بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم إثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
سنة 1969 عقدت منظمة الـ"يونسكو" مؤتمراً دولياً في بيروت كان المحور الأساسي فيه: "السينما والمسرح في العالم العربي". وخلال المؤتمر، عُرض الفيلم المصري "الأرض" الذي أخرجه يوسف شاهين، عن قصة عبد الرحمن الشرقاوي، وكان الفيلم منتجاً في الفترة ذاتها. وفي ختام العرض، صفق أعضاء الوفود بحرارة، وتكلم أنريكو فولكنيوني، نائب مدير عام المنظمة الدولية، معرباً عن إعجابه بالفيلم وبإخراجه، ومبدياً تنويهاً خاصاً بأداء محمود المليجي (الدور الرئيسي)، وقال عنه بالحرف الواحد "هذا الممثل فائق الموهبة، ولا يقلّ قيمة فنيّة عن أنطوني كوين". وأضاف أن منظمة الـ"يونسكو" ستنظّم عرضاً خاصاً للفيلم في باريس.
والواقع أنه لا يمكن لأحد أن يشاهد فيلم "الأرض" ولا يذكر الأداء الساحر لمحمود المليجي في شخصية "محمد أبو سويلم"، خصوصاً في المشهد الذي يظهر فيه والخيول تجرّه وهو موثّق اليدين بالحبال وتنغرز أصابعه في الرمال متشبثاً بالأرض، أي بالجذور. وقد رفض محمود المليجي يومها أن يحلّ البديل "الدوبلير" محلّه، ومثّل هو المشهد برغم المشقة الجسدية. وهو في العموم تألق في العديد من أفلام يوسف شاهين الذي كان يحرص على أن يسند إليه الأدوار المميزة، مثل أدواره في "العصفور" و"عودة الابن الضال" و"إسكندرية ليه" و"حدوتة مصرية" وسواها. والحقّ أن محمود المليجي يعطي أيّ دور يمثله رونقا خاصا. حتى في الأدوار الهامشية ثمة حدّ أدنى من الأداء الراقي.
اشتهر محمود المليجي بلقب "شرّير الشاشة" منذ نجاحه في أداء دور الشرير في فيلم "قيس وليلى" الذي أخرجه إبراهيم لاما سنة 1939. وهذه عادة منتجي السينما، ما إن ينجح ممثل في دور معيّن حتى تنهال عليه أدوار مماثلة، فيأسرونه في نمط متكرر. لكنّ محمود المليجي نجح في أدوار الشر وفي غيرها من الأدوار، وكان متعدد الألوان في الأداء. هو الذي بدأ العمل في السينما الصامتة سنة 1927 ممثلاً في فيلم "قبلة في الصحراء" الذي أخرجه إبراهيم لاما، أول فيلم روائي عربي صامت، وكان في السابعة عشرة من عمره. ومحمود المليجي قام سنة 1933 ببطولة فيلم "الزواج" الذي ألّفته وأخرجته وقامت بدور البطولة فيه فاطمة رشدي. وكان دور المليجي دور الفتى الأول العاشق! وفي فيلم "غزل البنات" (1949) مثّل دور العاشق النصاب! وكان له دور في فيلم "وداد" أول أفلام أم كلثوم (1936).
اقــرأ أيضاً
يمتلك محمود المليجي عينين لا مثيل لهما من حيث قابليتهما لنقل مختلف حالات التعبير، ولتغييرهما بأقل رمشة. عينان إذا تحركتا تحركت التعابير من الشرّ إلى الطيبة إلى الضغينة أو المودة في أقل من لمح البصر. لم يكن محمود المليجي بحاجة إلى جهد كبير لينقل إلى المتفرج التعبير المناسب. وهو يقنع المتفرج بأنه لا يمثّل.
والممثلون نوعان: الأول اندماجي، والثاني واعِ. من النموذج الأول جورج أبيض وزكي رستم. ممثلون يستغرقون في التركيز فيندمجون في الشخصية التي يؤدونها. صحيح أن الأداء يقترب كثيراً من الواقعية، لكنه يقف عند حدود هاوية المبالغة ومن السهل أن يسقط فيها. مثل هذا الممثل لا يعي ما يدور حوله وما يؤديه الآخرون أمامه. في أحد الأفلام كان المفروض أن يشدّ زكي رستم شعر فاتن حمامة في حالة غضب. وحدث أن الممثل المندمج ظلّ يشدّ شعر فاتن حمامة بقوة فعلاً وليس تمثيلاً وهي تصرخ ألما وتقول "كفاية يا زكي بك" والمخرج يصيح "ستوب"، أما زكي رستم فكان في وادٍ آخر. محمود المليجي هو النموذج المعاكس بامتياز. لا يندمج. يبقى واعيا، لكنه يعطيك الإيهام بأنه اندمج وبأنه تقمّص الشخصية التي يمثلّها.
من مسلسل "المشوار الطويل" مع شوشو (أرشيف فارس يواكيم)
سنة 1972 كتبتُ مسلسل "المشوار الطويل" لحساب "تلفزيون لبنان"، ليقوم ببطولته النجم الكوميدي شوشو، ومارسيل مارينا، وجورج شلهوب. وتمّ الاتفاق بين شوشو وإدارة البرامج في التلفزيون على أن يسند الدور الرئيسي الآخر إلى ممثل مصري ذي خبرة. وكُلّفت بالذهاب إلى القاهرة لإنجاز هذه المهمة. تقابلت هناك مع محمود المليجي وعرضت عليه طبيعة الدور والمكافأة التي رصدها تلفزيون لبنان فاستمهلني إلى الغد. وفي اليوم التالي أبلغني موافقته.
وفي بيروت كان اللقاء حاراً مع شوشو، وكان المليجي شاهده في مسرحه من قبل. كما كان اللقاء أيضا وديّاً مع مخرج المسلسل إلياس متى الذي سبق له أن أقام طويلاً في القاهرة وعمل في السينما المصرية كمساعد مخرج في أفلام عديدة، منها بعض الأفلام التي كان محمود المليجي ممثلاً فيها مثل "النمرود" (إخراج عاطف سالم)، و"رقصة الوداع" (عز الدين ذو الفقار)، و"المتهم" (كمال عطية). لكنني فوجئت بالعناق الذي تمّ بين محمود المليجي والممثل اللبناني يوسف حسني المشارك بدور طريف في ذلك المسلسل. وعلمت أن المليجي ويوسف حسني عملا معا في القاهرة في سنوات الشباب في فرقة فاطمة رشدي المسرحية.
أثناء تصوير مسلسل "المشوار الطويل" سنحت لي فرصة اكتشاف المزيد من شخصية محمود المليجي الفنية والإنسانية. وبعين مليئة بالفضول الفني، رحت أراقب طريقة أدائه. بعض الممثلين يأتون إلى الاستوديو وقد حفظوا الدور حفظاً ببغائياً. لم يكن المليجي يأتي حافظاً دوره عن ظهر قلب، لكنه كان يأتي وقد قرأه جيداً وتمعّن فيه. أثناء البروفات يبدأ بالحفظ، وعند التصوير يكون مستعداً تماماً، مستوعباً الشخصية التي يمثلها. أما من الناحية المهنية، فقد كان محمود المليجي منضبطا لا يتأخر أبداً عن موعد العمل. وكان ودودا لطيفا في التعامل مع الزميلات والزملاء، لا يبخل على أحد بخبرته ويمتدح إجادة ممثلة أو ممثل. "شرير الشاشة" كان وديع الكواليس!
وكانت زوجته الممثلة المعروفة علوية جميل قد رافقته خلال الأسبوع الأول ثم عادت إلى القاهرة. وهي بالمناسبة من أصل لبناني، واسمها الحقيقي أليصابات مجدلاني. كان قد تعرّف عليها في الفترة التي عمل فيها ممثلاً في فرقة رمسيس (فرقة يوسف وهبي) وكانت هي أيضا إحدى ممثلات الفرقة. وقد تزوجا سنة 1939 ولم يُرزقا بولد، واستمر الزواج حتى وفاة محمود المليجي في 6 يونيو/حزيران 1983. (هي توفيت في 14 أغسطس/آب 1994). وهو من أطول الزيجات في الوسط الفني إذ استمرّ 44 عاماً.
اقــرأ أيضاً
وكان "شرّير الشاشة" في بيته الرجل الطيب المسالم، وكانت زوجته صاحبة شخصية قوية. وحدث أن محمود المليجي أعجب بممثلة شابة كانت زميلته أثناء عمله في فرقة إسماعيل يس المسرحية. وقد تزوجها سراً، لكن الزواج لم يدم سوى يوم أو يومين، خصوصاً بعدما بلغ الخبر مسامع السيدة علوية. وقالت الألسنة الساخرة في الوسط الفني المصري إن محمود المليجي لم يطلق زوجته الثانية، بل إن علوية جميل هي التي اتصلت بها تليفونياً وقالت لها: "يا فلانة.. انت طالق!". وقد زرتهما في الفندق أثناء إقامة علوية جميل مع المليجي في بيروت. هو كان مدخناً وهي لا تطيق رائحة السجائر. قالت له "محمود افتح الشباك. الدخان ح يفطّسني" فيفتح محمود الشباك. ثم لا تلبث أن تقول له "محمود.. اقفل الشباك.. البرد ح يموّتني!". فيغلق محمود الشباك. ولكي يتجنب توالي فتح الشباك وغلقه حمل المليجي نفسه وهبط إلى بهو الفندق لكي يدخّن على راحته.
من عادة محمود المليجي أن يستيقظ مبكراً. وكان يغادر بيته في القاهرة ولا يعود إليه إلا بعد منتصف الليل. في النهار يتنقل بين الاستوديوهات من الإذاعة والتلفزيون و"بلاتوهات" السينما، ويختم اليوم بالعمل في المسرح. وهو محترف قدير، يتلاءم أداؤه مع الوسيلة الفنية، وتتنوع أدواره. كان قد بدأ العمل المسرحي في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي مع فرقة فاطمة رشدي، وغالبا في أدوار الفتى الأول. ثم التحق بفرقة رمسيس سنة 1936، وعمل في البداية كملقن، ثم صعد إلى الخشبة ومثل أدوار الميلودراما وأدواراً في مسرحيات تاريخية باللغة الفصحى. وفي الستينيات، انضم إلى فرقة إسماعيل يس، وكان يؤدي الأدوار الكوميدية.
المليجي وصفيّ الدين شوكت في "الاختيار" (1970 ــ IMDB)
نشأ محمود المليجي في أسرة بسيطة في القاهرة. ماتت شقيقته وهي في سن الطفولة، فظل الولد الوحيد لأهله. وبدأ مسيرته المهنية هاوياً منذ كان طالباً في المدرسة الخديوية الثانوية، وكان عضوا في فريق التمثيل. وكانت فرقة المدرسة تقدم في نهاية العام مسرحية يخرجها مخرج محترف. وفي هذا الإطار، اشترك محمود المليجي، الطالب الهاوي، في مسرحيات أخرجها عزيز عيد وأحمد علام وفتوح نشاطي. وفي أحد هذه العروض، شاهدته الممثلة فاطمة رشدي، وكانت آنذاك نجمة شهيرة لقبها "ساره برنار الشرق". أعجبها أداؤه وشجعته على الاحتراف. وقد أخبرني محمود المليجي عن فاطمة رشدي أنها كانت تذكر في إعلانات المسرحيات أنها "صديقة الطلبة". والسبب أنها بحسّ تجاري ذكي كانت تخصص عروضا للطلبة تكون فيها أسعار البطاقات في متناول يد الشباب، وهكذا رفدت مسرحها بجمهور إضافي.
بدأ العمل في السينما الصامتة بأجر قدره جنيه واحد في اليوم. وفي فرقة فاطمة رشدي حين انضم إليها في أواخر العشرينيات أصبح راتبه أربعة جنيهات في الشهر. ومع هذه الفرقة أدى أدواراً مختلفة في مسرحيات "يوليوس قيصر"، و"علي بك الكبير"، و"مجنون ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي. وكانت هذه المسرحيات من إخراج عزيز عيد، أبرع المخرجين في زمانه، ومنه تعلّم محمود المليجي الكثير. والغريب أن عزيز عيد حين أخرج مسرحية مدرسية قال للطالب محمود المليجي "أنت لا تصلح للتمثيل". ولاحقاً حين عملا معا على صعيد الاحتراف عرف المليجي أن عزيز عيد كان يتعمّد أن يقول له ذلك لكي لا يصيبه الغرور ولكي يحفزه على مزيد من العطاء. بل إنه هو الذي دعا فاطمة رشدي إلى حضور المسرحية المدرسية لتشاهد الطالب الموهوب.
وفي مطلع شبابه، تناول محمود المليجي مع مجموعة من الأصدقاء الجمبري المشوي من بائع متجول بعربة يجرّها من حيّ إلى آخر. وكان الطعام فاسداً، ومن جرائه مات صديقان له، أما المليجي فأصيب بحالة تسمم شديدة نجم عنها سقوط شعره من رأسه إلى قدميه. هكذا أصيب بالصلع المبكّر. وبعد هذه الحادثة، لم يقبل أن يتم تصويره بالمايوه أو بالشورت مثلاً، لأنه إذا كشف عن ساقيه فستظهران ملساوين.
في الأفلام والمسلسلات العديدة والمسرحيات وقد بلغ مجموعها نحو 700 عمل، أقنع المليجي الجمهور العريض بروعة أدائه، لكنه لم يقنع زملاء له بموته في المشهد الأخير من عمره. كان جالساً مع المخرج السينمائي هاني لاشين والنجم العالمي عمر الشريف وكاتب السيناريو ممدوح الليثي استعداداً لتصوير المشاهد الأخيرة من فيلم "أيوب". بعدما شرب القهوة قال لعمر الشريف: "الحياة دي غريبة قوي. الواحد ينام ويصحى، ويصحى وينام، وينام ويشخر. وأدّى مشهد النوم وارتفع شخيره لحظات ثم مال رأسه على صدره. ضحك الزملاء وهنّأوه على حسن الأداء. ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أنه المشهد الأخير. لقد فارق محمود المليجي الحياة إثر إصابته بسكتة قلبية.
والواقع أنه لا يمكن لأحد أن يشاهد فيلم "الأرض" ولا يذكر الأداء الساحر لمحمود المليجي في شخصية "محمد أبو سويلم"، خصوصاً في المشهد الذي يظهر فيه والخيول تجرّه وهو موثّق اليدين بالحبال وتنغرز أصابعه في الرمال متشبثاً بالأرض، أي بالجذور. وقد رفض محمود المليجي يومها أن يحلّ البديل "الدوبلير" محلّه، ومثّل هو المشهد برغم المشقة الجسدية. وهو في العموم تألق في العديد من أفلام يوسف شاهين الذي كان يحرص على أن يسند إليه الأدوار المميزة، مثل أدواره في "العصفور" و"عودة الابن الضال" و"إسكندرية ليه" و"حدوتة مصرية" وسواها. والحقّ أن محمود المليجي يعطي أيّ دور يمثله رونقا خاصا. حتى في الأدوار الهامشية ثمة حدّ أدنى من الأداء الراقي.
اشتهر محمود المليجي بلقب "شرّير الشاشة" منذ نجاحه في أداء دور الشرير في فيلم "قيس وليلى" الذي أخرجه إبراهيم لاما سنة 1939. وهذه عادة منتجي السينما، ما إن ينجح ممثل في دور معيّن حتى تنهال عليه أدوار مماثلة، فيأسرونه في نمط متكرر. لكنّ محمود المليجي نجح في أدوار الشر وفي غيرها من الأدوار، وكان متعدد الألوان في الأداء. هو الذي بدأ العمل في السينما الصامتة سنة 1927 ممثلاً في فيلم "قبلة في الصحراء" الذي أخرجه إبراهيم لاما، أول فيلم روائي عربي صامت، وكان في السابعة عشرة من عمره. ومحمود المليجي قام سنة 1933 ببطولة فيلم "الزواج" الذي ألّفته وأخرجته وقامت بدور البطولة فيه فاطمة رشدي. وكان دور المليجي دور الفتى الأول العاشق! وفي فيلم "غزل البنات" (1949) مثّل دور العاشق النصاب! وكان له دور في فيلم "وداد" أول أفلام أم كلثوم (1936).
يمتلك محمود المليجي عينين لا مثيل لهما من حيث قابليتهما لنقل مختلف حالات التعبير، ولتغييرهما بأقل رمشة. عينان إذا تحركتا تحركت التعابير من الشرّ إلى الطيبة إلى الضغينة أو المودة في أقل من لمح البصر. لم يكن محمود المليجي بحاجة إلى جهد كبير لينقل إلى المتفرج التعبير المناسب. وهو يقنع المتفرج بأنه لا يمثّل.
والممثلون نوعان: الأول اندماجي، والثاني واعِ. من النموذج الأول جورج أبيض وزكي رستم. ممثلون يستغرقون في التركيز فيندمجون في الشخصية التي يؤدونها. صحيح أن الأداء يقترب كثيراً من الواقعية، لكنه يقف عند حدود هاوية المبالغة ومن السهل أن يسقط فيها. مثل هذا الممثل لا يعي ما يدور حوله وما يؤديه الآخرون أمامه. في أحد الأفلام كان المفروض أن يشدّ زكي رستم شعر فاتن حمامة في حالة غضب. وحدث أن الممثل المندمج ظلّ يشدّ شعر فاتن حمامة بقوة فعلاً وليس تمثيلاً وهي تصرخ ألما وتقول "كفاية يا زكي بك" والمخرج يصيح "ستوب"، أما زكي رستم فكان في وادٍ آخر. محمود المليجي هو النموذج المعاكس بامتياز. لا يندمج. يبقى واعيا، لكنه يعطيك الإيهام بأنه اندمج وبأنه تقمّص الشخصية التي يمثلّها.
من مسلسل "المشوار الطويل" مع شوشو (أرشيف فارس يواكيم)
سنة 1972 كتبتُ مسلسل "المشوار الطويل" لحساب "تلفزيون لبنان"، ليقوم ببطولته النجم الكوميدي شوشو، ومارسيل مارينا، وجورج شلهوب. وتمّ الاتفاق بين شوشو وإدارة البرامج في التلفزيون على أن يسند الدور الرئيسي الآخر إلى ممثل مصري ذي خبرة. وكُلّفت بالذهاب إلى القاهرة لإنجاز هذه المهمة. تقابلت هناك مع محمود المليجي وعرضت عليه طبيعة الدور والمكافأة التي رصدها تلفزيون لبنان فاستمهلني إلى الغد. وفي اليوم التالي أبلغني موافقته.
وفي بيروت كان اللقاء حاراً مع شوشو، وكان المليجي شاهده في مسرحه من قبل. كما كان اللقاء أيضا وديّاً مع مخرج المسلسل إلياس متى الذي سبق له أن أقام طويلاً في القاهرة وعمل في السينما المصرية كمساعد مخرج في أفلام عديدة، منها بعض الأفلام التي كان محمود المليجي ممثلاً فيها مثل "النمرود" (إخراج عاطف سالم)، و"رقصة الوداع" (عز الدين ذو الفقار)، و"المتهم" (كمال عطية). لكنني فوجئت بالعناق الذي تمّ بين محمود المليجي والممثل اللبناني يوسف حسني المشارك بدور طريف في ذلك المسلسل. وعلمت أن المليجي ويوسف حسني عملا معا في القاهرة في سنوات الشباب في فرقة فاطمة رشدي المسرحية.
أثناء تصوير مسلسل "المشوار الطويل" سنحت لي فرصة اكتشاف المزيد من شخصية محمود المليجي الفنية والإنسانية. وبعين مليئة بالفضول الفني، رحت أراقب طريقة أدائه. بعض الممثلين يأتون إلى الاستوديو وقد حفظوا الدور حفظاً ببغائياً. لم يكن المليجي يأتي حافظاً دوره عن ظهر قلب، لكنه كان يأتي وقد قرأه جيداً وتمعّن فيه. أثناء البروفات يبدأ بالحفظ، وعند التصوير يكون مستعداً تماماً، مستوعباً الشخصية التي يمثلها. أما من الناحية المهنية، فقد كان محمود المليجي منضبطا لا يتأخر أبداً عن موعد العمل. وكان ودودا لطيفا في التعامل مع الزميلات والزملاء، لا يبخل على أحد بخبرته ويمتدح إجادة ممثلة أو ممثل. "شرير الشاشة" كان وديع الكواليس!
وكانت زوجته الممثلة المعروفة علوية جميل قد رافقته خلال الأسبوع الأول ثم عادت إلى القاهرة. وهي بالمناسبة من أصل لبناني، واسمها الحقيقي أليصابات مجدلاني. كان قد تعرّف عليها في الفترة التي عمل فيها ممثلاً في فرقة رمسيس (فرقة يوسف وهبي) وكانت هي أيضا إحدى ممثلات الفرقة. وقد تزوجا سنة 1939 ولم يُرزقا بولد، واستمر الزواج حتى وفاة محمود المليجي في 6 يونيو/حزيران 1983. (هي توفيت في 14 أغسطس/آب 1994). وهو من أطول الزيجات في الوسط الفني إذ استمرّ 44 عاماً.
وكان "شرّير الشاشة" في بيته الرجل الطيب المسالم، وكانت زوجته صاحبة شخصية قوية. وحدث أن محمود المليجي أعجب بممثلة شابة كانت زميلته أثناء عمله في فرقة إسماعيل يس المسرحية. وقد تزوجها سراً، لكن الزواج لم يدم سوى يوم أو يومين، خصوصاً بعدما بلغ الخبر مسامع السيدة علوية. وقالت الألسنة الساخرة في الوسط الفني المصري إن محمود المليجي لم يطلق زوجته الثانية، بل إن علوية جميل هي التي اتصلت بها تليفونياً وقالت لها: "يا فلانة.. انت طالق!". وقد زرتهما في الفندق أثناء إقامة علوية جميل مع المليجي في بيروت. هو كان مدخناً وهي لا تطيق رائحة السجائر. قالت له "محمود افتح الشباك. الدخان ح يفطّسني" فيفتح محمود الشباك. ثم لا تلبث أن تقول له "محمود.. اقفل الشباك.. البرد ح يموّتني!". فيغلق محمود الشباك. ولكي يتجنب توالي فتح الشباك وغلقه حمل المليجي نفسه وهبط إلى بهو الفندق لكي يدخّن على راحته.
من عادة محمود المليجي أن يستيقظ مبكراً. وكان يغادر بيته في القاهرة ولا يعود إليه إلا بعد منتصف الليل. في النهار يتنقل بين الاستوديوهات من الإذاعة والتلفزيون و"بلاتوهات" السينما، ويختم اليوم بالعمل في المسرح. وهو محترف قدير، يتلاءم أداؤه مع الوسيلة الفنية، وتتنوع أدواره. كان قد بدأ العمل المسرحي في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي مع فرقة فاطمة رشدي، وغالبا في أدوار الفتى الأول. ثم التحق بفرقة رمسيس سنة 1936، وعمل في البداية كملقن، ثم صعد إلى الخشبة ومثل أدوار الميلودراما وأدواراً في مسرحيات تاريخية باللغة الفصحى. وفي الستينيات، انضم إلى فرقة إسماعيل يس، وكان يؤدي الأدوار الكوميدية.
المليجي وصفيّ الدين شوكت في "الاختيار" (1970 ــ IMDB)
نشأ محمود المليجي في أسرة بسيطة في القاهرة. ماتت شقيقته وهي في سن الطفولة، فظل الولد الوحيد لأهله. وبدأ مسيرته المهنية هاوياً منذ كان طالباً في المدرسة الخديوية الثانوية، وكان عضوا في فريق التمثيل. وكانت فرقة المدرسة تقدم في نهاية العام مسرحية يخرجها مخرج محترف. وفي هذا الإطار، اشترك محمود المليجي، الطالب الهاوي، في مسرحيات أخرجها عزيز عيد وأحمد علام وفتوح نشاطي. وفي أحد هذه العروض، شاهدته الممثلة فاطمة رشدي، وكانت آنذاك نجمة شهيرة لقبها "ساره برنار الشرق". أعجبها أداؤه وشجعته على الاحتراف. وقد أخبرني محمود المليجي عن فاطمة رشدي أنها كانت تذكر في إعلانات المسرحيات أنها "صديقة الطلبة". والسبب أنها بحسّ تجاري ذكي كانت تخصص عروضا للطلبة تكون فيها أسعار البطاقات في متناول يد الشباب، وهكذا رفدت مسرحها بجمهور إضافي.
بدأ العمل في السينما الصامتة بأجر قدره جنيه واحد في اليوم. وفي فرقة فاطمة رشدي حين انضم إليها في أواخر العشرينيات أصبح راتبه أربعة جنيهات في الشهر. ومع هذه الفرقة أدى أدواراً مختلفة في مسرحيات "يوليوس قيصر"، و"علي بك الكبير"، و"مجنون ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي. وكانت هذه المسرحيات من إخراج عزيز عيد، أبرع المخرجين في زمانه، ومنه تعلّم محمود المليجي الكثير. والغريب أن عزيز عيد حين أخرج مسرحية مدرسية قال للطالب محمود المليجي "أنت لا تصلح للتمثيل". ولاحقاً حين عملا معا على صعيد الاحتراف عرف المليجي أن عزيز عيد كان يتعمّد أن يقول له ذلك لكي لا يصيبه الغرور ولكي يحفزه على مزيد من العطاء. بل إنه هو الذي دعا فاطمة رشدي إلى حضور المسرحية المدرسية لتشاهد الطالب الموهوب.
وفي مطلع شبابه، تناول محمود المليجي مع مجموعة من الأصدقاء الجمبري المشوي من بائع متجول بعربة يجرّها من حيّ إلى آخر. وكان الطعام فاسداً، ومن جرائه مات صديقان له، أما المليجي فأصيب بحالة تسمم شديدة نجم عنها سقوط شعره من رأسه إلى قدميه. هكذا أصيب بالصلع المبكّر. وبعد هذه الحادثة، لم يقبل أن يتم تصويره بالمايوه أو بالشورت مثلاً، لأنه إذا كشف عن ساقيه فستظهران ملساوين.
في الأفلام والمسلسلات العديدة والمسرحيات وقد بلغ مجموعها نحو 700 عمل، أقنع المليجي الجمهور العريض بروعة أدائه، لكنه لم يقنع زملاء له بموته في المشهد الأخير من عمره. كان جالساً مع المخرج السينمائي هاني لاشين والنجم العالمي عمر الشريف وكاتب السيناريو ممدوح الليثي استعداداً لتصوير المشاهد الأخيرة من فيلم "أيوب". بعدما شرب القهوة قال لعمر الشريف: "الحياة دي غريبة قوي. الواحد ينام ويصحى، ويصحى وينام، وينام ويشخر. وأدّى مشهد النوم وارتفع شخيره لحظات ثم مال رأسه على صدره. ضحك الزملاء وهنّأوه على حسن الأداء. ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أنه المشهد الأخير. لقد فارق محمود المليجي الحياة إثر إصابته بسكتة قلبية.