ربيع الجزائر بين الإرث الشمولي وإرادة التحرّر

10 مارس 2019
+ الخط -
لم يصدّق متابعون كثيرون مطالبة الجزائريين منذ شهر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعدم تجديد عهدته، وذلك لعوامل عدة، لعل أهمها الذاكرة الموجوعة من عشرية سوداء، كان الإرهاب قد أتى فيها على عشرات آلاف الأرواح البريئة، عشرية تمزّقت فيها أنسجة المجتمع مللا ونحلا، فكان أن نسفت تطلعات الجزائريين، وأدخلت البلاد في حربٍ أهليةٍ ما زالت أشباحها وكوابيسها جاثمةً على خيال الجزائريين. عزفت النخب الجزائرية بعد ذلك عن أي تحرّكٍ، وآثرت الأمن والسلم على التغيير والاحتجاج. تعمد الشعوب عادة في مثل هذه المحن القاسية إلى تغيير أولويتها، وتزهد في مسائل عديدة على غرار الحرية والديموقراطية في مقابل إعلاء الأمن مكانةً حيويةً، يحدث ذلك ضمن سيرورات معقّدة، لا تنجو من توظيفاتٍ تستفيد منها السلطة عادة.
تتالى رؤساء الجزائر، مند تسعينيات القرن الفارط، في سياقات مختلفة، التهم الإرهاب أحدهم (محمد بوضياف)، وكانت حصيلة بعضهم هزيلة، حتى قدم عبدالعزيز بوتفليقة الذي اجتهد في طي صفحة الماضي، فقد دحر الإرهاب في عهده تقريبا، وتحسّنت أحوال الناس اقتصاديا واجتماعيا. عوامل عديدة أسندته، لعل أهمها ارتفاع عائدات النفط في بلد له تقاليد ريعية عريقة، تماسُك المؤسسة العسكرية وكفاءتها وعقيدتها القتالية أو مكانتها الهائلة، ضعف التدخل الإقليمي والدولي في الشأن الجزائري.. إلخ. أخطاء عديدة ارتكبت في العشريتين اللتين تولى فيهما الرئيس بوتفليقة الحكم، لعل أهمها التضييق على الحريات، تشويه الديموقراطية، وتداخل أجهزة الدولة مع دوائر نفوذ أخرى، هي مزيج من عائلات وشلل ومراكز نفوذ تجد في الدولة العميقة جيوبا وسراديب تلوذ إليها. كان بعض ذلك امتدادا للإرث السياسي للجزائر منذ الاستقلال أو حتى قبله، وكان بعض آخر مستجدا يحمل بصمات الدوائر المحيطة برئيسٍ باغته 
المرض، فارتبك أداؤه، وتوسّعت الفرص السانحة للتكلم باسمه، والمبادرة تحت ظله، ولافتته، من دون أن يكون للشعب الجزائري اليقين أن الرئيس بوتفليقة هو فعلا من يخطط ويقرّر في تلك المسائل، فأدت هذه الوضعية الصحية إلى أزمة أخلاقية وسياسية مركبة.
يحافظ النظام منذ الاستقلال على ملامحه: مؤسسة عسكرية قوية لها، في مفارقةٍ، نفوذ مدني قوي، يتسع ليشمل، بشكل أو بآخر، عالم الأعمال والإدارة والاقتصاد، قوى مدنية ضعيفة، وحزب حاكم متغلغل في النسيج السياسي والإداري، معارضة ضعيفة أو واجهة لتعدّدية مشوّهة. خارج هذا المشهد، تتسم الحياة السياسية بالانغلاق، ما جعل أجيالا كاملة خارج دوائر المشاركة السياسية.
خرج الشعب الجزائري من محنة الإرهاب محافظا زاهدا في التغيير، محبّذا الاستمرارية، وتخلى، تحت تلك الفواجع، عن بعض تطلعاته: ديموقراطية تتيح التداول السلمي على السلطة وتوسيع دوائر الحريات الفردية والجماعية، دولة مدنية يقف فيها الجيش على مسافة واحدة من الفرقاء السياسيين، غير أن الربيع العربي أيقظ تلك الأحلام، والتي راودت جيلا لم يعش العشرية السوداء بكل آلامها، فهذا الجيل الهادر في الشوارع تنتهي إليه سرديات مخيفة. ومع ذلك، لا يريد أن يظل يدفع فاتورتها إلى الأبد. يكفيه، حسب اعتقاده، ان آباءه دفعوا ثمنا باهظا، حين ضحوا، تحت وطأة الإرهاب، بأرواحٍ عزيزة، وتنازلوا فيما بعد عن أشواق الحرية التي راودتهم.
يدخل الجزائريون، هذه المرة، ربيعهم الخاص (وقد اختاروا شهر مارس، أول أشهر الربيع موعدا لتحرّكاتهم الاحتجاجية)، وأمامهم حالات الفشل الذريع التي آلت إليها أوضاع جيرانهم وأشقائهم في ليبيا ومصر وسورية وغيرها. ويرون أيضا حالة نجاح وحيدة، على الرغم من عيوبها، في جارتهم وشقيقتهم تونس. سيحرص الجزائريون، من دون استثناء، على إنجاح تحرّكاتهم، خصوصا وقد اعترف لهم الرئيس بوتفليقة (إن صح ذلك) بشرعية مطالبهم تلك (هيئة مستقلة للانتخابات، دستور جديد، ندوة وطنية جامعة لكل الفرقاء السياسيين، انتخابات مبكرة لن يترشّح لها..)، وهي الشرعية التي أقرّ بها أيضا رموزٌ من الحركة الوطنية الجزائرية وهيئاتها الأكثر رمزيةً ووجاهةً.
سيتطلب ذلك مشوارا طويلا وعسيرا، خصوصا في ظل خصوصيات جزائرية سياسية وتاريخية، طبعت المقاومة الجزائرية ودولتها الوطنية فيما بعد، فهذه الخصوصيات هي التي ستملي على الجزائريين حلولهم التي لن يستلهموها من أحد، بل من تاريخهم الخاص: مؤسسة عسكرية قوية، مجتمع مدني ضعيف، وشباب تائق إلى التغيير، ولا يريد أن يدفع وبالأقساط 
المملة ثمن عشرية سوداء، حبست انتقالا ديموقراطيا حقيقيا، يبدو أنه غدا مطلبا ملحّا لأجيال شابة وطموحة.
ثمّة فارق نوعي بين احتجاجات 2011 التي أعقبت الثورات العربية، وقد كانت في بدايتها آنذاك، والجاري حاليا. الشعارات السياسية تغيرت، لتنصبّ على مسائل سياسية، في مقدمتها مناهضة العهدة الخامسة، من دون إغفال التنديد بالفساد، سلمية التظاهرات، مع اختفاءٍ لافت للشعارات ذات الخلفية الدينية أو الإثنية والمناطقية، وتعبئة كبرى شكلت فارقا نوعيا.
لقد منحت هذه التحرّكات فرصة لاكتشاف فاعلين جدد، مدنيين وسياسيين، يتدربون بمشقةٍ على إدارة الاحتجاج والتعبئة وربما التفاوض، ذلك أن من الصعب أن تظل هذه التحرّكات عفوية، على الرغم من غياب زعامات بارزة. ولكن شبكات التواصل الاجتماعية، فضلا عن الجامعيين والمحامين، ورموز مدنية وحقوقية، دورا مهما في تأطير ما يحدث. المكسب المهم الذي سيصنع الفرق اعتراف النظام بشرعية المطالب تلك. وهي ثغرةٌ تفتح في من أنكر على هؤلاء حقهم في الاحتجاج، بذرائع عديدة تتوزع بين مخاوف الانزلاق والاستكانة إلى طيبات الريع.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.