تبدأ اليوم مناسك الحج رسمياً بالوقوف على جبل عرفة. فكلّ من نجح في الوصول إلى المشعر المقدس سيكون قد بدأ حجه فعلاً، بحسب الحديث. ومن هذا المكان سيبدأ مناسكه انطلاقاً من النفير إلى مزدلفة ثم المبيت في منى ورمي الجمرات الثلاث، قبل أن يطول طواف الوداع ويغادر إلى بلاده من بعدها.
يتطلب الأمر من الحاج خمسة أيام فقط من أجل أداء الركن الخامس من الإسلام. لكن معظم الحجيج الذين وفدوا إلى مكة هذا العام ويصل عددهم إلى 1.8 مليون حاج عانوا كثيرا للوصول إليها. فبعضهم أمضى أكثر من عشر سنوات يجمع المال ليتمكن من السفر على متن رحلة رخيصة، وسكن في أبعد مكان في منى، وتناول القدر اليسير من الطعام، فقط ليؤدي الفريضة.
لم يتوقف تدفق الحجاج على الرغم من حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي التي أودت بحياة 111 حاجاً. ويقول الحاج الهندي نظير الدين رحمن الذي تجاوز السبعين عاماً لـ "العربي الجديد" :"لا أحد هنا يخاف من الموت، الحوادث تقع وهذا أمر طبيعي. كل هؤلاء البشر لا يخافون، بل لا أحد منهم يملك الوقت للتفكير بالخوف، هم يشعرون بالسعادة البالغة لأنهم موجودون في مكة".
مثل كثير من الحجاج لم يكن وصول رحمن إلى مكة سهلاً. يقول: "مبلغ 1200 دولار لا يعتبر كبيراً لدى البعض، لكنه بالنسبة لي يشكل مدخرات أكثر من 11 عاماً، اضطررت من أجل جمعه لبيع جزء من أرضي". لم يكن رحمن ليفرط بالأرض التي يعيش هو وعائلته المكونة من 9 أفراد عليها، لكنّ إصابته بنوبة قلبية قبل عام، أخافته من الموت قبل الحج، فوجد نفسه مجبراً على بيع جزء منها، لاستكمال المبلغ الذي طلبته منه الحملة. يلتقط رحمن أنفاسه فيما يحاول حبس دموعه وهو ينظر إلى الكعبة ويقول: "كل شيء يستحق هذا المنظر. كنت مستعداً لبيع أرضي كلها لو استلزم الأمر".
من جهته، تجاوز شاهر ساهوردي من إندونيسيا السابعة والستين من عمره، إلا أنه يرفض أيّ مساعدة في أداء المناسك. يصر على أداء كل تفاصيلها الصغيرة، ويقول لـ"العربي الجديد" بعد أن يفرغ من صلاة طويلة: "هذا اليوم كان حلماً لي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لا أستطيع أن أصف مقدار سعادتي". ويضيف: "الآن لم يعد يهمني هل أموت أم أكمل حياتي".
تكبير ودموع
من يوم التروية وحتى مغرب شمس يوم عرفة، ومروراً بمزدلفة ومنى، تصدح تلبيات الحجاج الآتين من كل أرجاء العالم، وسط أجواء إيمانية تطغى عليها الألفة والمودة. يبرز حاج سبعيني يتكئ على عصا غليظة، رافضاً الركوب في كرسي متحرك متوفر مجاناً. يتحدث ببطء وهو يتأمل في الحجاج الآخرين: "اسمي محمد، تماماً مثل النبي الكريم، تجاوزت الـ73 قبل أسابيع". يضيف الحاج محمد نصر الدين وهو من قرية صغيرة في دلتا مصر: "لم أستطع الحج من قبل لعدم استطاعتي مالياً وبسبب ديوني الكبيرة التي تكلفتها لتربية أبنائي. وكنت أخشى من أن تُقبض روحي قبل أن أرى الكعبة، وأصلي في بيت الله الحرام، وأقف في المشاعر المقدسة".
تجعل المناسك الحجاج أكثر عاطفية، فمعظمهم لم يكن وصوله إلى مكة سهلاً أو سريعاً. غلام صديق يحاول النهوض من كرسيه في باحة الحرم المكي، لكنه أعجز من ذلك. تساعده ابنته التي لا تبدو أصغر منه بكثير. يصمت قليلاً قبل أن يبدأ في تكبيراته، ثم يقول لـ"العربي الجديد" إنّه مستعد لإمضاء كلّ أيام الحج في التلبية. لا يحاول صديق منع دموعه من الانهمار على وجنتيه المجعدتين، ويقول وهو يحاول التماسك: "منذ طفولتي قبل ثمانين عاماً أنوي الحج. هي أمنيتي الوحيدة قبل مغادرة الحياة. وها أنا أجد نفسي بين إخوتي المسلمين من كل مكان، أشاركهم أنا وابنتي متعة الإيمان".
رحلة العمر
لا تختلف قصص كثير من الحجاج عن بعضهم البعض، خصوصاً الفقراء الآتين من دول بعيدة، والذين جمعوا من أجل رحلتهم المال طوال سنوات. في مكة مئات الآلاف من هؤلاء، الذين لا يمكنهم تحمل كلفة حملات الخمس نجوم، ولا أجهزة محمولة معهم كي يلتقطوا بها صور "سيلفي" مع الكعبة. هي ليست رحلة عابرة بالنسبة لهم، بل رحلة العمر، التي يختبرون فيها عن حق "روعة الإسلام"، بحسب أحدهم.
اقرأ أيضاً: تغيير كسوة الكعبة فجر يوم عرفة