21 مارس 2018
سفراء السيليكون.. إعلاميون أم دبلوماسيون أم عسكريون؟
مريم الخاطر
كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.
من منا لا يبحث اليوم في كيفية التعامل مع هذا السيل الجارف من الطوفان الإلكتروني، ومستلزماته من "آلة الكذب" في الحروب الرقمية التي تضاهي خرافة الخيال وأسطورة ما أسموها حرب النجوم وجيوشها المستنسخة لهزيمة جمهوريات، وإقامة إمبراطوريات مجريّة؟
هناك في وادي السيليكون، تكتسح الإمبراطورية التقنية الأرض والفضاء، الواقع والخيال. فعندما تتعدى جمهورية افتراضية، مثل "فيسبوك" تعداد أكبر الدول، الصين، لتقارب المليارين، لتسيطر المجالات الافتراضية على نفوذ السياسات الدولية، فإن قرار دولةٍ مثل الدانمارك تعيين سفير مقيم ومتفرغ لها في وادي السيليكون نهاية الشهر الماضي كما أورد موقع التواصل الاجتماعي "govinsider" ، يعد قراراً يصب في الذكاء الدبلوماسي. ليسجل كاسبر كلينج بذلك سبقاً عالميا، أول سفير تكنولوجي في التاريخ للتعامل مع "التكنوبلوماساية" التي دخلت كل المناحي، لا سيما السياسات الدولية، بل وشؤون الدفاع في واقع ملحّ، وتحدٍّ كبير أوجده المجال الافتراضي.
أكد السفير المرتقب، وهو محق، أن تأثير هذه الشركات بات فاعلا في مختلف السياسات، ومنها الشؤون الخارجية، مؤكداً أن مهمته ليست تقنية، بل سياسية بالدرجة الأولى، تتضمن أولا إصلاح وزارة الخارجية، سعياً إلى "التحول التكنولوجي الرقمي"، والاستشارات في مجال الأمن الرقمي والحماية، وبحث أخلاقيات هذا المجال.
لقد تحدث السفير عن عظيم (!)، خصوصاً وأن الدبلوماسية الرقمية باتت جزءا من السياسات العامة، الحكومية والدولية، التي قد تكون غير أخلاقية أيضا، فقد امتد أثر التكنولوجيا سياسيا بصورة عكسية، حيث لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي منقادةً، بل مقودة، خصوصا وأن
معظم الدول باتت لا تراقب المحتوى في محيطها المحلي فحسب، بل تطالب الشركات الكبرى بمراقبة الأفراد وإلغاء حسابات، ما يضع محك المحافظة على خصوصية البيانات التي يوقع عليها المستخدم مع الشركات في جدلية أخلاقية، إما في سوء استخدام من المجتمع، أو في سوء استبداد من الدولة، وهو الأكثر، خصوصا وأن قيودا فرضت، أخيرا، على وسائل كثيرة، بل وباتت الأسهم والشراكات والضغوط التجارية على المحك في تضارب للمصالح بين الملاك والحق العام للجمهور، بل بات الانحياز السياسي واضحا فيها، في محاكاة للواقع السياسي، حيث ترضخ
إدارة المنصات لمطالب مراقبة حسابات، أو حذفها بحجج باطلة، كالتي تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين في المقاومة المشروعة، فيما ادعت أنها "صفحات التحريض على الإرهاب"، بعد أن وجهت انتقاداتٍ لاذعة لعدم تجاوب "فيسبوك" مع ما تسميه "التحريض الفلسطيني ضدها"، ونجحت فعلا بحجب صفحات فلسطينية عديدة، تنشر أخبار مقاومة الاحتلال على "فيسبوك".
خلاصة القول إن الجمهوريات التقنية في قوتها في التأثير على تشكيل الرأي العام المحلي والعالمي، وعلى صناعة السياسات، وعلى علاقات الدول، بل وفي الصراعات والحروب، تعدّت الحروب العسكرية المسلحة في احتراف لأمرين: الجيوش الإلكترونية وصناعة الكذب. وبشأن الأخير (الكذب)، لا غرابة في ذلك، في عصر بات يطلق عليه منذ أواخر عام 2016 "عصر ما بعد الحقيقة"، فيما يعنيه المصطلح من تراجع نفوذ الحقائق المطلقة على التأثير في الرأي العام. ويعزى ذلك في عالم يموج بتداخلية المعلومات وقوة تأثير الأخبار الكاذبة في السيطرة على الرأي العام والسياسة الدولية، ما حدا بهذا المصطلح، كما جاء في قاموس أكسفورد، إلى أن يكون مصلطح العام 2016، خصوصاً وأن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل أقوى قوة اتصالية غير مشروطة، وقد وصفها تقرير"Twiplomacy 2017" بأنها "أقوى وسائل الدبلوماسية الدولية التي انتقلت من حيز اللاتفكير إلى أن أصبحت أول وسائل النفوذ، التي يفكر فيها الرؤساء ، يمثل فيها (تويتر) الأعلى استخداما لقوة أثره،" ما يشكل، وفق وصف الدراسة، (الباروميتر الدبلوماسي)، ليس في التحليل السياسي الدولي فحسب، بل في استشراف الأحداث السياسية والتنبؤ بمتغيرات العلاقات الدولية. الأمر الذي تؤكده تغريدات (رئيس جمهورية تويتر)، دونالد ترامب، الذي تصدر حسابه، يوم 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قائمة أعلى القادة عالميا من حيث المتابعين بـ 40 مليوناً. وهو الذي اعتمدت حملته الانتخابية سلفا، وإدارته لاحقا، على تناقض التصريحات على "تويتر"، فيما نسميها "السفسطة السياسية" القائمة على الجدل، والإسقاط، بل وإثارة العالم بالهراء، كتغريدته التي لن ننسىاها: "Covfefe.. " التي تصدرت التغطية الإعلامية والريتويت، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن"سفسطة" ترامب على "تويتر" هي ما جعلته يتجاوز، في متابعيه، حساب البابا فرانسيس الذي ظل مكتسحا "تويتر" سنوات، بل جعلت العالم خلفه يسهر ويختصمُ، شئنا أم أبينا، حتى لو اعتبرت خطأ مطبعيا تعمّد نشره... او تأخر في مسحه! لسنا لنبرئ فيه ترامب، فالترامبيات التويترية ظاهرة لا تسير اعتباطا في اكتساح الإمبراطورية الرقمية التي باتت تكنيك النفوذ السياسي العالمي اليوم.
وقد عزا ترامب، في مقابلة مع "فاينانشال تايمز" في إبريل/ نيسان 2017، لتويتر وجوده
السياسي، بقوله "إنه بدون التغريد لن يكون هنا"، وأكد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي له بقوله إنه بتلك الوسائل لا داعي له للجوء "لاستخدام إعلام الكذب" (!). ويا لها من تهمة لوسائل الإعلام الرسمي تفتح الأذهان أمام "الدعاية الإعلامية"، وتفوق وسائل التواصل، وفي مقدمتها "تويتر" عليها في تشكيل السياسة العالمية والعلاقات الدولية، فيما يصح لنا أن نطلق عليه نفوذ وخطورة "إعلام النرجسية الرقمية" و"منصات الكذب" على السياسة الدولية.
أما الجيوش الإلكترونية فهي بضاعة العصر الدولية وسلاحه، والتي باتت الدول تخصص لها ميزانياتٍ ضخمة، لما وعته من قدرتها النافذة محليا ودوليا على تحويل القضايا المصيرية إلى قضايا جانبية، بحرف فكر المجتمع وبوصلة أولوياته، وتسطيح اهتماماته للتحكم في تشكيل رأي عام، يتوافق مع سياساته، فضلا عن أثرها في النفوذ الحربي بتسليط الجيوش الرقمية على دول أخرى، فيما بات معلوما علميا بـ "الحروب الرقمية" بتشكيل حسابات على نوعين: حسابات آلية، أو حسابات وهمية تديرها الحكومات "اللجان الإلكترونية"، والتي ثبت فيها إغراقها المنصات بوابل من الكذب، فيما تناول العلم دراسته اليوم بمسمى"fake news techniques ".
الإغراق بالجيوش الإلكترونية ثبت سياسياً في ما نشرته الصحف عن تواطؤ روسي- ترامبي للحسابات الآلية (Trolls)، لمناصرة حملة ترامب الانتخابية على "فيسبوك" ضد خصمه هيلاري كلينتون في العام 2016. وما ثبت استخدامه أيضا من تواطؤ جيوش إلكترونية خليجية مبرمجة ضد قطر في "أزمة سحب السفراء عام 2014"، واشتدت ضراوته في الحرب الرقمية المجنّدة من كل دول الحصار ضد دولة قطر في 2017. ودول الخليج العربي تكتسح نفوذ "تويتر"، بل وتحتل المواقع الخمسة الأولى عالميا على أربع منصات رقمية، كما ورد في أحدث تقرير لوسائل التواصل الاجتماعي 2017 لكلية محمد بن راشد للإدارة.
وادي السيليكون.. إمبراطورية خَطِرة! لن تحتاج "سفراء تكنوبلوماسيين" فحسب، فالأمر لم يعد من مترادفات الإعلام ولا الشؤون الخارجية فقط، بل يحتاج شخصية جامعة ثلاثية الأبعاد، بحضور رقمي واستراتيجية قادمة بقوة تتزعمها "وزارات الدفاع".
Twitter: @medad_alqalam
هناك في وادي السيليكون، تكتسح الإمبراطورية التقنية الأرض والفضاء، الواقع والخيال. فعندما تتعدى جمهورية افتراضية، مثل "فيسبوك" تعداد أكبر الدول، الصين، لتقارب المليارين، لتسيطر المجالات الافتراضية على نفوذ السياسات الدولية، فإن قرار دولةٍ مثل الدانمارك تعيين سفير مقيم ومتفرغ لها في وادي السيليكون نهاية الشهر الماضي كما أورد موقع التواصل الاجتماعي "govinsider" ، يعد قراراً يصب في الذكاء الدبلوماسي. ليسجل كاسبر كلينج بذلك سبقاً عالميا، أول سفير تكنولوجي في التاريخ للتعامل مع "التكنوبلوماساية" التي دخلت كل المناحي، لا سيما السياسات الدولية، بل وشؤون الدفاع في واقع ملحّ، وتحدٍّ كبير أوجده المجال الافتراضي.
أكد السفير المرتقب، وهو محق، أن تأثير هذه الشركات بات فاعلا في مختلف السياسات، ومنها الشؤون الخارجية، مؤكداً أن مهمته ليست تقنية، بل سياسية بالدرجة الأولى، تتضمن أولا إصلاح وزارة الخارجية، سعياً إلى "التحول التكنولوجي الرقمي"، والاستشارات في مجال الأمن الرقمي والحماية، وبحث أخلاقيات هذا المجال.
لقد تحدث السفير عن عظيم (!)، خصوصاً وأن الدبلوماسية الرقمية باتت جزءا من السياسات العامة، الحكومية والدولية، التي قد تكون غير أخلاقية أيضا، فقد امتد أثر التكنولوجيا سياسيا بصورة عكسية، حيث لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي منقادةً، بل مقودة، خصوصا وأن
إدارة المنصات لمطالب مراقبة حسابات، أو حذفها بحجج باطلة، كالتي تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين في المقاومة المشروعة، فيما ادعت أنها "صفحات التحريض على الإرهاب"، بعد أن وجهت انتقاداتٍ لاذعة لعدم تجاوب "فيسبوك" مع ما تسميه "التحريض الفلسطيني ضدها"، ونجحت فعلا بحجب صفحات فلسطينية عديدة، تنشر أخبار مقاومة الاحتلال على "فيسبوك".
خلاصة القول إن الجمهوريات التقنية في قوتها في التأثير على تشكيل الرأي العام المحلي والعالمي، وعلى صناعة السياسات، وعلى علاقات الدول، بل وفي الصراعات والحروب، تعدّت الحروب العسكرية المسلحة في احتراف لأمرين: الجيوش الإلكترونية وصناعة الكذب. وبشأن الأخير (الكذب)، لا غرابة في ذلك، في عصر بات يطلق عليه منذ أواخر عام 2016 "عصر ما بعد الحقيقة"، فيما يعنيه المصطلح من تراجع نفوذ الحقائق المطلقة على التأثير في الرأي العام. ويعزى ذلك في عالم يموج بتداخلية المعلومات وقوة تأثير الأخبار الكاذبة في السيطرة على الرأي العام والسياسة الدولية، ما حدا بهذا المصطلح، كما جاء في قاموس أكسفورد، إلى أن يكون مصلطح العام 2016، خصوصاً وأن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل أقوى قوة اتصالية غير مشروطة، وقد وصفها تقرير"Twiplomacy 2017" بأنها "أقوى وسائل الدبلوماسية الدولية التي انتقلت من حيز اللاتفكير إلى أن أصبحت أول وسائل النفوذ، التي يفكر فيها الرؤساء ، يمثل فيها (تويتر) الأعلى استخداما لقوة أثره،" ما يشكل، وفق وصف الدراسة، (الباروميتر الدبلوماسي)، ليس في التحليل السياسي الدولي فحسب، بل في استشراف الأحداث السياسية والتنبؤ بمتغيرات العلاقات الدولية. الأمر الذي تؤكده تغريدات (رئيس جمهورية تويتر)، دونالد ترامب، الذي تصدر حسابه، يوم 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قائمة أعلى القادة عالميا من حيث المتابعين بـ 40 مليوناً. وهو الذي اعتمدت حملته الانتخابية سلفا، وإدارته لاحقا، على تناقض التصريحات على "تويتر"، فيما نسميها "السفسطة السياسية" القائمة على الجدل، والإسقاط، بل وإثارة العالم بالهراء، كتغريدته التي لن ننسىاها: "Covfefe.. " التي تصدرت التغطية الإعلامية والريتويت، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن"سفسطة" ترامب على "تويتر" هي ما جعلته يتجاوز، في متابعيه، حساب البابا فرانسيس الذي ظل مكتسحا "تويتر" سنوات، بل جعلت العالم خلفه يسهر ويختصمُ، شئنا أم أبينا، حتى لو اعتبرت خطأ مطبعيا تعمّد نشره... او تأخر في مسحه! لسنا لنبرئ فيه ترامب، فالترامبيات التويترية ظاهرة لا تسير اعتباطا في اكتساح الإمبراطورية الرقمية التي باتت تكنيك النفوذ السياسي العالمي اليوم.
وقد عزا ترامب، في مقابلة مع "فاينانشال تايمز" في إبريل/ نيسان 2017، لتويتر وجوده
أما الجيوش الإلكترونية فهي بضاعة العصر الدولية وسلاحه، والتي باتت الدول تخصص لها ميزانياتٍ ضخمة، لما وعته من قدرتها النافذة محليا ودوليا على تحويل القضايا المصيرية إلى قضايا جانبية، بحرف فكر المجتمع وبوصلة أولوياته، وتسطيح اهتماماته للتحكم في تشكيل رأي عام، يتوافق مع سياساته، فضلا عن أثرها في النفوذ الحربي بتسليط الجيوش الرقمية على دول أخرى، فيما بات معلوما علميا بـ "الحروب الرقمية" بتشكيل حسابات على نوعين: حسابات آلية، أو حسابات وهمية تديرها الحكومات "اللجان الإلكترونية"، والتي ثبت فيها إغراقها المنصات بوابل من الكذب، فيما تناول العلم دراسته اليوم بمسمى"fake news techniques ".
الإغراق بالجيوش الإلكترونية ثبت سياسياً في ما نشرته الصحف عن تواطؤ روسي- ترامبي للحسابات الآلية (Trolls)، لمناصرة حملة ترامب الانتخابية على "فيسبوك" ضد خصمه هيلاري كلينتون في العام 2016. وما ثبت استخدامه أيضا من تواطؤ جيوش إلكترونية خليجية مبرمجة ضد قطر في "أزمة سحب السفراء عام 2014"، واشتدت ضراوته في الحرب الرقمية المجنّدة من كل دول الحصار ضد دولة قطر في 2017. ودول الخليج العربي تكتسح نفوذ "تويتر"، بل وتحتل المواقع الخمسة الأولى عالميا على أربع منصات رقمية، كما ورد في أحدث تقرير لوسائل التواصل الاجتماعي 2017 لكلية محمد بن راشد للإدارة.
وادي السيليكون.. إمبراطورية خَطِرة! لن تحتاج "سفراء تكنوبلوماسيين" فحسب، فالأمر لم يعد من مترادفات الإعلام ولا الشؤون الخارجية فقط، بل يحتاج شخصية جامعة ثلاثية الأبعاد، بحضور رقمي واستراتيجية قادمة بقوة تتزعمها "وزارات الدفاع".
Twitter: @medad_alqalam
دلالات
مريم الخاطر
كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.
مريم الخاطر