رؤية أفريقية لثورة يوليو 1952
ارتبطت أفريقيا بثورة يوليو 1952 في مصر ارتباطاً جلياً، سواء على المستوى الفكري أو السياسي؛ فقد وردت الدائرة الأفريقية في كتيب "فلسفة الثورة" الذي ضمّ بين دفتيه خواطر "لاستكشاف الظروف المحيطة" بمصر، وحلت ثانيةً بعد الدائرة العربية، وقبل الدائرة الإسلامية، في ترتيب الأهمية، وصف خلالها جمال عبد الناصر عدم استطاعة مصر الوقوف بمعزل عن الصراع "بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفريقيين"، مشدداً على تطلع شعوب القارة إلى مصر، حارسة الباب الشمالي للقارّة، وصلتها بالعالم الخارجي كله، إضافة إلى سريان النيل من قلب القارّة. وفي مقابل هذا التصور المثالي للدور المصري في أفريقيا، وما صادفه من عمل معقد ومتراكم بشكل لافت في ساحة دعم حركات التحرّر الأفريقية والعمل الأفريقي الجماعي، تواترت رؤى أفريقية متنوعة للغاية لثورة يوليو، تقاطعت فيها الثوابت والمتغيرات حتى بعد وفاة عبد الناصر.
وقد مثلت قيادة عبد الناصر الحالة الأبرز، عربياً، للانخراط في عمل الوحدة الأفريقية، منذ لحظاتها الأولى، كما تبلور، حسب المفكر النيجيري أديويّ أكينسانيا (Adeoye Akinsanya) في مقال له عن التحالف العربي الأفريقي (1980)، في تقدير مفكرين أفارقة كثيرين، اضطلاع الثورة المصرية بقيادة القارّة، بل وتأمين مسيرتها نحو الاستقلال، حيث أصبحت القاهرة موطناً للمنفيين الأفارقة، وعاصمةً لمقاتلي الحرية الأفارقة الذين حصلوا على دعم مادي ولوجستي ومعنوي من الحكومة المصرية. ولاحظ أن هذه الصلات اكتسبت طابعاً مؤسساتياً عبر مؤتمر تضامن الشعوب الأفروآسيوية (القاهرة، ديسمبر/ كانون الأول 1957)، على الرغم مما اعتبره بعضهم انحرافاً قوياً للمؤتمر عن تقاليد الوحدة الأفريقية (ربما في تجسيد لرؤية أفريقية أحادية للدور المصري وإشكالاته) ومبادئ مؤتمر باندونغ بتوجيه الدعوة إلى الاتحاد السوفييتي للمشاركة الكاملة، وإن مثل أول محاولةٍ رئيسة لعبد الناصر في تنظيم حركات التحرّر الأفريقية تحت قيادته.
مثلت قيادة عبد الناصر الحالة الأبرز، عربياً، للانخراط في عمل الوحدة الأفريقية، منذ لحظاتها الأولى
يمكن ملاحظة تجسّد ثبات (وتغير) الرؤية الأفريقية لثورة يوليو وسياساتها بشكل واضح في حالة الزعيم الغاني كوامي نكروما (1957-1966). ففي إشارة مهمة، وفي سياق انتقادي في واقع الأمر، أكد جورج بادمور (G. Padmore) المفكر الوحدوي البارز، وأهم مستشاري نكروما السياسيين، الدور الكبير لناصر ونكروما في نقل مفهوم الوحدة الأفريقية من فكرة خصوصية التجربة الأفريقية، وتميز دور الشتات الأفريقي بها، إلى التماهي مع حركة عدم الانحياز، وبلورة دور واضح للقارة الأفريقية، وأبنائها في المقام الأول، في ما سيعرف لاحقاً بالجنوب العالمي (Global South). وفي المقابل، عبر نكروما، خلال لقائه الرئيس الأميركي، أيزنهاور (1958)، عن قلقه العميق إزاء وضع السلام في الشرق الأوسط. وتقاربت مواقفه مع مواقف ثورة يوليو في ضرورة عدم الدخول في أحلاف عسكرية أو إقامة قواعد عسكرية ورفض اختبار الأسلحة النووية في الأراضي الأفريقية.
تخوف نكروما التقليدي من قيادة الاتحاد السوفييتي عملية التخلص من الاستعمار، وتبنّي عبد الناصر القومية العربية إلى جانب حركة الوحدة الأفريقية
ومثّل المفكر وليام دوبوا، صاحب قصيدة السويس (ديسمبر/ كانون الأول 1956) التي مجّدت "فرعون النيل" (عبد الناصر) الذي "هزم الأسد البريطاني" في استلهام فريد لمثال زعيم أفريقي قوي في مواجهة قوى الاستعمار الأوروبي، مثّل حالة ثبات رؤية ثورة يوليو ومسارها نموذجاً رائداً لحركة التحرّر الأفريقية حتى بعد الاستقلال. ونصح دوبوا نكروما ببناء دولة اشتراكية سبيلاً وحيداً لهزيمة قوى الاستعمار الجديد، ولا سيما أن الرأسمالية، بيضاء أو سوداء، لن تأتي مطلقاً بتنمية حقيقية في أفريقيا. بينما تبنّى بادمور (توفي في 1959) فكرة الراديكالية المفرطة لسياسات ثورة يوليو ونظامها. وحضرت الثورة في قلب جدل مستمر بين دوبوا (التجأ إلى غانا في أيامه الأخيرة فراراً من تضييق أميركي عليه على خلفية تحيزاته الشيوعية) وبادمور. ففي خطاب أرسله الأول إلى الثاني في مارس/ آذار 1957، حثّه على الإلحاح (على نكروما) بضرورة التقارب مع عبد الناصر (والسودانيين). وفي هامش آخر، سعى بادمور، الذي قوبل في القاهرة بفتور واضح خلال مؤتمر التضامن، إلى التخلص من الأفكار الاشتراكية التي كان يتبناها نكروما، وزرع الخلاف بينه وبين عبد الناصر.
وعلى الرغم من ملاحظة تقارب أفكار نكروما وعبد الناصر في السياسة الأفريقية، رأى مفكّرون أفارقة، استعرضهم م. جريلي (M. Grilli) في مؤلفه الصادر في Nkrumahism and African Nationalism) 2018)، ثلاث عقبات رئيسة في تحقيق تعاون على الأرض بينهما، وهي صلة القاهرة بموسكو الوثيقة، وتخوف نكروما التقليدي من قيادة الأخيرة عملية التخلص من الاستعمار، وتبنّي عبد الناصر القومية العربية إلى جانب حركة الوحدة الأفريقية، وهو ما اعتبره نكروما، في وقت مبكر، أمراً غير مقبول، وأن الجمهورية العربية المتحدة أقوى اقتصادياً من غانا، وبالتالي، وبفضل الدعم السوفييتي، توقع أن تتفوق مصر سياسياً على غانا؛ ما اعتبره بعضهم تأثيراً على فرص التعاون الإسرائيلي الغاني، وافتراقاً عن رؤية جورج بادمور المنحازة إلى إسرائيل.
نصح دوبوا نكروما ببناء دولة اشتراكية سبيلاً وحيداً لهزيمة قوى الاستعمار الجديد، سيما أن الرأسمالية، بيضاء أو سوداء، لن تأتي مطلقاً بتنمية حقيقية في أفريقيا
إضافة إلى مفارقة تاريخية، حيث تبنّت ثورة يوليو مقاربة واقعية للتحرّر الوطني، ولا سيما في النموذج الجزائري، عبر حركات المقاومة المسلحة ودعمها؛ بينما تبنّت غانا مقاربة أكثر "اعتدالاً" نسبياً، وحثّت الدول الأفريقية على اتباع سياسة عدم العنف أفضل وسيلة لتحقيق التحرّر الوطني في أفريقيا، ما مثّل لدى نخبة أفريقية ابتعاداً لفكر ثورة يوليو وعبد الناصر عن تقاليد مؤتمر مانشستر التي ظلت تمثل أعمدة سياسة حركة الوحدة الأفريقية، التي اعتنقها نكروما بشكل تام.
وبرز التغير في هذه الرؤية في مسألة استلهام نكروما تجربة القاهرة بتكوينه (1957) مكتباً تابعاً لجورج بادمور (على غرار الجمعية الأفريقية في القاهرة) يتولى أمور دعم حركات التحرّر الأفريقية مكوناً رئيساً في السياسة الخارجية الغانية، وإن تباين عن سياسات القاهرة في العمل على جذب النشطاء المعادين للاستعمار بعيداً عن النفوذ السوفييتي. وحدث التغير عندما تحوّل عمل المكتب إلى جهة رسمية (بعد وفاة بادمور) ليصبح "مكتب الشؤون الأفريقية"، وتبنّيه اتجاهاً راديكالياً منذ عام 1961 (في مقاربة واضحة للرؤية المصرية) بالعمل على توسيع شبكات غانا بحركات التحرّر في الخارج بإقامة معسكرات تدريب لجماعات معارضة مسلحة سرية، حسب إريك بيرتون (Eric Burton) في دراسته الوثائقية الهامة والموجزة "Hubs of Decolonization".
هكذا، ارتهنت الرؤية الأفريقية لثورة يوليو بعمق الحدث الوطني في مواجهة أعتى قوة استعمارية، وآليات التغيير التي انتهجها نظام يوليو، ولا سيما في مسألة دعم حركات التحرّر الأفريقية بما يتجاوز المواقف الدعائية، والقناعات المتغيرة لنخبة أفريقية في مرحلة الانتقال نحو الاستقلال الوطني، إلى جانب تقاطعات أيديولوجية استقطابية في حقيقة الأمر، مثل الدور المصري في الشرق الأوسط، ومواقف النخب الأفريقية من "إسرائيل"، وتنميط الصلة العربية - الأفريقية برمتها.