12 نوفمبر 2024
خطبة السياسي العربي أو غربته عن شعبه
تُعرَف الخطابة بمعناها المعتاد بوصفها قولاً موجهاً إلى الجمهور، سواء كان في حضوره المباشر أو الافتراضي، وهي تقترن بالعمل السياسي، بصورةٍ يصعب الفصل بينهما، وعلى الرغم من أن الخطابة هي الأداة المركزية لكل أشكال الممارسات التي تسعى إلى التأثير في العامة، سواء كان المتكلم واعظاً دينياً أو أديباً، فإن السياسة تظل الميدان الأهم لممارسة اللعبة الخطابية، أعني بوصفها نصاً بلاغياً، وتقنيةً للإقناع في الوقت نفسه. ومن هنا، كان الحرص لدى الفاعلين الحزبيين والنشطاء السياسيين والمسؤولين الرسميين على إتقان آليات الخطابة والتأثير من أجل الإفصاح والإبانة وإبلاغ الفكرة والدفاع عنها. وإذا كان أرسطو، في كتابه الخطابة، قد ميز بين ثلاثة أشكال خطابية، هي على التوالي "تشاجرية"، وهي التي تلقى في المحاكم وفي أثناء النقاشات، وأخرى "استشارية"، وهي التي يكون مجالها المجالس النيابية والمحافل السياسية، وأخيرا خطابة "تثبيتية"، وتلقى في المحافل العامة، وغايتها التحسين أو التقبيح، فإنه يجعل الخطابة السياسية مزيجاً بين الصنفين الأول والثالث، حيث تجمع بين المنطق والجدل (وهو سمة الشكل الأول من الخطابة) والبلاغة والأدب (وهي سمة الشكل الثالث من الخطابة). ومتى احتكمنا إلى هذا التوصيف الأرسطي لطبيعة الخطابة السياسية، يمكن القول إن العمل السياسي في المنطقة العربية يشهد بالفعل أزمة خطابية. فمن خلال مراقبة أداء النواب في البرلمانات العربية، أو كلمات المسؤولين السياسيين، يمكن القول إن الفاعلين السياسيين ما زالوا غير قادرين على تقديم صيغةٍ خطابيةٍ مقنعةٍ للشارع، حيث يتم الاكتفاء بخطبٍ تتراوح بين اللغة الخشبية الجامدة أو الوعظية المنبرية، على طريقة مشايخ الدين، وصولاً إلى خطب عاطفية، تتراوح بين الوعد والوعيد.
ومن متابعة خطابات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مثلاً، نلاحظ، من دون عناء، غياباً تاماً لأي اهتمام بتناسق البنية المنطقية للقول، والاكتفاء بالمراوحة بين إثارة العواطف أو التعبير بكلماتٍ غير مفهومة عن قضايا ملحة، وصولاً إلى اعتماد لغة الوعيد والتهديد المعلن ضد الخصوم السياسيين. تحولت الخطابة السياسية لدى بعضهم إلى ما يشبه الخطبة المنبرية، حيث يغلب عليها التهديد والوعيد والترغيب والترهيب، وحيث يغيب تماما ما أسماه أرسطو البعد التشاوري للخطابة السياسية، لتحل محلها لغةٌ مشحونة بطابع سلطوي عنيف، قائم على استثارة العواطف، بما تتضمنه من إغواء وتهديد.
وربما من المفيد التذكير، هنا، أن الخطابة السياسية قد تتحول إلى مناسبةٍ لاستثارة أشكال من
الحنين للماضي، على النحو الذي يمكن ملاحظته في خطب الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي يحرص على تقليد أسلوب الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، وحيث تمتلئ خطبه بالآيات القرآنية والأمثال الشعبية والنكات، في قالب فكاهي، وبلغةٍ دارجةٍ قد تتدنى أحياناً بقيمة الخطاب الموجه إلى الناس. وفي الإجمال، ما يمكن تسجيله بخصوص النصوص الخطابية العربية في المجال السياسي هو انفصالها عن الواقع من ناحية (تعتبر خطابات بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي أفضل تعبير عن هذا الانفصال)، وافتقادها العقلانية والقدرة على الإقناع والحجاج، وقيامها على الشعارات، أو التعبيرات العامة الفضفاضة، وهو ما نلاحظه لدى نسبةٍ كبيرةٍ من قيادات العمل السياسي الحزبي العربي، وخصوصاً لدى الناشطين السياسيين، صلب الأحزاب المغرقة في الأيديولوجيا (يميناً ويساراً)، أما الجماعات المسلحة، فإن خطاباتها السياسية ليست إلا خطباً ترهيبية، تستحضر تراثاً عربياً كاملاً من أشكال الخطاب، المغرقة في الحديّة المفرطة، حيث لا يترك المتحدث الخيار للمتلقي، بين أن يكون تابعاً للزعيم أو القائد أو الأمير وأن يكون في الجانب الآخر، أي ذاك المستهدف، ولكن، ليس بصورةٍ بلاغيةٍ وحسب، وإنما بالتهديد المباشر للوجود المادي للإنسان نفسه. فأكثر الخطب السياسية في المشهد السياسي العربي تستعيض عن الحجاج والإقناع العقلي، بلغةٍ تجمع بين التهديد اللفظي ومنطق الاستمالة العاطفي، من دون قدرةٍ على تقديم مضمونٍ واضحٍ قادر على مخاطبة عقول غالبية أفراد الجمهور العربي، وربما نذكر، في هذا الصدد، خطاب حسني مبارك الاستعطافي في أثناء الثورة المصرية، وحديثه عن رغبته في الموت على تراب مصر، أو الخطبة الأخيرة لزين العابدين بن علي، حين توجه إلى الناس بالقول "أنا فهمتكم"، من دون أن يدرك أن هذا الفهم المتأخر كان علامةً على نهايته، لأن من يحكم شعباً 23 عاماً، ويكتشف، في اللحظة الأخيرة، أنه لم يكن يدرك مطالب شعبه، فقد حكم على نفسه بالموت سياسياً.
وربما كان خطاب معمر القذافي الذي توجه فيه للمتظاهرين من أبناء شعبه بالقول "من أنتم؟" أحد أبرز صور كوميديا الخطابة السياسية العربية، حيث لا يدرك الحاكم أن ما يقوله ينبغي أن يكون منسجماً مع طبيعة الأحداث الجارية، على مستويي الزمان والمكان، وأن التعامل مع جماهير غاضبة، تطالب بإصلاحات ديمقراطية، لا يكون مستقيماً عبر التعامل معها بوصفها "نكرة" و"متآمرة"، ولا تستحق غير الاحتقار، وتجاهل مطالبها المشروعة. وهو القول نفسه الذي كرّره الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في خطابه بقوله "أنتو مين؟"، ما يعبر عن حالة التلبس التام بين الطاغية والسلطة إلى الحد الذي يجعله لا يدرك المصدر الحقيقي لها، حين يستبعد الشعب، ويعتبره الآخر/ الغائب الذي لا يحق له المشاركة في صناعة القرار، ولا تنبغي مشاورته في قضايا تخصّه، وفي سياساتٍ هو من سيتحمل عبئها، ويدفع ثمن تبعاتها.
الدرس المحوري الذي ينبغي استخلاصه من اللغة الخطابية في الفعل السياسي العربي هو أنها ما زالت تراوح مكانها بين لغةٍ وعظيةٍ تُلقى لتوجيه جماهير الناس، بوصفها قاصرةً وغير مدركة لمصالحها، أو خطبة تهديدية، قوامها الوعيد، أو هي لغة "الإقناع عبر القمع" بمصطلح فوكو، الأمر الذي يدعو كل المشتغلين بالمجال السياسي، وخصوصاً في الدول التي تتحسّس خطواتها الأولى في الانتقال الديمقراطي، إلى أن تحسن تقنيات الكلام، وتتمكّن من لغة الخطاب، لأنه "لولا الكلام لما بانت (أي تميّزت) الحجة من الحيلة، والدليل من الشبهة" كما قال الجاحظ.
ومن متابعة خطابات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مثلاً، نلاحظ، من دون عناء، غياباً تاماً لأي اهتمام بتناسق البنية المنطقية للقول، والاكتفاء بالمراوحة بين إثارة العواطف أو التعبير بكلماتٍ غير مفهومة عن قضايا ملحة، وصولاً إلى اعتماد لغة الوعيد والتهديد المعلن ضد الخصوم السياسيين. تحولت الخطابة السياسية لدى بعضهم إلى ما يشبه الخطبة المنبرية، حيث يغلب عليها التهديد والوعيد والترغيب والترهيب، وحيث يغيب تماما ما أسماه أرسطو البعد التشاوري للخطابة السياسية، لتحل محلها لغةٌ مشحونة بطابع سلطوي عنيف، قائم على استثارة العواطف، بما تتضمنه من إغواء وتهديد.
وربما من المفيد التذكير، هنا، أن الخطابة السياسية قد تتحول إلى مناسبةٍ لاستثارة أشكال من
وربما كان خطاب معمر القذافي الذي توجه فيه للمتظاهرين من أبناء شعبه بالقول "من أنتم؟" أحد أبرز صور كوميديا الخطابة السياسية العربية، حيث لا يدرك الحاكم أن ما يقوله ينبغي أن يكون منسجماً مع طبيعة الأحداث الجارية، على مستويي الزمان والمكان، وأن التعامل مع جماهير غاضبة، تطالب بإصلاحات ديمقراطية، لا يكون مستقيماً عبر التعامل معها بوصفها "نكرة" و"متآمرة"، ولا تستحق غير الاحتقار، وتجاهل مطالبها المشروعة. وهو القول نفسه الذي كرّره الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في خطابه بقوله "أنتو مين؟"، ما يعبر عن حالة التلبس التام بين الطاغية والسلطة إلى الحد الذي يجعله لا يدرك المصدر الحقيقي لها، حين يستبعد الشعب، ويعتبره الآخر/ الغائب الذي لا يحق له المشاركة في صناعة القرار، ولا تنبغي مشاورته في قضايا تخصّه، وفي سياساتٍ هو من سيتحمل عبئها، ويدفع ثمن تبعاتها.
الدرس المحوري الذي ينبغي استخلاصه من اللغة الخطابية في الفعل السياسي العربي هو أنها ما زالت تراوح مكانها بين لغةٍ وعظيةٍ تُلقى لتوجيه جماهير الناس، بوصفها قاصرةً وغير مدركة لمصالحها، أو خطبة تهديدية، قوامها الوعيد، أو هي لغة "الإقناع عبر القمع" بمصطلح فوكو، الأمر الذي يدعو كل المشتغلين بالمجال السياسي، وخصوصاً في الدول التي تتحسّس خطواتها الأولى في الانتقال الديمقراطي، إلى أن تحسن تقنيات الكلام، وتتمكّن من لغة الخطاب، لأنه "لولا الكلام لما بانت (أي تميّزت) الحجة من الحيلة، والدليل من الشبهة" كما قال الجاحظ.