بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
التقيت بالشاعر الكبير لأول مرة في مكتبه في بيروت سنة 1967. كان قد تقاعد من السلك الدبلوماسي قبل عام واختار العاصمة اللبنانية مقراً لإقامته. وكنت أزوره بين الحين والآخر، أسعد بمجلسه، وتزداد سعادتي حين يكون قد أصدر ديواناً جديدا فأخرجُ من الزيارة حاملاً نسخة هدية موقّعة بإمضائه ومزيّنة بكلمة إهداء لطيفة.
وفي سنة 1970 أعددتُ حلقة تلفزيونية عن سيرة حياته ضمن برنامج "سهرة مع الماضي" الذي كانت تقدمه المذيعة الشهيرة ليلى رستم في تلفزيون لبنان. ومن بعدها توطدت الصداقة بيننا.
في هذه المقالة عنه سألقي الأضواء على حدثين: على أمسية شعرية معيّنة لها طابع مميز، وعلى لقاء في شقة نزار قباني في لندن لم ينشر من قبل، وأنشره هنا للمرة الأولى.
في صيف 1976 قدم نزار قباني أمسية شعرية في جامعة دمشق، وتدخلت الشرطة لتفريق الجمهور الذي لم يجد مكاناً في القاعة التي كانت تتسع لبضع مئات وكان الجمهور المنتظر في الخارج يفوق العشرة آلاف. وكنت واحداً من هؤلاء الآلاف العشرة فلم يتسنَّ لي حضور الأمسية. وبعد يومين التقيت بالشاعر ونقلت له صورة ما جرى خارج القاعة، وعبّرت عن حزني. قال لي إنه سيحيي أمسية أخرى في حلب، ودعاني لمرافقته وأكد لي أنه سيؤمن لي مقعداً.
اقــرأ أيضاً
من مطار حلب مباشرة إلى مكتب المحافظ. طلب نزار قباني إيجاد مكان آخر غير الجامعة حتى لا يتكرر ما حدث في دمشق. وبعد مداولات تقرر نقل الأمسية إلى ملعب كرة القدم. لم تكن هناك مباراة بل أمسية لشاعر حضرها جمهور بلغ عدده حوالي العشرين ألفاً. ولم أكن من قبل قد حضرت أمسية ثقافية يتدفق إليها حشد جماهيري بمثل هذا العدد للاستماع إلى قصائد شاعر. بل لم أرَ مثلها من بعد. (عرفت لاحقا أنه ذات مرة في أمسية شعرية لنزار قباني في البصرة في العراق، ومرة أخرى في القيروان في تونس حطّم عدد الحاضرين رقم حلب القياسي). حتى في أوروبا حيث عدد قراء الكتب في مدينة واحدة يفوق عدد القراء في العالم العربي، لم يحدث أن احتشد جمهور غفير لحضور أمسية شعرية. وقد حضرت أمسيات فيها شعراء أوروبيون مشهورون في بلادهم وكان الجمهور في القاعة بالعشرات فقط. إن شعبية نزار قباني الشاعر كان من الممكن أن تثير حسد المطربات والمطربين أصحاب الشعبية الكبرى، بالنظر إلى حجم الحضور.
كان نزار قباني قد طلب مني أن أساعد المشرفين على الأمسية بأفكار إخراجية. اتفقنا أن تكون المنصة أمام أحد المرميين.
وفي تمام الساعة الثامنة مساء أطفئت أنوار الاستاد وفي اللحظة ذاتها ألقيت أنوار الكشافات على المنصة وظهر نزار قباني، ومن المدرّجات التي تغصّ بالحاضرين دوّى التصفيق كالرعد. ثم استرسل في قصائده الرومانسية تارة، فمسّت قلوبا تائقة إلى الحب، وتارة في قصائده السياسية فألهبت مشاعر الحاضرين المبهورين بجرأة الشاعر في قول ما لا يجرؤ غيره على قوله علناً. ما زلت أذكر قصيدة "الخطاب" التي مطلعها "أوقفوني وأنا أضحك كالمجنون وحدي"، وفيها من الأبيات التي انتزعت التصفيق والآهات كأنما في حفل طرب: "لم أكن أعرف أن الضحك يحتاج لترخيص الحكومة (...) كتبوا كل إفاداتي ولم يستجوبوني (...) على طول الصحارى العربية يمكن أن يكتب الإنسان ضد الله لا ضد الحكومة (...) كنت بعد الظهر في المقهى/ وكان المخبرون/ كالجراثيم على كل الفناجين/ وفي كل الصحون".
بعد الأمسية جلسة ليلية في بهو الفندق مع أصدقاء وتعليقات على الأمسية الفريدة، وعلى الصدمات التي أحدثها شعر نزار قباني منذ إطلالته الأولى في منتصف الأربعينيات بديوان "قالت لي السمراء". وكان له في كل عقد قصيدة مثيرة للجدل. في الأربعينيات قصيدة "نهداك"، التي بدأها بقوله: "سمراء صُبّي نهدك الأسمر في دنيا فمي/ نهداك نبْعا لذّة حمراء تشعل لي دمي/ متمرّدان على السماء، على القميص المنعم". كانت خروجاً على المألوف في شعر الغزل ودعوة إلى حرية الحب وكسر باب المحرمات في موضوع الجنس.
وفي الخمسينيات قصيدة "خبز وحشيش وقمر" خلع باب التقاليد والموروثات معبّراً عن سخطه من "الملايين التي تركض من غير منال/ والتي تؤمن في أربع زوجات (...) الملايين التي لا تلتقي بالخبز إلا في الخيال/ والتي تسكن بيوتا من سعال".
وفي الستينيات كانت قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" التي انتقد فيها تخاذل العرب في حرب 1967. وقد منعت القصيدة في مصر وامتنعت إذاعة القاهرة عن بث الأغاني التي كلماتها من شعر نزار قباني، فكتب الشاعر رسالة إلى جمال عبد الناصر شرح فيها أن نقده الجارح خرج من قلب محبّ للعروبة. فرفع الرئيس المصري الحظر عن القصيدة وعن الدواوين والأغاني.
اقــرأ أيضاً
سأل أحد الأصدقاء "أليس الشاعر صالح جودت هو المحرّض على المنع؟"، بتهذيب أجاب نزار قباني "قيل لي ذلك".. قلتُ: صالح جودت مدّاح الملوك والرؤساء ما داموا على عروشهم وهجاء ينفي عنهم الصفات الحسنة بعد غيابهم. هو مادح الملك فاروق في "أنشودة الفن" بقوله "الفنّ مين شرَّفه غير الفاروق ورعاه". وهو الذي كتب يوم استقال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران: " قم واسمعها من أعماقي.. فأنا الشعب (...) إبقَ فأنت الأمل الباقي لغدِ الشعب/ أنت الخير وأنت النور/ وأنت الصبر على المقدور/ أنت الناصر والمنصور/ إبقَ فأنت حبيب الشعب"، ثم انقلب على عبد الناصر وعهده بعد وفاته. أليس هو الذي احتج على كلمة "فساتيني" في قصيدة "أيظن" بحجة أنها ليست كلمة عربية واقترح بدلاً منها "حتى جلاليبي التي أهملتها"؟! فاكتفى نزار قباني بالقول "أذكروا محاسن موتاكم" وكان صالح جودت قد توفي قبل شهر.
أما المقابلة التي أنشرها لأول مرة فقد جرت في منزل نزار قباني في لندن في "سلون ستريت" sloane street يوم 30 مارس/ آذار 1993. كان المستشرق الألماني شتيفان فيلد، عميد معهد العلوم الإسلامية والاستشراق في جامعة بون آنذاك، قد ألقى قبل يوم في أوكسفورد محاضرة عنوانها "المنفى والرقابة: ملامح من شعر نزار قباني السياسي". وكنت في زيارة إلى لندن وأبدى شتيفان فيلد أمامي رغبة في التعرف على الشاعر. وكنت، بحكم علاقتي الجيدة بكليهما، وسيط هذا اللقاء. وبآلة التسجيل التي حملتها معي اختزنت الحوار الذي دار بينهما.
بدأ الحديث حول هجرة العقول العربية، وأعرب شتيفان فيلد عن أسفه لهذه الظاهرة التي تُفرغ المجتمعات العربية من خيرة مواهبها، وقال: "ها هو زكريا تامر في أوكسفورد وأدونيس في باريس وأنت هنا في لندن بعد جولة في عدة منافي"، فاستعاد نزار قباني بيتا له ردده على مسامعنا "كل المنافي لا تبدد وحشتي/ ما دام منفاي الكبير بداخلي"، وأضاف قائلا: "بيروت هي المدينة الوحيدة التي لم تُشعرني بالمنفى".
وسأل شتيفان فيلد: "أنت أقمت نحو عشرين عاما في بيروت وأنت سوري. ألم تكن تشعر فيها بالمنفى؟". وبلا تردد أجاب نزار قباني: "لا. بيروت مدينة عجيبة غريبة. أعطتني جرعة من الحرية عجزت أي مدينة في العالم أن تعطيني إياها. وحين ذبحوا بيروت، ذبحوا معها الحرية. لم يكن من مصلحة بعض العواصم العربية أن يبقى نموذج بيروت حيّا. تلك المدينة الباهرة بحريتها، المتفوقة في ليبراليتها. وأرجع بذاكرتي إلى أيام الشباب، وكنت ما زلت مقيما في مدينتي الحبيبة دمشق. كان السوريون في عطلات الأعياد الطويلة يحملون مدخراتهم ويستعدون للسفر إلى بيروت ليأكلوا السمك في مطاعمها البحرية وليجلسوا في مقاهيها الجميلة ولتذهب النسوة إلى سوق الطويلة حيث الأزياء الحديثة. قبل يومين من العيد كان يصدر مرسوم منع السفر! ولم تكن هناك حربٌ في لبنان! من زمن بعيد، نموذج بيروت مرفوض. وقبل ثلاثة أشهر كنت في بيروت ألقي قصائدي في الأسامبلي هول بالجامعة الأميركية. هذا مكان عزيز على قلبي. لي فيه ذكريات جميلة تعود إلى الستينيات. كانت القاعة تغصّ بالجمهور. ألقيت بعضا من قصائدي السياسية الساخنة التي لا ترحم الحكام. وكان رئيس الجمهورية إلياس هراوي حاضراً أيضا. ونقل لي الصحافي وليد عوض عنه قوله: (نزار لا يستطيع قول هذا الشعر إلا في بيروت). وهذا صحيح".
اقــرأ أيضاً
واستعاد شتيفان فيلد مقاطع من محاضرته تكلم فيها عن المنفى والرقابة. وذكّر قباني ببيت له يقول فيه "يجلس الشاعر العربي على قصيدة مفخخة، لا يدري متى تنفجر به"، ولاحظ أن الرقابة الرسمية ووسائل القمع الأخرى، تؤدي في بعض الأحيان إلى الرقابة الذاتية؛ وأن بعض الأدباء لكي يتخلصوا من عبء هذه الرقابة الذاتية، سلكوا طريق المنفى. وعرض مثلاً من الرقابة في مصر التي طالب فيها وزير التربية بحذف قصيدة "عند الجدار" من كتب التلاميذ في الصف الأول الإعدادي بذريعة أنها مخالفة لمبادئ التربية والتعليم، وهي قصيدة يسترجع فيها طفلان ذكريات القبلة الأولى.
وعن مشاكله مع الحكام العرب الذين لم يطيقوا نقده الجارح، ومع الرقابة الرسمية المتشددة، ومع ذوي الآراء الرجعية تحدث نزار قباني طويلاً، ثم مدّ يده إلى ديوان "الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق"، وقرأ منه: "يُقال ألف قصة وقصة عنّي/ فكل مبدع في وطني/ يطفو على بحر من النميمة/ لكنني أظل دوما واقفا/ كالرمح فوق مركبي/ أواجه البروق والرعود والعواصف اللئيمة/ فإنني أعيش يا سيدتي في وطن/ تُعتبر الكلمة في قانونه جريمة".
ثم سأل نزار قباني عن الشعر السياسي في ألمانيا وهل له التأثير نفسه؟ فأجاب شتيفان فيلد: "لا يوجد في ألمانيا شعر سياسي مشابه للشعر العربي، بمعنى أنه يتناول الحدث الآني على نحو قد يجعل الشاعر سياسيا أكثر منه أديبا".
وأخيراً دار الحديث حول ترجمة الشعر. وذكر قباني أن له ثلاث تجارب مع ترجمة شعره، كانت الأولى إلى اللغة الإسبانية وكانت موفّقة، قام بها المستشرق بدرو مارتينز مونتافث. وذكر أنه قال للمترجم "قم بخيانة شعري إذا اقتضى الأمر كذلك، لتكون صياغة الترجمة أقرب إلى روح الأصل، وانسَ الأمانة التي قد تجعل النص غريبا وربما مضحكا". ولاحظ نزار قباني أن ترجمات قصائد أدونيس ومحمود درويش إلى اللغات الأوروبية كانت ناجحة، فعلّل فيلد ذلك بأنها قصائد مبنيّة على الأفكار والصور، وهذه وتلك قابلة للترجمة.
توفي نزار قباني في لندن في 30 إبريل/ نيسان 1998 ودفن في دمشق. وبقيت منه أشياء كثيرة. كان مجددا نجح في جعل اللغة الشعرية أقرب إلى لغة العصر باستعارة تعابير الحياة اليومية. وكان له الفضل الكبير في توسيع رقعة انتشار الشعر العربي وتعميمه على بيوت لم تكن تتذوقه. وكان قد أدرك بحسّه الإعلامي أن العالم العربي مليء بالمحبطين، في الحب وفي السياسة والدين، فقرر أن يكون الناطق باسمهم. وصار الشاعر الذي تمكّن من أن يعيش من قلمه فقط.
وفي سنة 1970 أعددتُ حلقة تلفزيونية عن سيرة حياته ضمن برنامج "سهرة مع الماضي" الذي كانت تقدمه المذيعة الشهيرة ليلى رستم في تلفزيون لبنان. ومن بعدها توطدت الصداقة بيننا.
في هذه المقالة عنه سألقي الأضواء على حدثين: على أمسية شعرية معيّنة لها طابع مميز، وعلى لقاء في شقة نزار قباني في لندن لم ينشر من قبل، وأنشره هنا للمرة الأولى.
في صيف 1976 قدم نزار قباني أمسية شعرية في جامعة دمشق، وتدخلت الشرطة لتفريق الجمهور الذي لم يجد مكاناً في القاعة التي كانت تتسع لبضع مئات وكان الجمهور المنتظر في الخارج يفوق العشرة آلاف. وكنت واحداً من هؤلاء الآلاف العشرة فلم يتسنَّ لي حضور الأمسية. وبعد يومين التقيت بالشاعر ونقلت له صورة ما جرى خارج القاعة، وعبّرت عن حزني. قال لي إنه سيحيي أمسية أخرى في حلب، ودعاني لمرافقته وأكد لي أنه سيؤمن لي مقعداً.
من مطار حلب مباشرة إلى مكتب المحافظ. طلب نزار قباني إيجاد مكان آخر غير الجامعة حتى لا يتكرر ما حدث في دمشق. وبعد مداولات تقرر نقل الأمسية إلى ملعب كرة القدم. لم تكن هناك مباراة بل أمسية لشاعر حضرها جمهور بلغ عدده حوالي العشرين ألفاً. ولم أكن من قبل قد حضرت أمسية ثقافية يتدفق إليها حشد جماهيري بمثل هذا العدد للاستماع إلى قصائد شاعر. بل لم أرَ مثلها من بعد. (عرفت لاحقا أنه ذات مرة في أمسية شعرية لنزار قباني في البصرة في العراق، ومرة أخرى في القيروان في تونس حطّم عدد الحاضرين رقم حلب القياسي). حتى في أوروبا حيث عدد قراء الكتب في مدينة واحدة يفوق عدد القراء في العالم العربي، لم يحدث أن احتشد جمهور غفير لحضور أمسية شعرية. وقد حضرت أمسيات فيها شعراء أوروبيون مشهورون في بلادهم وكان الجمهور في القاعة بالعشرات فقط. إن شعبية نزار قباني الشاعر كان من الممكن أن تثير حسد المطربات والمطربين أصحاب الشعبية الكبرى، بالنظر إلى حجم الحضور.
كان نزار قباني قد طلب مني أن أساعد المشرفين على الأمسية بأفكار إخراجية. اتفقنا أن تكون المنصة أمام أحد المرميين.
وفي تمام الساعة الثامنة مساء أطفئت أنوار الاستاد وفي اللحظة ذاتها ألقيت أنوار الكشافات على المنصة وظهر نزار قباني، ومن المدرّجات التي تغصّ بالحاضرين دوّى التصفيق كالرعد. ثم استرسل في قصائده الرومانسية تارة، فمسّت قلوبا تائقة إلى الحب، وتارة في قصائده السياسية فألهبت مشاعر الحاضرين المبهورين بجرأة الشاعر في قول ما لا يجرؤ غيره على قوله علناً. ما زلت أذكر قصيدة "الخطاب" التي مطلعها "أوقفوني وأنا أضحك كالمجنون وحدي"، وفيها من الأبيات التي انتزعت التصفيق والآهات كأنما في حفل طرب: "لم أكن أعرف أن الضحك يحتاج لترخيص الحكومة (...) كتبوا كل إفاداتي ولم يستجوبوني (...) على طول الصحارى العربية يمكن أن يكتب الإنسان ضد الله لا ضد الحكومة (...) كنت بعد الظهر في المقهى/ وكان المخبرون/ كالجراثيم على كل الفناجين/ وفي كل الصحون".
بعد الأمسية جلسة ليلية في بهو الفندق مع أصدقاء وتعليقات على الأمسية الفريدة، وعلى الصدمات التي أحدثها شعر نزار قباني منذ إطلالته الأولى في منتصف الأربعينيات بديوان "قالت لي السمراء". وكان له في كل عقد قصيدة مثيرة للجدل. في الأربعينيات قصيدة "نهداك"، التي بدأها بقوله: "سمراء صُبّي نهدك الأسمر في دنيا فمي/ نهداك نبْعا لذّة حمراء تشعل لي دمي/ متمرّدان على السماء، على القميص المنعم". كانت خروجاً على المألوف في شعر الغزل ودعوة إلى حرية الحب وكسر باب المحرمات في موضوع الجنس.
وفي الخمسينيات قصيدة "خبز وحشيش وقمر" خلع باب التقاليد والموروثات معبّراً عن سخطه من "الملايين التي تركض من غير منال/ والتي تؤمن في أربع زوجات (...) الملايين التي لا تلتقي بالخبز إلا في الخيال/ والتي تسكن بيوتا من سعال".
وفي الستينيات كانت قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" التي انتقد فيها تخاذل العرب في حرب 1967. وقد منعت القصيدة في مصر وامتنعت إذاعة القاهرة عن بث الأغاني التي كلماتها من شعر نزار قباني، فكتب الشاعر رسالة إلى جمال عبد الناصر شرح فيها أن نقده الجارح خرج من قلب محبّ للعروبة. فرفع الرئيس المصري الحظر عن القصيدة وعن الدواوين والأغاني.
سأل أحد الأصدقاء "أليس الشاعر صالح جودت هو المحرّض على المنع؟"، بتهذيب أجاب نزار قباني "قيل لي ذلك".. قلتُ: صالح جودت مدّاح الملوك والرؤساء ما داموا على عروشهم وهجاء ينفي عنهم الصفات الحسنة بعد غيابهم. هو مادح الملك فاروق في "أنشودة الفن" بقوله "الفنّ مين شرَّفه غير الفاروق ورعاه". وهو الذي كتب يوم استقال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران: " قم واسمعها من أعماقي.. فأنا الشعب (...) إبقَ فأنت الأمل الباقي لغدِ الشعب/ أنت الخير وأنت النور/ وأنت الصبر على المقدور/ أنت الناصر والمنصور/ إبقَ فأنت حبيب الشعب"، ثم انقلب على عبد الناصر وعهده بعد وفاته. أليس هو الذي احتج على كلمة "فساتيني" في قصيدة "أيظن" بحجة أنها ليست كلمة عربية واقترح بدلاً منها "حتى جلاليبي التي أهملتها"؟! فاكتفى نزار قباني بالقول "أذكروا محاسن موتاكم" وكان صالح جودت قد توفي قبل شهر.
أما المقابلة التي أنشرها لأول مرة فقد جرت في منزل نزار قباني في لندن في "سلون ستريت" sloane street يوم 30 مارس/ آذار 1993. كان المستشرق الألماني شتيفان فيلد، عميد معهد العلوم الإسلامية والاستشراق في جامعة بون آنذاك، قد ألقى قبل يوم في أوكسفورد محاضرة عنوانها "المنفى والرقابة: ملامح من شعر نزار قباني السياسي". وكنت في زيارة إلى لندن وأبدى شتيفان فيلد أمامي رغبة في التعرف على الشاعر. وكنت، بحكم علاقتي الجيدة بكليهما، وسيط هذا اللقاء. وبآلة التسجيل التي حملتها معي اختزنت الحوار الذي دار بينهما.
بدأ الحديث حول هجرة العقول العربية، وأعرب شتيفان فيلد عن أسفه لهذه الظاهرة التي تُفرغ المجتمعات العربية من خيرة مواهبها، وقال: "ها هو زكريا تامر في أوكسفورد وأدونيس في باريس وأنت هنا في لندن بعد جولة في عدة منافي"، فاستعاد نزار قباني بيتا له ردده على مسامعنا "كل المنافي لا تبدد وحشتي/ ما دام منفاي الكبير بداخلي"، وأضاف قائلا: "بيروت هي المدينة الوحيدة التي لم تُشعرني بالمنفى".
وسأل شتيفان فيلد: "أنت أقمت نحو عشرين عاما في بيروت وأنت سوري. ألم تكن تشعر فيها بالمنفى؟". وبلا تردد أجاب نزار قباني: "لا. بيروت مدينة عجيبة غريبة. أعطتني جرعة من الحرية عجزت أي مدينة في العالم أن تعطيني إياها. وحين ذبحوا بيروت، ذبحوا معها الحرية. لم يكن من مصلحة بعض العواصم العربية أن يبقى نموذج بيروت حيّا. تلك المدينة الباهرة بحريتها، المتفوقة في ليبراليتها. وأرجع بذاكرتي إلى أيام الشباب، وكنت ما زلت مقيما في مدينتي الحبيبة دمشق. كان السوريون في عطلات الأعياد الطويلة يحملون مدخراتهم ويستعدون للسفر إلى بيروت ليأكلوا السمك في مطاعمها البحرية وليجلسوا في مقاهيها الجميلة ولتذهب النسوة إلى سوق الطويلة حيث الأزياء الحديثة. قبل يومين من العيد كان يصدر مرسوم منع السفر! ولم تكن هناك حربٌ في لبنان! من زمن بعيد، نموذج بيروت مرفوض. وقبل ثلاثة أشهر كنت في بيروت ألقي قصائدي في الأسامبلي هول بالجامعة الأميركية. هذا مكان عزيز على قلبي. لي فيه ذكريات جميلة تعود إلى الستينيات. كانت القاعة تغصّ بالجمهور. ألقيت بعضا من قصائدي السياسية الساخنة التي لا ترحم الحكام. وكان رئيس الجمهورية إلياس هراوي حاضراً أيضا. ونقل لي الصحافي وليد عوض عنه قوله: (نزار لا يستطيع قول هذا الشعر إلا في بيروت). وهذا صحيح".
واستعاد شتيفان فيلد مقاطع من محاضرته تكلم فيها عن المنفى والرقابة. وذكّر قباني ببيت له يقول فيه "يجلس الشاعر العربي على قصيدة مفخخة، لا يدري متى تنفجر به"، ولاحظ أن الرقابة الرسمية ووسائل القمع الأخرى، تؤدي في بعض الأحيان إلى الرقابة الذاتية؛ وأن بعض الأدباء لكي يتخلصوا من عبء هذه الرقابة الذاتية، سلكوا طريق المنفى. وعرض مثلاً من الرقابة في مصر التي طالب فيها وزير التربية بحذف قصيدة "عند الجدار" من كتب التلاميذ في الصف الأول الإعدادي بذريعة أنها مخالفة لمبادئ التربية والتعليم، وهي قصيدة يسترجع فيها طفلان ذكريات القبلة الأولى.
وعن مشاكله مع الحكام العرب الذين لم يطيقوا نقده الجارح، ومع الرقابة الرسمية المتشددة، ومع ذوي الآراء الرجعية تحدث نزار قباني طويلاً، ثم مدّ يده إلى ديوان "الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق"، وقرأ منه: "يُقال ألف قصة وقصة عنّي/ فكل مبدع في وطني/ يطفو على بحر من النميمة/ لكنني أظل دوما واقفا/ كالرمح فوق مركبي/ أواجه البروق والرعود والعواصف اللئيمة/ فإنني أعيش يا سيدتي في وطن/ تُعتبر الكلمة في قانونه جريمة".
ثم سأل نزار قباني عن الشعر السياسي في ألمانيا وهل له التأثير نفسه؟ فأجاب شتيفان فيلد: "لا يوجد في ألمانيا شعر سياسي مشابه للشعر العربي، بمعنى أنه يتناول الحدث الآني على نحو قد يجعل الشاعر سياسيا أكثر منه أديبا".
وأخيراً دار الحديث حول ترجمة الشعر. وذكر قباني أن له ثلاث تجارب مع ترجمة شعره، كانت الأولى إلى اللغة الإسبانية وكانت موفّقة، قام بها المستشرق بدرو مارتينز مونتافث. وذكر أنه قال للمترجم "قم بخيانة شعري إذا اقتضى الأمر كذلك، لتكون صياغة الترجمة أقرب إلى روح الأصل، وانسَ الأمانة التي قد تجعل النص غريبا وربما مضحكا". ولاحظ نزار قباني أن ترجمات قصائد أدونيس ومحمود درويش إلى اللغات الأوروبية كانت ناجحة، فعلّل فيلد ذلك بأنها قصائد مبنيّة على الأفكار والصور، وهذه وتلك قابلة للترجمة.
توفي نزار قباني في لندن في 30 إبريل/ نيسان 1998 ودفن في دمشق. وبقيت منه أشياء كثيرة. كان مجددا نجح في جعل اللغة الشعرية أقرب إلى لغة العصر باستعارة تعابير الحياة اليومية. وكان له الفضل الكبير في توسيع رقعة انتشار الشعر العربي وتعميمه على بيوت لم تكن تتذوقه. وكان قد أدرك بحسّه الإعلامي أن العالم العربي مليء بالمحبطين، في الحب وفي السياسة والدين، فقرر أن يكون الناطق باسمهم. وصار الشاعر الذي تمكّن من أن يعيش من قلمه فقط.