دفاتر فارس يواكيم: صباح... الشحرورة والأسطورة نجمة الصوت والصورة

10 يونيو 2019
(فيسبوك)
+ الخط -
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. 

تنشر "العربي الجديد" كل يوم إثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.

جرت العادة أن يعجب الجمهور النسائي بالنجم الرجل مع تقديره للنجمات، وأن يعجب جمهور الرجال بالنجمة المرأة، مع تقديره لمواهب النجوم. وثمة استثناءات مثل حالة فاتن حمامة التي كان جمهورها النسائي يفوق في عدده جمهورها الرجالي. أما صباح، فكانت نجمة جمهورها من الفريقين، كلاهما معجب بصوت المطربة، لكن إذا كان الرجال معجبين بالمرأة الجميلة، فالنساء كن معجبات "بالمرأة - الأمل" كما وصفتها فتاة من عائلتي، بعدما حضرت مسرحية "الأسطورة" سنة 1994 وكانت صباح في منتصف العقد السادس من عمرها، قالت لي: "صباح تعطينا الأمل بأننا يمكن أن نحافظ على جمالنا إذا وصلنا إلى عمر متقدم".

جانيت الفغالي التي سيصبح اسمها الفني "صباح" أشهر من نار على علم، ولدت في بلدة بدادون في جبل لبنان. ولقبت بالشحرورة لجمال صوتها، على غرار عمها أسعد الفغالي، أحد أبرز شعراء الزجل في زمانه وقد لقب بـ "شحرور الوادي" لجمال صوته ولقرب بلدته من "وادي شحرور" المجاورة. ولاحقاً لقبت صباح أيضاً بالأيقونة وبالأسطورة.
وفي مسيرتها الفنية كانت فعلاً أسطورة. غنّت في بعض مقاهي بيروت إلى أن اكتشفتها اللبنانية آسيا داغر المقيمة في مصر، التي اكتسبت شهرة في الوسط السينمائي كممثلة وكمنتجة قديرة للأفلام. استدعتها إلى القاهرة سنة 1944 وتعاقدت معها على بطولة ثلاثة أفلام، عرضت كلها في العام التالي. في أول فيلم "القلب له واحد"، شاركها البطولة أنور وجدي وكان من إخراج هنري بركات. أما ثاني أفلام صباح "أول الشهر" فكان من إخراج عبد الفتاح حسن، أمام حسين صدقي وحليم الرومي. والفيلم الثالث "هذا جناه أبي" من إخراج بركات أيضاً وتمثيل زكي رستم. وفي عمر التاسعة عشرة بدأ مولد النجمة التي انتشرت شهرتها من القاهرة إلى عموم العالم العربي.

في بداية مشوارها كانت مؤدية الأغاني الخفيفة، وبعضها من ألحان محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي، إلى أن أصبحت مطربة قدم لها كبار الموسيقيين ألحانهم. لكن انطلاقة الممثلة السينمائية كانت أسرع. لست أملك إحصاءً دقيقاً بعدد أغانيها لكن التقديرات ترجّح أنها في حدود 3000 أغنية لبنانية ومصرية. أما أفلامها التي قامت ببطولتها في مصر، فبلغ عددها 51 فيلماً وكانت ضيفة شرف في أربعة أفلام. وفي بيروت بطلة 27 فيلماً وعدد مماثل من المسرحيات الغنائية.
شاهدت العديد من أفلامها ومسرحياتها وأطربني عدد أكبر من أغانيها. وتعرّفت إليها عندما قمت بتغطية صحافية لبروفات المسرحية الغنائية "القلعة"، وكانت تستعدّ لتقديمها في مهرجانات بعلبك بإخراج روميو لحود سنة 1968. ثم تعاونت معها مؤلفاً لثلاث مسرحيات من بطولتها. ولكل منها حكاية.

في صيف 1971 قدمني النجم الكوميدي شوشو إلى المخرج روميو لحود، وكان يستعدّ لإنتاج وإخراج مهرجان الأرز. اقترح روميو أن نقتبس إحدى قصص جبران خليل جبران. واخترنا قصة "الشيطان" من كتاب "العواصف". كتبت النص المسرحي بالتعاون مع الكاتبة والصحافية ألين لحود شقيقة روميو الكبرى. وكانت المغناة من بطولة صباح بالاشتراك مع عصام رجي، وسمير يزبك، وشوشو، ونبيه أبو الحسن. وفيها مجموعة من الأغاني التي أصبحت رائجة: "فوق الخيل" (عصام رجي) "دقي يا ربابة" (سمير يزبك)، "لما ع طريق العين" و"بكره بتشرق شمس العيد" و"أخدوا الريح" (صباح). وبفضل هذه المسرحية توطدت علاقتي الفنية مع صباح.

وفي 1973 كانت صباح تستعد لتقديم مسرحية من إخراج روميو لحود، في مسرح المارتينيز في بيروت. وحدث أن وقع الخلاف بين روميو لحود ويوسف حمود، الذي كان وقتها زوج صباح ومنتج المسرحية، بسبب رفض المخرج تدخلات المنتج. وكان أن انسحب روميو وترك لصباح بعض الأغاني المسجلة التي كانت معدّة لمسرحيته، ومنها "على بالي"، و"قلبي يهواك" لجوزف عازار، و"علّي كاسك" التي آلت إلى ملحم بركات. وكلها من كلمات وألحان روميو لحود، ما عدا "قلبي يهواك" فهي من تلحين مطر محمد. جلبت صباح هذه الأغاني وأضافت إليها ما قدّمه لها الملحنون: فريد الأطرش "ع الصورة"، وبليغ حمدي "زي العسل"، ونور الملاح "إضحك يا قمر"، ودبكة "دق الكفّ وقوم ع الساحة". وأعجبتها أغنية "عندك بستان يا سعدي" لفيلمون وهبي فضمتها إلى المجموعة. ثم تمّ التعاقد مع ملحم بركات (وكانت المغناة الأولى التي يقوم فيها بدور رئيسي) فجاء ومعه لحن "بتجوز ما بتجوز"، ولحن "بلغي كل مواعيدي". اقترحت عليه أن يجعل اللحن الثاني دويتو غنائياً بينه وبين جورجيت صايغ فرحبّ بالفكرة. وكانت جورجيت صايغ جلبت معها أغنية "يا ناسيني"، التي لحنها لها إلياس الرحباني.

هكذا أصبح أمامي كل هذه الأغنيات، وكان عليّ أن أكتب نصّاً تمرّ فيه هذه جميعاً. وفي العادة يُكتب النصّ قبل الأغاني. لكن في هذه الحالة كتبت النص بعد الأغاني. وكانت الأغنية الوحيدة التي وضعت خصيصاً لمسرحية "الفنون جنون" هي دبكة الختام "من الأول"، وهي من كلمات وألحان زكي ناصيف. وكانت المسرحية من إخراج برج فازليان.

وكان اللقاء الثالث في مسرحية "الأسطورة"، التي قدمت في مسرح الإليزيه (الأشرفية، بيروت) سنة 1994. وكانت من بطولة صباح وجوزف عازار. ومن إخراج وتمثيل وغناء ومشاركة في التلحين، وتصميم رقصات فادي لبنان. وكان آنذاك متزوجاً من صباح. ولم يكن يملك خبرة في هذه المجالات الفنية، سوى في تصميم الرقصات باعتباره مارس قبل ذلك رقص الدبكة. وبرغم الارتجالات الكثيرة في التنفيذ، نجحت المسرحية من حيث إقبال الجمهور، بسبب بطولة صباح النجمة المحبوبة. وبناءً عليه لم أتمكن من كتابة مسرحية "كنز الأسطورة"، وسلّمت فادي لبنان الفكرة فقط واشترطت أن يعهد إلى كاتب محترف لتأليف السيناريو والحوار. لكن ظهر اسمي عليها كمؤلف، ما اقتضى توضيحاً منّي نشرته في الصحف، ما أدّى إلى قطيعة مع فادي لبنان ومن ثم - للأسف - مع صباح، إلى أن تصالحت وإياها بعد طلاقها من فادي لبنان.

تمّت الصلحة في فندق في منطقة الحازمية في ضواحي بيروت، حيث كانت النجمة الكبيرة مقيمة (وظلت تسكن هناك إلى آخر عمرها) بعدما باعت العمارة التي كانت تملكها في الحازمية أيضاً، والتي كانت مطلّة على بيروت والمطار، وكانت صباح تقيم في شقتها التي تحتل الطابق الخامس كله. ومن جيرانها ميّ عريضة رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك آنذاك، والمخرج السينمائي هنري بركات.

عندما كانت إيرادات صباح عالية، كانت تتحمل المصروفات الباهظة. ثمة مصروفات ضرورية تفرضها صورتها عند الجمهور، وما تقتضيه من أناقة في الملبس والمظهر عموماً، وكانت صباح نموذجاً تحتذي به النساء في شياكة الفساتين وتسريحات الشعر. كما كان من أعبائها مصروف أفراد عائلتها، وخصوصاً ابنتها هويدا وشقيقتيها سعاد ونجاة. وحدها شقيقتها لمياء فغالي ما كانت بحاجة إلى دعم لأنها كانت ممثلة معروفة، لديها إيراد يكفيها من مكافآت التمثيل في التلفزيون والمسرح.

ولما كبرت مصاريف هويدا بسبب مرضها الصعب وعلاجها الباهظ الكلفة، وفاق إسراف فادي لبنان الحدود المعقولة، وهذا وذاك معطوفاً على هبوط الإيرادات عن ذي قبل، عانت صباح من الأزمة المالية واضطرت إلى بيع العمارة الجميلة.



حين قصدتها للصلحة، قلت لها إنني لا أنسى فضلها عليّ. فهي شجعتني وكلفتني كتابة النصوص لها وأنا في سنوات الاحتراف الأولى. ولا أنسى زيارتي إلى عمان في خريف 1975، وكانت الحرب الأهلية بدأت في لبنان وتعطلت الأعمال الفنية تماماً وأوشكتُ على الإفلاس، وسافرت إلى الأردن وفي جيبي أربعة دنانير لا غير. زرتها في مقر إقامتها بفندق الإنتركونتننتال، وكانت متزوجة آنذاك بصديقي وسيم طبارة. سألتني عن أحوالي فقلت لها بعفوية، ينبغي أن أجد عملاً. تركتني في صالون الجناح أتحدث مع وسيم وعادت من غرفتها ومعها ظرف به مئتا دينار. قالت: "اكتب لي نصاً للتلفزيون. مطلوب مني سهرة وأفضّل ألا تقتصر على أغان، بل أرغب في تطعيمها بحوارات بيني وبين وسيم". ولاحقاً فهمت أنه لم يكن مشروع الحوارات وارداً لكنها استخدمت أسلوبها الأنيق في مساعدتي.

حتى لو لم يكن لها فضل شخصي، ينبغي أن أذكر ما لها وما عليها. وما لها يفوق بكثير ما عليها. ومما عليها أنها بالغت في أمر العناية بمظهرها، ولربما كان استمر رونق جمالها مع ظهور أثر السنين، لكن عمليات التجميل ارتدّت عليها سلباً في ما بعد. كما أنها بالغت في عدم تقدير مخاطر أن تتزوج برجل يصغرها في العمر بكثير. وقد سلمت الجرّة مرة، لكنها انكسرت في مرة ثانية. وكان الثمن غالياً مادياً ونفسياً.

وما لها أنها كانت متوافقة مع نفسها من دون تزييف. تفعل ما تؤمن بأنه يسعدها، صراحة ومن دون نفاق، ولا تأبه كثيراً بما يقوله بعض الناس. وهكذا يصبح بعض "مما عليها" مدرجاً في خانة "ما لها". ومما لها أيضاً، أنها كريمة سخيّة وصاحبة قلب طيّب. أذكر أنه ذات ليلة أثناء عروض مسرحية "الأسطورة"، أن جاء نبأ وفاة شقيق المطرب جوزف عازار قبل رفع الستار بساعة. توجهت صباح إلى جوزف معزّية، وقالت له بصدق إنها ستلغي عرض الليلة وتردّ للجمهور ثمن البطاقات وتعتذر من الحضور. شكرها جوزف عازار على تلك العاطفة، ورفض أن يتمّ إلغاء العرض وقال: "ما ذنب الناس؟ لقد أتوا ليشاهدونا ولن نلغي العرض في آخر لحظة". وكان يبكي في الكواليس ثم يدخل إلى خشبة المسرح يطرب الناس بصوته الجميل ويضحكهم بخفة ظله. (والطريف أنه تمّ إلغاء أحد عروض هذه المسرحية ليتسنّى للجميع مشاهدة المباراة النهائية في بطولة كأس العالم لكرة القدم).

وإضافة إلى "ما لها" على صعيد العلاقات الإنسانية، فلقد كانت فنانة مرهفة وتحترم عملها أيّما احترام. تأتي قبل موعد البروفة بنصف ساعة، وكان صغار الممثلين والمغنّين يصلون متأخرين، فأقول لهم: "النجمة الكبيرة في رصيدها 3000 أغنية و85 فيلماً و27 مسرحية وتصل قبل الموعد، وأنت وهو وهي ليس في رصيدكم نصف أغنية أو ربع دور ولا تحترمون المواعيد؟!!".

وكانت تمتاز بحكم الخبرة بحسّ لا يخطئ في تقدير تجاوب الجمهور. وقبل عرض أيّ مسرحية كنت أسألها "أي أغنية سوف تنجح أكثر من غيرها؟". قبل عرض "العواصف" قالت لي: "أخدوا الريح"، وقبل "الفنون جنون" قالت "زي العسل" وقبل "الأسطورة" قالت "حبّ مرتك بس!". وصدق إحساسها تماماً. وبرغم وجود أغنيات لها جميلة هي الأخرى، أخبرتها مشاعر الرصد الفنية لديها أيّ الأغاني ستحلّ في المرتبة الأولى.

رغبتها أن تُلغى مظاهر الحداد والحزن من جنازتها، وأن يشيّعها المحبّون والمحبّات إلى مثواها الأخير بالأهازيج والفرح، هي أصدق الصور المعَبّرة عن حب للحياة، حتى في الموت، عاشته النجمة الكبيرة التي تألقت لما يزيد عن خمسين سنة، وأرادت أن يبقى هذا الضوء مشعشعاً في ذاكرة الناس بعد رحيلها إلى الدار الآخرة.

دلالات
المساهمون