09 نوفمبر 2024
رسالة فدوى.. كيف نمسح الأحمر بالأبيض
الحزن على موت فدوى سليمان، بحجم الحزن على موت أي سوري في الحرب الجارية الغادرة، فدمها مثل كل الدم السوري، وخلاياها لا تحمل جينة إضافية تتميز بها عن باقي السوريين، لكن لموتها طعم الفجيعة المر الحارق الكاوي، إنه يشبه إعدام الأمل الغائص في لجة عميقةٍ عاتمةٍ، بعد أن استمرت حياته نابضةً على نسغ هذا الحلم، حلم النجاة.
لا يمكن فك الارتباط بين موتها والمصير السوري الذي لم يعد وصفه ممكنًا، كما لم تعد الشاشات التي تفننت في عرضه قادرةً على فبركة صور ومشاهد جديدة، بعد أن وصلت عروضها المواكبة للحدث السوري، أو التي سبقته أحيانًا، إلى تحقيق الهدف بنسبة تفوق المائة في المائة، أو تزيد عن الطموح المرتجى.
فدوى سليمان، المرأة المستضعفة في مجتمع ذكوري يعيش تحت ظل نظام قمعي شمولي، المنحدرة من بيئة "علوية"، مثلما يفرض الواقع الراهن ذكر هذا المنبت، إكمالا لشروط الهوية السورية الجديدة التي فرضتها سبع سنين، ليست "عجافًا"، فالقحط سيتصدر الحياة بعد حين، بل سبع سنين من البيادر التي تشوى فيها الأجساد والأرواح، فدوى سليمان ممثلة المسرح التي لم تغادر خشبته إلا إلى كفنها، تاركة صدى صورتها يتردد في وجدان الشعب الذي أسكنته بين القلب ونبضه، بعد أن أسدلت الستارة على المشهد الأخير، حيث كانت فدوى، البطلة الوحيدة في نصها التراجيدي، تذوي مثل شمعة في انطفائها الأخير.
عندما صمتت فدوى "الحزينة"، وعضّت على جرح خيباتها، هي المرأة الحرّة التي لم يرَ فيها بعض المعارضين "الثوار"، وبعض الموالين، غير "علويتها"، فوصمت بالخيانة مرتين، نسيها من يدقّون على طبول الثورة، ليقضّوا مضاجع النائمين في المريخ، بعد أن أشاح العالم بوجهه عنهم، وحوصروا بعزلةٍ ما زالت تضيق حدودها بهم، منذ خذلوا الشعب المنكوب، فأخرسوه
بوعودهم المؤجلة، بعد أن انتزعوا منه صك وكالةٍ حصرية، عند صمتها استمرؤوا نسيانها، وعندما ماتت دقّوا طبولهم من جديد، منهم من يريد أن يجعلها بطلةً، ومنهم من عمد على تسفيهها، منهم من رسمها شيطانًا، ومنهم رأى فيها ملاكًا، بل منهم من استنكر نعيها، باعتبارها "كافرة".
وقد كانت فدوى "الكافرة" بالنسبة إلى نفسها ليست أكثر من "فدوى" المرأة السورية التي تمرّدت على السلاطين الجائرة كلها، وانتفضت في وجه الاستبداد، من استبداد الأسرة إلى الطائفة إلى الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية، انتمت إلى إنسانيتها ودافعت عن الحقوق المهدورة، واستصرخت الضمائر لتلتفت إليها، وإلى الظلم المطبق على أرواح السوريين. كانت أعمق من محيطٍ عذب، وتحمل صدرًا أوسع من فضاء. هي التي حملها ورمها الخاص، وصارعته بمفردها، لتتحدّى السرطان الأخطر بمحبةٍ تسامت فوق أوحال الواقع السوري المستحدث من طمي الحرب. تقف في إحدى الساحات الفرنسية، لتشارك السوريين في دعم الانتفاضة التي في الداخل، لم تعتبر موقف أحد الأشخاص المؤثرين من الطائفة "النصيرية"، كما يسميها في تصريحاته العلنية، ولا اتهامه نساءها بالفجور والتهتّك الأخلاقي والانحلال، وهو اليساري العتيد السابق الذي كانت له كتبه وأبحاثه في قضايا الشعوب، لم تعتبره موقفًا شخصيًا ثأريًا مطلوبا منها الرد عليه، فهي صاحبة الصدر الواسع والانتماء الشاسع السامق الشامخ إلى سورية، وشعب سورية هو القضية الأساسية، والمحبّة وحدها رسالةٌ جديرة بحمل الصليب إلى الجلجلة، علّ نزيفها يرجع أمثاله عن غيهم، فيعودون إلى الالتصاق بجسد الشعب، ويساهمون بترميم ما انعطب من روحه، ورتق ما يتفتق من جروحه.
"كيف نمسح الأحمر بالأبيض؟" كان هذا سؤالها ومنه رسالتها، على الرغم من أنها كانت ترى "الممر المظلم أمامي كان الزمن ما يزال يسيل فيه". لكنها مشت في درب غربتها وتغريبتها، كانت حاملةً المحبة في قلبها، ورسالة السلام في صدرها، مؤمنة بعمق بدور الفن، وقدرته على التغيير. لم يقتصر اهتمامها على الشعب في الداخل السوري، بل تابعت السوريين في بلدان اللجوء، بغض النظر عن موقفهم من الحراك أو الحرب، فللسوريين قضايا أخرى، فرضت نفسها ملحقا لمأساة العصر التي ألمت بهم، قضايا يفرضها منطق اللجوء وطباعه.
أرادت فدوى أن تشتغل هناك على مستويين، مستوى اللاجئين أنفسهم، بحماية وعيهم من التلوث، ومستوى مجتمع اللجوء لتسليط الضوء على الفرد السوري، صاحب التاريخ والحضارة الإنسانية، الفرد الذي تريد كل الأطراف الضالعة بمحنته أن تلبسه النقاب واللحية والعمامة،
وتحمّله السيف، وتجعل من نسائه قطيعًا يلحق حامل السيف. أرادت فدوى أن تزيل الغشاوة عن أبصار الشعوب الأخرى، وتمحو الصورة المشوّهة التي كرّسها الإعلام، وتقول للعالم إن السوري ليس إرهابيًا، و"داعش" ليست منا، وجبهة النصرة صادرت مجالنا الحيوي، وذلك كله لأننا أردنا حريتنا وكرامتنا وصرخنا في وجه نظام جائر مطالبين بهما، بصدورٍ عارية، فواجهنا الرصاص، وكان السلاح موفورًا من أجل لحظةٍ كهذه.
كانت فدوى سفيرة، ليس النيات الحسنة فقط، بل الأعمال الحسنة، والرسالة الحسنة، فعملت على "مسرحة" آلام الشعب السوري وقضاياه، وتوجّهت بعروضها الحية، والمقصود بـ "حية" هنا أنها العروض التي كانت تعيش أدوارها في تلك اللحظة التي تمّحي فيها الحدود بين التمثيل والحياة، فقد كانت تعيش الحياة التي امتلأت بقضية وطنها وشعبها على الأرض، في الشارع في الميادين في الوقفات الجماعية، مستعيضةً بها عن الخشبة، لتصنع مسرح الحياة، وتجعل الحياة ممسرحة حالمة بأن تختصر السبل إلى قلوب الناس ووعيهم، منذ اعتلت المنابر المرتجلة في ساحة الساعة في حمص، لتعيش دورها، مثلما لو أنها تنقلب مثل القفازات، وتصدح بصوتها مخاطبة تلك الجموع التي خذلتها الغالبية، كانت تقف بجانب عبد الباسط الساروت. ويا لمهازل القدر، أو يا لسورياليته الفادحة، شخصيتان امتلكتا من الجماهيرية ما يكفي لتكونا محرّضتين للمشاعر الثورية في أسمى تطلعاتها، بما كانتا قد حققتاه، كل واحدة في مجال إبداعها من موهبةٍ ونجوميةٍ حاضرة في الوعي العام، افترقتا، بل فرّقهما السلاح وعسكرة الثورة، وليس هذا بسبب بسيط، إنه "الساطور" الذي قصم ظهر الثورة، ورماها تنزف دماء أبنائها تحت الشمس الجبارة، كما جبروت الأنظمة التي عاثت في بلادنا.
فدوى سليمان، لشدة التصاقها بقضايا شعبها، عاشت ألمه، وقاومت الموت منذ سطا السلاح على ثورته، فاحتضرت في ربيع عمرها، هي والثورة السلمية المدنية التي حلمت بها. هذا هو المؤلم في موتها حدّ الفجيعة.
لا يمكن فك الارتباط بين موتها والمصير السوري الذي لم يعد وصفه ممكنًا، كما لم تعد الشاشات التي تفننت في عرضه قادرةً على فبركة صور ومشاهد جديدة، بعد أن وصلت عروضها المواكبة للحدث السوري، أو التي سبقته أحيانًا، إلى تحقيق الهدف بنسبة تفوق المائة في المائة، أو تزيد عن الطموح المرتجى.
فدوى سليمان، المرأة المستضعفة في مجتمع ذكوري يعيش تحت ظل نظام قمعي شمولي، المنحدرة من بيئة "علوية"، مثلما يفرض الواقع الراهن ذكر هذا المنبت، إكمالا لشروط الهوية السورية الجديدة التي فرضتها سبع سنين، ليست "عجافًا"، فالقحط سيتصدر الحياة بعد حين، بل سبع سنين من البيادر التي تشوى فيها الأجساد والأرواح، فدوى سليمان ممثلة المسرح التي لم تغادر خشبته إلا إلى كفنها، تاركة صدى صورتها يتردد في وجدان الشعب الذي أسكنته بين القلب ونبضه، بعد أن أسدلت الستارة على المشهد الأخير، حيث كانت فدوى، البطلة الوحيدة في نصها التراجيدي، تذوي مثل شمعة في انطفائها الأخير.
عندما صمتت فدوى "الحزينة"، وعضّت على جرح خيباتها، هي المرأة الحرّة التي لم يرَ فيها بعض المعارضين "الثوار"، وبعض الموالين، غير "علويتها"، فوصمت بالخيانة مرتين، نسيها من يدقّون على طبول الثورة، ليقضّوا مضاجع النائمين في المريخ، بعد أن أشاح العالم بوجهه عنهم، وحوصروا بعزلةٍ ما زالت تضيق حدودها بهم، منذ خذلوا الشعب المنكوب، فأخرسوه
وقد كانت فدوى "الكافرة" بالنسبة إلى نفسها ليست أكثر من "فدوى" المرأة السورية التي تمرّدت على السلاطين الجائرة كلها، وانتفضت في وجه الاستبداد، من استبداد الأسرة إلى الطائفة إلى الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية، انتمت إلى إنسانيتها ودافعت عن الحقوق المهدورة، واستصرخت الضمائر لتلتفت إليها، وإلى الظلم المطبق على أرواح السوريين. كانت أعمق من محيطٍ عذب، وتحمل صدرًا أوسع من فضاء. هي التي حملها ورمها الخاص، وصارعته بمفردها، لتتحدّى السرطان الأخطر بمحبةٍ تسامت فوق أوحال الواقع السوري المستحدث من طمي الحرب. تقف في إحدى الساحات الفرنسية، لتشارك السوريين في دعم الانتفاضة التي في الداخل، لم تعتبر موقف أحد الأشخاص المؤثرين من الطائفة "النصيرية"، كما يسميها في تصريحاته العلنية، ولا اتهامه نساءها بالفجور والتهتّك الأخلاقي والانحلال، وهو اليساري العتيد السابق الذي كانت له كتبه وأبحاثه في قضايا الشعوب، لم تعتبره موقفًا شخصيًا ثأريًا مطلوبا منها الرد عليه، فهي صاحبة الصدر الواسع والانتماء الشاسع السامق الشامخ إلى سورية، وشعب سورية هو القضية الأساسية، والمحبّة وحدها رسالةٌ جديرة بحمل الصليب إلى الجلجلة، علّ نزيفها يرجع أمثاله عن غيهم، فيعودون إلى الالتصاق بجسد الشعب، ويساهمون بترميم ما انعطب من روحه، ورتق ما يتفتق من جروحه.
"كيف نمسح الأحمر بالأبيض؟" كان هذا سؤالها ومنه رسالتها، على الرغم من أنها كانت ترى "الممر المظلم أمامي كان الزمن ما يزال يسيل فيه". لكنها مشت في درب غربتها وتغريبتها، كانت حاملةً المحبة في قلبها، ورسالة السلام في صدرها، مؤمنة بعمق بدور الفن، وقدرته على التغيير. لم يقتصر اهتمامها على الشعب في الداخل السوري، بل تابعت السوريين في بلدان اللجوء، بغض النظر عن موقفهم من الحراك أو الحرب، فللسوريين قضايا أخرى، فرضت نفسها ملحقا لمأساة العصر التي ألمت بهم، قضايا يفرضها منطق اللجوء وطباعه.
أرادت فدوى أن تشتغل هناك على مستويين، مستوى اللاجئين أنفسهم، بحماية وعيهم من التلوث، ومستوى مجتمع اللجوء لتسليط الضوء على الفرد السوري، صاحب التاريخ والحضارة الإنسانية، الفرد الذي تريد كل الأطراف الضالعة بمحنته أن تلبسه النقاب واللحية والعمامة،
كانت فدوى سفيرة، ليس النيات الحسنة فقط، بل الأعمال الحسنة، والرسالة الحسنة، فعملت على "مسرحة" آلام الشعب السوري وقضاياه، وتوجّهت بعروضها الحية، والمقصود بـ "حية" هنا أنها العروض التي كانت تعيش أدوارها في تلك اللحظة التي تمّحي فيها الحدود بين التمثيل والحياة، فقد كانت تعيش الحياة التي امتلأت بقضية وطنها وشعبها على الأرض، في الشارع في الميادين في الوقفات الجماعية، مستعيضةً بها عن الخشبة، لتصنع مسرح الحياة، وتجعل الحياة ممسرحة حالمة بأن تختصر السبل إلى قلوب الناس ووعيهم، منذ اعتلت المنابر المرتجلة في ساحة الساعة في حمص، لتعيش دورها، مثلما لو أنها تنقلب مثل القفازات، وتصدح بصوتها مخاطبة تلك الجموع التي خذلتها الغالبية، كانت تقف بجانب عبد الباسط الساروت. ويا لمهازل القدر، أو يا لسورياليته الفادحة، شخصيتان امتلكتا من الجماهيرية ما يكفي لتكونا محرّضتين للمشاعر الثورية في أسمى تطلعاتها، بما كانتا قد حققتاه، كل واحدة في مجال إبداعها من موهبةٍ ونجوميةٍ حاضرة في الوعي العام، افترقتا، بل فرّقهما السلاح وعسكرة الثورة، وليس هذا بسبب بسيط، إنه "الساطور" الذي قصم ظهر الثورة، ورماها تنزف دماء أبنائها تحت الشمس الجبارة، كما جبروت الأنظمة التي عاثت في بلادنا.
فدوى سليمان، لشدة التصاقها بقضايا شعبها، عاشت ألمه، وقاومت الموت منذ سطا السلاح على ثورته، فاحتضرت في ربيع عمرها، هي والثورة السلمية المدنية التي حلمت بها. هذا هو المؤلم في موتها حدّ الفجيعة.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024