اليابان في أفريقيا من مبدأ يوشيدا إلى شعار الأمن الإنساني

11 يوليو 2022

رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي يتحدّث إلى مؤتمر "تيكاد" في يوكوهاما (20/8/2019/فرانس برس)

+ الخط -

يبدو من متابعة توجهات السياسة الخارجية اليابانية تجاه أفريقيا بعد الأزمة الأوكرانية أن طوكيو تسعى إلى انخراط أكثر جدّية ومتعدد الأوجه في شؤون القارة السمراء، ضمن مساعٍ أشمل لتحقيق توازن في "النظام الدولي" بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.

تجري، منذ نهاية مارس/ آذار الماضي على الأقل، الترتيبات على قدم وساق لعقد مؤتمر طوكيو الدولي الثامن حول التنمية الأفريقية - تيكاد (تونس أغسطس/ آب 2022) بحضور ممثلين من 50 دولة أفريقية، واختتمت هذه المحادثات التحضيرية بتوصيات تتعلق بالجهود اليابانية الأفريقية لمواجهة تداعيات جائحة كوفيد- 19، والحرب في أوكرانيا وتعهدات وزير الخارجية الياباني، يوشيماسا هاياشي، بزيادة تعاون اليابان مع أفريقيا "التي تعاني من تضاعف هشاشتها الاقتصادية والاجتماعية" ويتعمّق اعتمادها على الصين.

واتضح من المداولات أن المقاربة اليابانية الأفريقية تقوم، ضمن محدّدات أخرى، على تكريس اعتبار الحرب في أوكرانيا تغيرًا أحاديًا للوضع القائم بالقوة، وأنها تشكل انتهاكًا للقانون الدولي، وتهز كل أسس "النظام الدولي". ثم تأتي مسألة "التنمية الأفريقية" حيث ترى اليابان أن الوقت قد حان "لبناء مجتمع مستدام"، وأنها ستواصل دعم تحقيق التنمية الأفريقية، وأهداف التنمية المستدامة، مع التأكيد على "الأفراد" و"النمو النوعي"، وعزم اليابان على تحقيق ما أسمتها "منطقة المحيطين الهندي - الباسيفيك حرة ومفتوحة" Free and Open Indo-Pacific، بالتزامن مع استكشاف اليابان فعليًا، كما حال عديدين من شركاء أفريقيا الكبار، فرص الاستفادة من منطقة التجارة الحرة القارّية الأفريقية (AfCFTA)، وأخيرًا العمل المشترك على بناء اقتصادات قوية عبر معالجة مسائل تمويل التنمية وتعزيز الاستثمار الخاص، "وتحقيق مجتمعات مستدامة، بما في ذلك إجراءات مواجهة فيروس كورونا المستجد"، وتحقيق السلم والاستقرار، بما يشمل تعزيز الديمقراطية وحكم القانون، سيما تحقيق إصلاح مجلس الأمن الدولي على وجه السرعة، وتقوية التعاون مع أفريقيا في هذا الخصوص. وعلى الرغم من تأكيد هاياشي عدم إفراد الصين بأية مناقشة في المحادثات التمهيدية، فإن محللين رأوا ان الدافع الأكبر للنشاط الياباني المرتقب تصاعده في أفريقيا مزاحمة النشاط الآسيوي (الصيني والهندي)، وتعزيز اليابان دورها التقليدي (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) أساسا "آسيويا" للنظام العالمي "الغربي"، في الساحة الأفريقية في الحال هذه. ولكن هذا التوجه الياباني يبدو مفهومًا تمامًا عند وضعه في سياقاته التاريخية، منذ ظهور "مبدأ (رئيس الوزراء الياباني) يوشيدا" شيجيرو، واتضاح ملامح سياسات اليابان الأفريقية، وفق تعريف مبسّط بالتركيز على الإنتاج الاقتصادي، مع تبني موقف الولايات المتحدة إزاء قضايا الأمن والسياسة الدولية.

حكم "مبدأ يوشيدا" سياسة اليابان الخارجية حتى مطلع الألفية الحالية، حيث كان يوشيدا أول من رأى استغلال المادة التاسعة من الدستور الياباني

مبدأ يوشيدا

يجمع باحثون متخصصون في سياسة اليابان الخارجية على صعوبة وضع صياغة واضحة لها في الفترة من خمسينيات القرن الماضي حتى منتصف الثمانينيات، في ظل عقبات الحرب الباردة المزمنة، وصلات اليابان الأوثق مع آسيا (واستئثارها بتوجهات اليابان الخارجية، لا سيما في مجال المساعدات الاقتصادية) وافتقارها لطموحات سياسية في أفريقيا إلى جانب تضاؤل اهتماماتها الاقتصادية بالقارّة، واكتفت اليابان "بمجرد ضبط مصالحها لملائمة الحلفاء أو تهدئة المنتقدين"([1]). وقد حكم "مبدأ يوشيدا" (صيغ رسميًا في العام 1977) سياسة اليابان الخارجية حتى مطلع الألفية الحالية، حيث كان يوشيدا أول من رأى استغلال المادة التاسعة من الدستور الياباني، في ظل وجود القوات العسكرية الأميركية و"المظلة النووية" لحماية اليابان والحظر الدستوري على القوات العسكرية (الهجومية، "والاستفادة" من هذا الظرف في تحقيق تنمية اقتصادية سريعة، من دون تحمل أعباء اقتصادية "لوجود جيش في وضع الاستعداد يمكن أن يستنزف الموارد المطلوبة بشدّة لإعادة بناء الاقتصاد"، وأتاح مبدأ يوشيدا لليابان نموًا اقتصاديًا ملفتًا في سنوات الحرب الباردة، مع احتفاظها بمستوى أدنى من قدرة عسكرية للدفاع عن النفس واتساق سياساتها الخارجية، بما فيها الأفريقية، تمامًا مع سياسات الولايات المتحدة)[2])

وفي تجسيد معمّق لمبدأ "يوشيدا"، بدأت اليابان في عهد إدارة جورج بوش (1989-1993) في المطالبة بتوسيع شراكتهما العالمية، لتتجاوز آسيا إلى أفريقيا، بما في ذلك مشروطيتها السياسية، بخصوص الضمانات القانونية والمؤسساتية لحقوق الإنسان والديمقراطية، وكذلك تبنّي شروط "أنعم" للمساعدات، مثل الدعم البيئي للمنظمات غير الحكومية والتعليم الأساسي ومشروعات السكان. لكن الانخراط الياباني في مساعدة أفريقيا، ونجاحها في صياغة مهمة لأجندة "ميثاق مساعدات التنمية الرسمية" ODA Charter (1992) وبدء أنشطة "تيكاد" (1993) في وقتٍ بدأت فيه الولايات المتحدة سياسة "فكّ الارتباط" بأفريقيا بعد مقتل 18 جنديا أميركيا في مقديشو (في نفس شهر إطلاق "تيكاد")، والابتعاد التام عن صراعات أفريقية، مثل الإبادة في رواندا، وتراجع المساعدات الأميركية لأفريقيا (جنوب الصحراء) من 2.4 بليون دولار في العام 1993 إلى 1.6 بليون دولار في العام 2006، ومناقشة إدارة بيل كلينتون "إلغاء الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، قبل أن تعود أفريقيا إلى أجندة الوكالة الأميركية على خلفية "الحرب على الإرهاب"، وغيرت التطورات الأميركية في سياسة المعونات اليابانية، ولعبت دورًا مهمًا في توسع أنشطة "تيكاد" في أفريقيا، وتم ربط هذه المعونات بفكرة الأمن العالمي Global Security، وأصبحت مساعدات التنموية اليابانية أداة مهمة لمواجهة الإرهاب دعما للعمليات الأميركية على "طالبان"([3]).

اليابان والصين في أفريقيا .. حصان طروادة "الأميركي"

مثلت سياسة اليابان تجاه الصين فيما بعد الحرب العالمية الثانية التجسيد الأبرز لسياسة الأولى التي تعرف "بالواقعية المتحفظة" reluctant realism، وأرسى هذه الاستراتيجية أيضًا يوشيدا شيجيرو، والذي توقع أن تحقق اليابان والغرب، في النهاية، فصلًا للصين عن موسكو، بتقديم بديل عن الاعتماد على الاتحاد السوفييتي. ورأى يوشيدا أن الصين المزدهرة ستكون حتمًا صديقة لليابان والولايات المتحدة، وجاء في صلب رؤيته الإيمان بمبادئ الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الصين، وأنه يعزّز قوة اليابان الاقتصادية الصاعدة، وثبتت، في السنوات التالية، صحة رؤية يوشيدا، سيما بعد زيارة الرئيس نيكسون الصين في العام 1972. لكن تحولات ما بعد الحرب الباردة وبروز الصين قوة آسيوية اقتصادية منافسة لليابان، وتضرر الاقتصاد الياباني، بعد "حرب الخليج" قادت إلى حذر بالغ من طوكيو إزاء التوسّع الصيني في آسيا، ثم في أفريقيا لاحقًا؛ وظهر ذلك في العام 1993، مع ضغط اليابان علنًا على الصين، لاتباع "شفافية عسكرية أكبر" وتعليق طوكيو منحا لبكين بقيمة 75 مليون دولار، ثم رد الأخيرة بمواصلة سلسلة من تجارب الأسلحة النووية في 1995، ثم وقوع أزمة مضايق تايوان التي كشفت متانة التحالف الأميركي – الياباني، ووصلت بالعلاقات اليابانية الصينية إلى أدنى مستوياتها منذ نصف قرن تقريبًا ([4]).

جاء اهتمام اليابان بأفريقيا في مطلع التسعينيات، في ظل انهماك دولي بتداعيات سقوط الاتحاد السوفييتي، "ونهاية" الحرب الباردة وأزمة الخليج

وبدأ بروز أفريقيا في سياسات اليابان الخارجية بشكل أكبر بعد "الجفوة" مع الصين، إذ تلقت آسيا في النصف الأول من تسعينيات القرن الفائت نحو 60% من إجمالي مساعدات اليابان الاقتصادية، واستأثرت الصين في العام 1993 بقمّة الدول المتلقية، إذ حصلت وحدها على 1350 مليون دولار من حزمة مساعدات مخصّصة في الفترة (1993-1997) بقيمة 70-75 بليون دولار، ولم تحل في قائمة أكبر تسع دول متلقية (من قائمة تضمّ 155 دولة) للمساعدات اليابانية من أفريقيا سوى مصر التي حلت سادسة (بعد الصين وإندونيسيا والفيليبين وتايلاند والهند) بقيمة 275 مليون دولار، بما يتسق مع الرأي العام الياباني الذي قيس وقتها، ورجّح دعم طوكيو آسيا بنسبة 56.7%، بينما لم تحظ أفريقيا كأولوية لهذه المساعدات سوى بتأييد 7.3% من المستطلعة آراؤهم. وبضغوط أميركية مباشرة على اليابان لتوسيع مساعداتها "على نحو متناسق" لأقاليم أخرى غير آسيا، قدمت اليابان لدول أفريقيا جنوب الصحراء في 1992 ما قيمته 860 مليون دولار، ما وضعها في المرتبة الرابعة لأكبر مقدّم مساعدات لأفريقيا في منتصف التسعينيات. كما بادرت طوكيو بتنظيم مؤتمر حول التنمية في أفريقيا كان الأول من نوعه الذي تنظمه اليابان في أكتوبر/ تشرين الأول 1993، مع ملاحظة أن هدف المؤتمر لم يكن اقتصاديًا بالدرجة الأولى، حيث لم تمثل تجارة اليابان مع أفريقيا في ذلك الوقت سوى 1.5% من تجارة اليابان الخارجية نصفها مع دولة واحدة، وهي جنوب أفريقيا([5])

تولى رئيس الوزراء شينزو آبي (اغتيل في 8 يوليو/ تموز الحالي) إدارته في سبتمبر/ أيلول 2006، ووضع نصب عينيه هدفًا رئيسًا، استعادة مكانة بلاده قوة عظمى من بوابة قدرتها على إبراز القيادة في صياغة النظام الإقليمي في شرق آسيا، واستهل دبلوماسيته بزيارة إلى كوريا الجنوبية والصين، وصفت بأنها "براغماتية"، نتج عنها اتفاق طوكيو وبكين على تكوين "شراكة مفيدة للجانبين قائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة"، بينما لاحظ مراقبون مهارة آبي لاحقًا في انتهاجه بالأساس سياسات تستهدف، على المدى البعيد، تحجيم النفوذ الصيني على سياسة "الإحاطة" encirclement. كما تبنّى وزير خارجيته أسو تارو Aso Taro (نوفمبر/ تشرين الثاني 2006) مفهوم "قوس الحرية والازدهار" الذي يمتد من شمال شرق آسيا مروره بجنوب شرقها ووسطها والقوقاز ووسط أوروبا وشرقها ودول البلطيق (من دون أي تماسّ مع أفريقيا) وتوحده قيم "عالمية" من قبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون واقتصاد السوق؛ بينما حلل آخرون هذه السياسة بأنها تستهدف بالأساس الدول والأقاليم الواقعة على أطراف الصين "وإحاطتها". وعزّز آبي في فترة رئاسته الثانية للوزراء (من 2012) سياسات إحاطة الصين بإعلانه في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2012، بعد يوم من توليه المنصب، مفهوم Asian Democratic Security Diamond المكوّنة من اليابان وأستراليا والهند وولاية هاواي الأميركية لتأمين الملاحة البحرية من المحيط الهندي للمحيط الهادئ ومواجهة "أطماع الصين في تحويل بحر الصين الجنوبي إلى "بحيرة بكين" وتغيير الوضع القائم في الإقليم بالقوة القهرية"، وربط آبي مفهومه "بالقيم الغربية" المشتركة([6]).  

تداعيات ما بعد الحرب الباردة

جاء اهتمام اليابان بأفريقيا في مطلع التسعينيات، في ظل انهماك دولي بتداعيات سقوط الاتحاد السوفييتي، "ونهاية" الحرب الباردة وأزمة الخليج؛ وعقدت الحكومة اليابانية مؤتمرًا عالميًا حول أفريقيا (1993) حمل عنوان مؤتمر طوكيو الدولي التنمية الأفريقية (TICAD)، مبادرة لتوجيه انتباه المجتمع الدولي مباشرة إلى أفريقيا. وعقدت نسخته الثانية في طوكيو 1998، وتبنى "خطة عمل طوكيو" التي أكدت على مبدأين مهمين، ظلا لصيقين بسياسات اليابان في أفريقيا: مِلكية الدول الأفريقية مقدّراتها على نحو يتضمن مبدأ مساعدة الذات مفهوما رئيسا لسياسة المعونات اليابانية؛ ومبدأ "الشراكة" من المجتمع الدولي. وعقد "تيكاد" الثالث في سبتمبر/ أيلول - أكتوبر/ تشرين الأول 2003، والتزمت خلاله اليابان بتقديم بليون دولار أخرى مساعدات "في الأعوام الخمسة التالية" (2003-2007) شاملة الأدوية والغذاء والتعليم. وجاء ذلك بعد  جولة رئيس الوزراء  يوشيرو موري Y. Mori بأول زيارة من نوعها لرئيس وزراء ياباني لأفريقيا جنوب الصحراء، شملت جنوب أفريقيا وكينيا ونيجيريا (يناير/ كانون الثاني 2001)، وأعلن خلالها (من جنوب أفريقيا) أن سياسة بلاده الأفريقية تقوم على الاعتراف بأن الاستقرار والازدهار في القرن الحادي والعشرين لا يمكن تحقيقه من دون حل المشكلات التي تواجهها أفريقيا الآن"، وأن العاملين الحاكمين لسياسة بلاده هما المساعدات التنموية ومنع الصراع([7]).

أغلب الاستثمارات اليابانية الحالية تتركز في دولة أفريقية واحدة، وهي المغرب التي تستضيف صناعة سيارات قوية

وفي السنوات اللاحقة حكمت السياسة الخارجية اليابانية، بشكل عام، الاستجابة للتهديدات التي تحيق بالأمن الجيو - عسكري للدولة، وازدهارها الاقتصادي، وهويتها. وتجسّدت هذه المقاربة بشكل واضح، بعد "نهاية الحرب الباردة"، حيث استجابت طوكيو لمجموعة من التهديدات في بيئتها الأمنية الداخلية والخارجية المتغيرة؛ إذ أرسلت قوات في مهام حفظ السلام، إذ كانت موزمبيق من أولى وجهتي القوات اليابانية العاملة في قوات حفظ السلام في الأمم المتحدة (أونوموز ONUMOZ) (مايو/ أيار 1993-يناير/ كانون الثاني 1995)، إضافة إلى كمبوديا (والثالثة في مرتفعات الجولان السورية). وكانت المشاركة اليابانية عبر ثلاث وحدات قوام كل منها 48 جنديا (38 في العاصمة مابوتو و10 في سُفالا)([8]). كما افتتحت في العام 2011 قاعدة عسكرية في جيبوتي "لمواجهة القرصنة قبالة سواحل القرن الأفريقي". وفي يوليو/ تموز 2012 أرسلت 400 جندي لبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، "للمساعدة في تسوية صراع محلي عنيف" في الدولة حديثة النشأة حينذاك. كما ساهمت اليابان في سياق تقوية علاقات التحالف العسكري مع الولايات المتحدة بقوات الدفاع الذاتي اليابانية لدعم الأخيرة في حربها في أفغانستان وفي العراق. وعلى الرغم من القيود الدستورية التي تحكم تحركات اليابان "الهجومية" عسكريًا، فإنها لجأت في عهد شينزو آبي Abe Shinzo لاتباع سياسات أمنية واقعية وصفت "بالسلام الاستباقي" proactive pacifism كقيمة دالة في سياستها الخارجية، كما تمثل، منذ ذلك الوقت، في شراء اليابان معدّات عسكرية هجومية، مثل وحدات إنزال برمائية ومسيرات "غلوبال هوك" في محاولة لضبط التوازن العسكري مع الصين، في نزاعهما على جزر سينكاكو/ دياويو([9]).

سياسة الأمن الإنساني

رغم الجهود اليابانية في أفريقيا التي تسبق الكثير من جهود القوى الصاعدة في القارّة، فإن حجم التبادل التجاري الياباني الأفريقي يتسم بالتضاؤل، إذ لم يتجاوز في العام 2020 حاجز 17 بليون دولار (وهو تبادل متوازن إلى حد كبير بين 8.6 بلايين دولار قيمة الصادرات الأفريقية، و7.9 بلايين دولار قيمة الواردات)، بما يمثل نحو 6.4% فقط من حجم التبادل الجاري بين اليابان والصين (الشريك التجاري الأول لليابان) في العام 2020 (بلغ 284 بليون دولار). ويلاحظ "تشوّه" واضح في هيكل التجارة اليابانية الأفريقية، إذ تتركز مع دولة واحدة، جنوب أفريقيا (بقيمة 5.7 بلايين دولار في العام نفسه، بنسبة 32% من إجمالي تجارة اليابان الأفريقية)، تليها مصر (بحجم تبادل تجاري 1.3 بليون دولار في العام 2020)؛ كما أن أغلب الاستثمارات اليابانية الحالية تتركز في دولة أفريقية واحدة، وهي المغرب التي تستضيف صناعة سيارات قوية ومرافق صناعية لتصنيع قطع غيار هذه السيارات ومكوّناتها. كما تقوم سياسة الدعم الياباني للدول الأفريقية عبر وكالة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) التي تقدّم المعونات في شكل منح وقروض، وتستثمر بأسلوب متميز يقوم على فكرة الملكية المحلية، والسلم والحوكمة وحقوق الإنسان. وتعمل طوكيو تقليديًا مع مجموعة من الشركاء الدوليين، مثل منظمات الأمم المتحدة الفرعية والمانحين الدوليين والمجتمع المدني. وركّز رئيس "جايكا" في السنوات الأخيرة على القيام بزيارات متعدّدة للدول الأفريقية (كينيا وتنزانيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا والسنغال).

تركّز اليابان على بناء قدرات جميع الأفراد في أفريقيا، وتشجيعهم على المشاركة الفعالة في بناء المجتمع وبناء الأمة

وإجمالًا، تنتهج اليابان، حاليًا، مقاربتين رئيسيتين مع الدول الأفريقية، "النمو النوعي" (القائم على الشمول والاستدامة والصمود)، والأمن الإنساني (أي بناء القدرة بالتركيز على كل فرد في أفريقيا). وترى طوكيو أنه من الضروري في مواجهة قضايا التنمية في أفريقيا تحقيق نمو اقتصادي متوازن ومستقرّ، تعود منافعه على جميع مكونات المجتمع في أفريقيا، بمن فيهم الفئات التي تقع تحت خط الفقر؛ ومن ثم ستعمّق اليابان في المرحلة المقبلة، تعزيزها للاستثمار في البنية الأساسية ذات الكفاءة والاستخدام الكامل للتكنولوجيات المتقدمة التي تملكها الشركات اليابانية. كما تركّز اليابان على بناء قدرات جميع الأفراد في أفريقيا، وتشجيعهم "على المشاركة الفعالة في بناء المجتمع وبناء الأمة، الأمر الذي يسهم بدوره بقوة في نمو مستقل لأفريقيا". وأعلنت اليابان، باعتبارها دولة مبادرة في تعزيز الأمن الإنساني، عزمها تطبيق إجراءات متنوعة نحو تمكين الأفراد في أفريقيا، ومساهمة الشركات اليابانية، الموجودة في أفريقيا، أو تلك التي تتأهب لدخول سوقها، في تدريب الشباب في أفريقيا.

خلاصة

في تقييم حديث لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عن قوة اليابان (يونيو/ حزيران 2022) ورد أن خطوات اليابان الحثيثة، بما فيها الالتزام بالعقوبات على روسيا والمساعدات الإنسانية والمساعدات العسكرية غير القتالية، لم تحظ فحسب بمباركة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لكنها تؤشّر إلى احتمالات تصاعد قوة اليابان. كما أن استجابة الأخيرة للحرب في أوكرانيا قد عمّقت شراكتها الاستراتيجية مع "الناتو"، وأن هذه الشراكة تتجلّى في مسعى اليابان إلى مزيد من النفوذ في إقليم الهندي - الباسيفيك وانخراط طوكيو القوي في ترتيبات "الناتو" للأمن في هذا الإقليم (بشكل خاص عبر اللجنة العسكرية للناتو)، بالتعاون مع عدة دول، أبرزها اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا. كما جسّدت ذلك الاجتماعات الموسعة التي عقدت في مايو/ أيار الماضي، وحضرها رئيس الأركان الياباني، كوجي يامازاكي، وهي ملامح تقليدية في سياسات اليابان الخارجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهزيمتها التاريخية، غير أنها تشير، بشكل واضح، إلى طبيعة المقاربة اليابانية في أفريقيا، حسب أجندة "تيكاد" المقبل في تونس (أغسطس/ آب 2022)، وعزم طوكيو الحثيث على ربط أفريقيا بهذه المنظومة التقليدية التي حظيت بدعم "الناتو" وعدد من أبرز القوى الفاعلة فيه، وتتقاطع جذريًا مع توجهات الصين، ما يفضي إلى فتح ساحة أفريقية لجهود اليابان "إحاطة" التمدّد الصيني بشكلٍ لا لبس فيه.


[1] Raposo, Pedro Amakasu, Japan’s Foreign Aid Policy in Africa: Evaluating the TICAD Process, Palgrave Macmillan, New York, 2014, p. 60.

[2] Cooney, Kevin J. Japan's Foreign Policy Maturation: A Quest for Normalcy, Routledge, New York, 2022, p. 33.

[3]Raposo, Pedro Amakasu, Japan’s Foreign Aid Policy in Africa: Evaluating the TICAD Process, Palgrave Macmillan, New York, 2014,  Pp. 66-7

[4] Green, Michael Jonathan, Japan's Reluctant Realism: Foreign Policy Challenges in an Era of Uncertain Power, The Council on Foreign Relations, Inc, New York, 2001, pp. 66-7

[5] Drifte, Reinhard, Japan's Foreign Policy in the 1990s From Economic Superpower to What Power? St Antony's College, Oxford, 1996, pp. 111-3.

[6] Hughes, Christopher W. Japan’s Foreign and Security Policy Under the ‘Abe Doctrine’: New Dynamism or New Dead End? Palgrave Macmillan, New York, 2015, pp. 80-1.

[7]Togo, Kazuhiko, Japan's Foreign Policy, 1945-2003: The Quest for a Proactive Policy, Brill, Leiden, 2005, pp. 327-8.

[8] Japanese Participation in UN Peacekeeping: MOZAMBIQUE: UN Peacekeeping Operations in Mozambique, Ministry of Foreign Affairs of Japan https://www.mofa.go.jp/policy/un/pko/pamph96/02_3.html#:~:text=The%20United%20Nations%20Operation%20in,control%20units%2C%20and%20electoral%20observers.

[9] Ra Mason, Paul O’Shea and Sebastian Maslow, Risk Recalibration in Japan’s Foreign Policy-Making (in: Ra Mason, Paul O’Shea and Sebastian Maslow, editors, Risk State Japan’s Foreign Policy in an Age of Uncertainty) Routledge, London, 2016,, pp. 9-10.