع شعارات جوفاء لم تعد تعني الشعب بشيء، حتى ارتمى كثير من أبنائه في أحضان الفصائل الإسلامية أو الجهادية، ليلفوا أنفسهم يصح بهم المثل الدارج: خرجوا من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
لم تبقَ مدينة في سورية بمنأى عن الموت المادي والمعنوي، للرقة حكاية، ولحمص حكاية، وللغوطة حكاية، ولحلب حكاية، ولدير الزور حكاية، وللقامشلي والحسكة، ولإدلب، وللساحل، المدنيون يموتون، القصف من السماء والبرّ. حصار، تجويع، تجار حروب وأزمات، حدود تغلق في وجوههم، كلما اشتد وابل الموت المنهمر عليهم. بينما يتفاوض على مصيرهم كل طامع بنفوذ وسلطة، غير مبالٍ بأي قيمة أو مسؤولية أخلاقية.
هل يحق لأحدٍ أن يلوم شعباً وصل به اليأس إلى درجة التعلق بحياةٍ لا تقدّم أكثر من بديهيات حياةٍ كل المخلوقات، ولا تميّز الجنس البشري بشيء، إذا تنازل عن حلمه الذي لم يكن يعرف أن ثمنه سيكون باهظاً، وسيدفعه بمفرده بعد أن خذله كل كفلائه؟ ليس الاختبار الذي رصدته على "فيسبوك" ودلالاته التي تحملها الردود حالة استثنائية أو فريدة، بل الواقع أبلغ منها، واقع الإحباط واليأس والتراجع عن أي حافز أو طموح. إنها جريمة كبرى برسم من غرّر بهذا الشعب، واستخدمه بحجة الدفاع عنه، ليلقيه وقوداً في حرب لا تشبع، ليست فقط حرباً بين نظام ومعارضة، بل هي حرب بين ثورة وثورة مضادة أيضاً.
مطلب وحيد لو يفاوض المتفاوضون عليه، ثم يرتاحون بعدها: وقف العنف، ثم التنحي. من بقي من الشعب قادراً على أن يمسك حياته، ويديرها بقدرات شبابه الباقين داخل البلاد، أو الذين ينتظرون العودة، فليس مقبولاً الادعاء أن لا ضامن للبلد في وقته الحالي، غير النظام، وليس صحيحاً أن لا أحد يمثل مستقبل الشعب غير المعارضة الحالية التي تتقاسم مع النظام المسؤولية عمّا وصلت إليه الحالة السورية.
الجملة التي تغنت بها الجماهير المحتشدة في الساحات في كل أنحاء سورية، عندما كانت صاحبة حلم وطامحة بمشروع مستقبلي، كانت: سورية بدها حرية. فهل ما زال الشعب، معظم الشعب السوري الذي نادى للحرية منذ أكثر من خمس سنوات، يريد الحرية؟ وهل ما تحقّق في الواقع يمكن مقارنته بالحرية، أم في المقارنة إجحاف بحق هذه الكلمة الساحرة؟
بمتابعتي للتعليقات على هذه الجملة المبتورة، أو الجملة الاسميّة التي رُصد لخبرها عدة نقاط لإملائها بالخبر اليقين، أو بالخبر الذي يتمّ المعنى، أو بالأماني والرغبات المكبوتة، فقد هالني الإحباط المتمكن من نفوس المتابعين، فلو اعتبرنا هذه المجموعة التي تفاعلت مع الاختبار بعفوية، هي عيّنة عشوائية من المجتمع السوري، فإن النتيجة محبطة ومحزنة.
لم يتعدّ الذين أصرّوا على الحرية، على الرغم من كل ما حدث، العشرة في المائة، أمّا الباقون فإما لا يريدون الحرية وكفى، أو إنهم يريدون الأمان، يريدون أن يعيشوا فقط، بتعبيرات مختلفةٍ أورد بعضاً منها بالحرف:
ما عاد بدنا شي غير نلتم مع أهلنا و يطلعوا المعتقلين/ ما عاد بدنا شي غير يحلّوا عن سمانا/ لم يعد من مكان سوى للحقد والغل/ أولادها/ سلاااااام وأماااااان/ بدها الخلاص/ رحمة الله/ بدها الكل برا/ بدها أهلها وناسها وكل مين لوث إيده بالدم ينقلع بره/ الخلاص/ حب/ مابقى بدها شي...
أما التعليق الذي جاء على شكل صورة للافتةٍ، رُفعت مرة في أثنائها تظاهرة فوق بقعة من الأرض السورية المنتهكة، فقد حملت عبارة موجعة: سورية بدها حنّية، جملة كثيفة البلاغة والمعنى، شديدة التأثير العاطفي، فماذا حلّ بهذا الشعب المتروك وحيداً يواجه كل أصناف القتل والدمار والتشريد والظلم والإذلال؟
يبدو الشعب السوري كأنه يدخل في سن يأس جماعي، مثلما لو أن الخيارات التي تؤدي إلى الحياة بحدّها الأدنى الضامن للبقاء على قيدها قد انعدمت أمامهم، ولم يبقَ في أفقهم بصيص نور. لم تبقَ نتيجة تنجم عن العنف المطبّق عليهم، إلاّ وصارت واقعاً مرّاً، تهديد بالحياة والأمن وفقر وجوع ومرض وتشريد وهجرة ولجوء، عدا عن أشكال المعاناة التي يكابدونها في أماكن اللجوء.
لا يمكن وصف الواقع فقط والصمت بعد ذلك، الواقع موصوفٌ، وما أكثر الكاميرات التي ترصده وتُدبّج التعليقات والتحليلات والخطابات حول وصفها وصورها الماكرة، لكن الأمر الأهم فيما لو أردنا تلقف هذا المريض الذي وهن حدّ تخلّيه عن أبسط أحلامه، والذي هو الشعب السوري، الأهم هو مقاربة حالته بمنهج طبيب وبصيرة حكيم، تشخيص العلّة وتبيان أسبابها هما حجر الأساس في العلاج.
هل يمكن الاعتراف بالأخطاء التي وقعت والارتكابات التي وصلت إلى حدّ الجرائم الإنسانية بحق الشعب، وهذا أهم الأسس التي تُبنى عليها العدالة الانتقالية، التي بدونها لا يمكن النهوض بنوايا ترنو نحو مستقبل مختلف؟
بعد خمس سنوات من العنف والعنف المضاد، تبين أن الشعب السوري يتيم حدّ الإفلاس من
الطرفان مسؤولان عن انحدار مستوى البلاد والعباد، كل منهما يدّعي العمل على حماية الوطن والشعب، ويرفع شعارات جوفاء لم تعد تعني الشعب بشيء، حتى ارتمى كثير من أبنائه في أحضان الفصائل الإسلامية أو الجهادية، ليلفوا أنفسهم يصح بهم المثل الدارج: خرجوا من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
لم تبقَ مدينة في سورية بمنأى عن الموت المادي والمعنوي، للرقة حكاية، ولحمص حكاية، وللغوطة حكاية، ولحلب حكاية، ولدير الزور حكاية، وللقامشلي والحسكة، ولإدلب، وللساحل، المدنيون يموتون، القصف من السماء والبرّ. حصار، تجويع، تجار حروب وأزمات، حدود تغلق في وجوههم، كلما اشتد وابل الموت المنهمر عليهم. بينما يتفاوض على مصيرهم كل طامع بنفوذ وسلطة، غير مبالٍ بأي قيمة أو مسؤولية أخلاقية.
هل يحق لأحدٍ أن يلوم شعباً وصل به اليأس إلى درجة التعلق بحياةٍ لا تقدّم أكثر من بديهيات حياةٍ كل المخلوقات، ولا تميّز الجنس البشري بشيء، إذا تنازل عن حلمه الذي لم يكن يعرف أن ثمنه سيكون باهظاً، وسيدفعه بمفرده بعد أن خذله كل كفلائه؟ ليس الاختبار الذي رصدته على "فيسبوك" ودلالاته التي تحملها الردود حالة استثنائية أو فريدة، بل الواقع أبلغ منها، واقع الإحباط واليأس والتراجع عن أي حافز أو طموح. إنها جريمة كبرى برسم من غرّر بهذا الشعب، واستخدمه بحجة الدفاع عنه، ليلقيه وقوداً في حرب لا تشبع، ليست فقط حرباً بين نظام ومعارضة، بل هي حرب بين ثورة وثورة مضادة أيضاً.
مطلب وحيد لو يفاوض المتفاوضون عليه، ثم يرتاحون بعدها: وقف العنف، ثم التنحي. من بقي من الشعب قادراً على أن يمسك حياته، ويديرها بقدرات شبابه الباقين داخل البلاد، أو الذين ينتظرون العودة، فليس مقبولاً الادعاء أن لا ضامن للبلد في وقته الحالي، غير النظام، وليس صحيحاً أن لا أحد يمثل مستقبل الشعب غير المعارضة الحالية التي تتقاسم مع النظام المسؤولية عمّا وصلت إليه الحالة السورية.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024