دور لمثقفينا في تنقية موروثنا

05 فبراير 2015

عمل بصري لـِ(كيمبل هالبي)

+ الخط -

في حديثٍ هو أقرب إلى البوح والشكوى، يخيم عليه اليأس والإحباط، بعد جريمة شارلي إيبدو، دار بيني وبين صديق لديه تاريخ حافل بمنجزاته الثقافية أكثر من ثلاثين عاماً. كان محور الحديث ودافع الإحباط أن المثقفين كانوا كمن ينفخ في قربة مثقوبة، رداً على كلامي إنه لا تزال هناك حلقة مفقودة، بالنسبة لأداء المثقفين، حلقة تُظهر فجوة على اتساع، على الرغم مما يُنتج الواقع كل يوم من انهيارات مجتمعية، وتردّ في الوعي وانزياحات في المنظومات القيمية. كنت متحمسة لفكرتي، وبي عتب على غالبية مثقفينا، لشللهم في التصدي لأزمة بلادنا. قلت إن من بقي مخلصاً لدوره، وبريئاً من لوثة الانتماءات والتحزبات، يقدم خطاباً بلغة متعالية، بدرجات مختلفة، مثلما لو أنه يكتب لنخبة فقط، وليس للقاعدة الشعبية التي يجب ملامسة وعيها، والعمل على حمايته من التشويه وصياغته بشكل سليم. كان رد صديقي: أين هي القاعدة الشعبية؟ لمن يكتب المثقف؟ أين هو القارئ؟ تابعي الإصدارات، لتحصلي على الصورة الدقيقة. في أحسن الحالات، إذا طبعت ألف نسخة لكاتب مشهور يمكن أن تنفد في عام، ألف نسخة في سوق يقدر عدده بأكثر من ثلاثمائة مليون. بينما كتب التراث والدين والفقه والشريعة الوحيدة البياعة والمطلوبة.

لا يمكن إشاحة النظر عن مشكلة تكبر، كلما تدحرجت إلى الأمام، مثل كرة الثلج، هي مشكلة الإرهاب التي صارت تهدد العالم بأسره، وباتت الغول الأكبر للبشرية حالياً، ليس بسبب عنفها وأطروحاتها الإقصائية والتكفيرية فقط، بل بسبب طموحات دولتها المزعومة، دولة الخلافة التي لا تعترف بحدود، بل تتطلع إلى بسط سيطرتها على العالم برمته، فارضة شريعة ضد الحياة، وباسم الدين الإسلامي، على مرأى ومسمع المرجعيات ورموز ورجالات الدين في العالم. هذه المشكلة المهددة، ليس فقط لأمن الشعوب، بل لتقدمها ومواكبتها الحياة، بما تنطوي عليه برامجها المعتمدة في إدارة الحياة من سنن وقوانين تتعارض مع كينونة الإنسان، وأخطر ما فيها ارتباطها بالمقدس.

هل يمكن القضاء على الفكر الداعشي، أو فكر الإرهاب بالسلاح والتحالف الدولي؟ الاحتكارات العالمية وتطلعات الهيمنة على مقدرات الدول والشعوب بحاجة إلى هذه النزاعات، وهي من

أدواتها الرئيسية والنافذة، لتحقيق مشاريعها، حتى لو تخفّت بلبوس القديسين والطهرانيين، ونحن لا زال قسم كبير من شعوبنا يردد نظرية المؤامرة، ويلقي على أكتافها مسؤولية ما نحن فيه. ربما ابتداع فكرة صدرها رحب إلى هذه الدرجة، يساهم في الهروب من مواجهة الحقائق، من الفهم المجدي، فالفهم يحتاج شجاعة، ليست عملية الفهم هي ما تحتاج، بل متطلبات الفهم، أن نفهم يعني أن تتكون لدينا رؤية، ويكون لدينا موقف، وهذا ما لم نستطع الوصول إلى مستوى التفكير فيه، لأن الشجاعة تنقصنا.

لا يمكن القضاء على هذا الفكر التكفيري الإقصائي العنفي، مهما كان سنده ومرجعه ودعواه، إلاّ بالإصلاح الثقافي، ابتداء من تراثنا المستند على الدين والمرتبط به، وحتى النتاج الثقافي الذي نما وازدهر، تحت ظل الاستبداد والأنظمة الشمولية والإيديولوجيات المختلفة.

إذا كان الإحباط وصل ببعض مثقفينا، بسبب الرد الأكثر واقعية على سؤال القراءة، إلى أن ينكفئوا ويكتبوا فقط لأجل الكتابة، فهذا يجب ألاّ يدفعنا إلى الانسحاب من المشهد، وعدم مواجهة الفكر المتغوّل الذي يصطاد النفوس والضمائر لدى هذا الشعب المستباح، الذي لم تقدم له النظريات والإيديولوجيات سابقاً إجابات على أسئلته، ولم تحقق له في خضم الزلزال السوري السقف الحامي، ولا الظروف الحياتية المرجوة، فما كان منه إلاّ أن انزاح قسم لا بأس به منه إلى الجانب المسيطر على الأرض.

الفكر التنويري الديني يجب أن يبدأ بإصلاح كل موروث فيه، ما يعزز النزعة التكفيرية والعنف، لا بدّ لأصحاب الخطاب الجريء أن يدفعوا الثمن، بطريقة أو بأخرى، وهذا من أشكال النضال إنما المنتج. لم ينتفض الشعب السوري، ويتطلع إلى القيام بثورة، من أجل أن يستبدل طغاة بطغاة أشرس، والفاتورة هي خسران حتى الوطن.

هي مسؤولية المثقفين، كلّ بمجاله، والبداية الصحيحة تكون بتعرية التاريخ ونبش التراث والموروث الثقافي، بمرجعياته المختلفة، وتنضيد كتبه ومروياته وإعادة ترتيبها بما ينسجم مع العقل السليم والكرامة المصانة ومقام الرسول والأنبياء. يلزمنا، في هذا المجال، أصوات كصوت الدكتور محمد حبش الذي قال بشأن جريمة شارلي إيبدو: "وبعيداً عن التحليلات السياسية والاجتماعية لهذا النوع من الجرائم، أرغب بفتح ملف الأساطير المؤسِّسة لهذا التفكير، التي ظلت من التابو الذي لا نجرؤ على الحديث عنه أبداً.

من المؤسف والمرير أن يتم تدريس طلابنا على مقاعد الدرس مثل هذه الممارسات الغادرة، منسوبة مباشرة للرسول الكريم في الكتب التي سماها الفقهاء كتب الصحاح، وفيها أن الرسول نفسه كان يرسل من يمارس الاغتيال السياسي مباشرة، وكان يقر عمليات القتل المباشر التي تستهدف خصوم الرسالة من المستهزئين بالدين، وهذا، في العمق، هو المبرر الأقوى لهؤلاء الذين يرتكبون هذه الفظائع.

ليست الكارثة، من وجهة نظري، أن تحدث هذه الجرائم، لكنها أن يذهب فقهاؤنا لتدريس هذه السلوكيات على مقاعد الدرس، على أساس أن ذلك من محاسن النبوة وشمائل الرسول. وأن هذا المجرم الغبي ثائر لله ولرسوله وهو محل قدوة للمتقين. لا يوجد أدنى مبالغة فيما نرويه، ومثل هذه الروايات حشدت جيلاً من اليائسين إلى التطرف والعنف".

في المقابل، على مثقفين ليبراليين وعلمانيين ويساريين، ومنتمين إلى تيارات فكرية مختلفة، أن يتصدوا للمسؤولية، حتى لو كان هناك قارئ وحيد. وليست الصورة بهذه القتامة، فعلى الرغم مما تمر به سورية من دمار شامل للبنى المجتمعية والدولة والأرض والشجر والحجر، وعلى الرغم من الأزمة الأخلاقية التي تمد جذورها في التربة السورية، لا زال هناك أناس متلهفون للمعرفة، ولديهم بقية من ضمير يسعى إلى الفهم، بعيداً عن خطاب النظام المدجج بنظرية المؤامرة، وبعيداً عن الخطاب المدجج بالطائفية، وعن الضخ الإعلامي المضلل والمدمر، حتى تحت زخات الرصاص والبراميل وسواطير داعش وجلدها ورجمها الأبرياء، هناك من يريد أن يسمع صوت العقل، وينتظر ممن لديه معلومة تساعده في أن يفتح نافذةً على العقل والمنطق أن يسمعها منه.

نبش خزائن التاريخ التي رتبها الطغاة، على مر القرون والعقود، لبسط نفوذهم وفرض سلطانهم، هي مسؤولية لا يمكن تأجيلها. على التاريخ أن يخضع لعملية تنقية دموية، مثل التي تجرى في المشافي لمرضى القصور الكلوي، ليس المطلوب نسف التاريخ والتنكر له، فليس هناك أمة بلا تاريخ، لكن المطلوب تنظيف تاريخنا مما يعيق الحياة، ويدفع بالشعوب إلى هامشها، والإصلاح الفكري، وبناء فكر معافى، لا ينجزان في أعوام قليلة.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن