15 مارس 2021
حين تطرد المدينة أبناءها.. وماضيها
لم يعد البحث عن المسكن مطلبا لاستقرار العيش لحديثي التخرج من الجامعات وحديثي الزواج، كما كان قبل عقود، في غمار التحول من المجتمع الريفي إلى الحضر. صار السكن في قلب المدينة مطلبا لاستبقاء العيش في ظل منظومة من الكسب والاستهلاك والعمل، تجبر الأفراد في شرائح عمرية عريضة (18 - 60 عاما) على البحث المهووس عن مسكن أقرب لارتباطات العمل والتعليم والخدمات الطبية والإدارية. ولم يخف هذا بالطبع على سياسات تخطيط المدن منذ منتصف القرن الماضي، فكان إنشاء مؤسسات الدولة المدن قائمًا على خطط الهندسة الاجتماعية التي سادت عقود الخمسينيات والستينيات، خصوصا في بلادنا بعدما تخلصت (اسميًا؟) من الاحتلال. ولكن الإشكال بدأ منذ تحول منظومة الإسكان والتعمير للقطاع الخاص وبدأت درجات "تسليع" المدينة تعلو إلى الحد الذي أصبح فيه حق السكنى عزيز المنال كحق الهواء النظيف والأشجار.
من منا لا يتابع أسعار الإيجارات في المدن الجامعية، في محيط المدارس العامة، في محيط وسائل النقل التي يسرت انتقال البشر، ومعهم مخاطر التغريب والجريمة والفساد الأخلاقي وذوبان الهوية؟ من منا لا يتابع انفجارات الأرقام في محيط المطارات والطرق السريعة التي تنشئها الدول برعاية وتمويل استثمارات خاصة، يأتي أغلبها من خارج البلاد، ومن بيئة لا تقارب المحددات الاجتماعية والثقافية للسكنى في ضواحي المدن؟
أن تعيش في شارع هادئ فيه بعض الأشجار، لا تمر منه عشرات السيارات وحافلات النقل كل
ثوانٍ معدودة، أصبح حلمًا بعيد المنال، أو سلعة باهظة الثمن، تبيعها شركات الاستثمار العقاري بأرقام فلكية بالنسبة لمتوسط الدخول والادخار في البلدان التي تظهر بها. أن تجد بيتًا بسيطًا فيه بعض الأشجار، وليس في منأى عن البشر والخدمات، ومن دون أن يكلف أجيالا من القوى العاملة ثمن شرائه، لم يعد ممكنًا. وليس الحل في العزوف عن المدينة، فالواقع أنها لا تطرد أهلها فحسب، بل تطرد ماضيها من الوجود أيضا.
عشرات الاستثمارات الحديثة في إسطنبول تعيد تشكيل الميادين والشوارع والمساحات العامة، بشكلٍ يمحو معاني العيش في مدينةٍ بعراقة إسطنبول وتاريخها الثقافي. جديدها مثلا قرار بلدية فانح إلغاء مراكب الأسماك الطازجة التي لطالما قدمت الخبز والسمك طعامًا للمتسوقين في سوق أمينونو، فور ما يخرجون من فوهة النفق الذي يربط أول السوق بالساحل وموانئ الركاب. تلك المراكب ليست مصدر رزق لعشرات البيوت فقط، هي ليست "تجارة سيارة" كبيع الذرة و "أبو فروة" في الطريق. وجود تلك المراكب والأسماك التي يصطادها الصيادون من البحر صباحاً لتباع مطهية في الخبز في اليوم نفسه تقليد له معانٍ ثقافية وإنسانية لا تقدر بثمن. أن تتحول تلك المراكب تدريجيًا من قوارب خشبية إلى مقصورات مائية، ثم إلى مطاعم عائمة، يعني استهدافها شريحة من المارة لا تعدو 20-30% تقديرًا من فئة متوسطي الدخول، من في مقدورهم ابتياع طعام يومي بقيمة عشرة دولارات فأعلى.
أيا ما كانت المبرّرات التي ادعتها البلدية في اتخاذها هذا القرار، فربما كانت دواعي الصحة أو التخطيط العمراني "الحديث" مبررًا كافيًا لبعضهم، ولكن المؤكد أن ميدان أمينونو وساحله بدون تلك المراكب وهؤلاء الصيادين سيكونان مختلفَين. مؤكد أن مذاق السمك المغموس في هواء البحر الطازج لن يكون موجودًا بعد اليوم. ومؤكد أيضا أنه لن يجد الجائع في ساحل إسطنبول في الحادية عشرة مساءً ما يأكله في الطريق، بخمس عشرة ليرة.
لكن تلك التغييرات في هوية "أمينونو" الثقافية سبقتها مراحل كثيرة، منها أن ينتهي السكن
"الأهلي" في تلك المنطقة الزاخرة بالتاريخ، كما انتهى في "أكسراي" وضواحيها، أن تتحول بأكملها للتجارة المشروعة نهارًا وغير المشروعة، قانونًا أو عرفًا، في الليل، أن ينتهي سكن الأسر والأطفال في تلك المناطق لارتفاع قيمتها "تجاريًا"، وتحولها إلى ضواحي "عمل"، ما يعني أنه على التجار الارتحال يوميًا من أماكن السكنى البائسة إلى أماكن "العمل"، وأنه لن تكون "المحال" أسفل المنزل كما كانت تاريخيًا، أو أسفل "الجامع"، كما ساد عرف الأوقاف قرونا في بلاد العثمانيين.
يبدأ التحول حين تطرد المدينة أهلها، حين تزيحهم إلى هوامش الضواحي، على أساس أن "المركز" قيمته أعلى من قيمة الإنسان، وأن فاحشي الثراء فقط هم من يمكنهم توفير السكنى في قلب المدينة. حينما تتحول هوية الأماكن وذاكرتها إلى "أرقام"، وتسود اعتبارات "الربح" تخطيط القطاع الخاص والدول للمدينة. عندها تبقى إسطنبول ومثلها من المدائن على لوحات الجدران، ثم لا يعرفها أحد. تمامًا كما لا يعرف أحد اليوم معنى السكنى في حي الأزهر ووكالة الغورية في القاهرة، في البيوت العريقة التي شيدها الأعيان والفقراء على السواء، قبل أن تصبح تلك المساحات حصرا على مرتادي "فندق الحسين" والباعة الجائلين.
وكما تفرض الفئات الفقيرة نفسها على المدينة فيما تسميها إدارات الحكم مساكن "العشوائيات"، سيظل على أبناء الطبقة العاملة والوسطى فرض وجودهم "الدائم" في قلب المدينة، سيبقى على الأوقاف أن توجه نظرها صوب استبقاء "الإنسان" في قلب الضواحي والعواصم. وعلى آخرين زج سياسات الإسكان المدعم في تلك المساحات، فصراع المال ضد الإنسان لا ينتهي، لكن عواقبه ستدفعها أجيال لا تعرف تاريخها.
أن تعيش في شارع هادئ فيه بعض الأشجار، لا تمر منه عشرات السيارات وحافلات النقل كل
عشرات الاستثمارات الحديثة في إسطنبول تعيد تشكيل الميادين والشوارع والمساحات العامة، بشكلٍ يمحو معاني العيش في مدينةٍ بعراقة إسطنبول وتاريخها الثقافي. جديدها مثلا قرار بلدية فانح إلغاء مراكب الأسماك الطازجة التي لطالما قدمت الخبز والسمك طعامًا للمتسوقين في سوق أمينونو، فور ما يخرجون من فوهة النفق الذي يربط أول السوق بالساحل وموانئ الركاب. تلك المراكب ليست مصدر رزق لعشرات البيوت فقط، هي ليست "تجارة سيارة" كبيع الذرة و "أبو فروة" في الطريق. وجود تلك المراكب والأسماك التي يصطادها الصيادون من البحر صباحاً لتباع مطهية في الخبز في اليوم نفسه تقليد له معانٍ ثقافية وإنسانية لا تقدر بثمن. أن تتحول تلك المراكب تدريجيًا من قوارب خشبية إلى مقصورات مائية، ثم إلى مطاعم عائمة، يعني استهدافها شريحة من المارة لا تعدو 20-30% تقديرًا من فئة متوسطي الدخول، من في مقدورهم ابتياع طعام يومي بقيمة عشرة دولارات فأعلى.
أيا ما كانت المبرّرات التي ادعتها البلدية في اتخاذها هذا القرار، فربما كانت دواعي الصحة أو التخطيط العمراني "الحديث" مبررًا كافيًا لبعضهم، ولكن المؤكد أن ميدان أمينونو وساحله بدون تلك المراكب وهؤلاء الصيادين سيكونان مختلفَين. مؤكد أن مذاق السمك المغموس في هواء البحر الطازج لن يكون موجودًا بعد اليوم. ومؤكد أيضا أنه لن يجد الجائع في ساحل إسطنبول في الحادية عشرة مساءً ما يأكله في الطريق، بخمس عشرة ليرة.
لكن تلك التغييرات في هوية "أمينونو" الثقافية سبقتها مراحل كثيرة، منها أن ينتهي السكن
يبدأ التحول حين تطرد المدينة أهلها، حين تزيحهم إلى هوامش الضواحي، على أساس أن "المركز" قيمته أعلى من قيمة الإنسان، وأن فاحشي الثراء فقط هم من يمكنهم توفير السكنى في قلب المدينة. حينما تتحول هوية الأماكن وذاكرتها إلى "أرقام"، وتسود اعتبارات "الربح" تخطيط القطاع الخاص والدول للمدينة. عندها تبقى إسطنبول ومثلها من المدائن على لوحات الجدران، ثم لا يعرفها أحد. تمامًا كما لا يعرف أحد اليوم معنى السكنى في حي الأزهر ووكالة الغورية في القاهرة، في البيوت العريقة التي شيدها الأعيان والفقراء على السواء، قبل أن تصبح تلك المساحات حصرا على مرتادي "فندق الحسين" والباعة الجائلين.
وكما تفرض الفئات الفقيرة نفسها على المدينة فيما تسميها إدارات الحكم مساكن "العشوائيات"، سيظل على أبناء الطبقة العاملة والوسطى فرض وجودهم "الدائم" في قلب المدينة، سيبقى على الأوقاف أن توجه نظرها صوب استبقاء "الإنسان" في قلب الضواحي والعواصم. وعلى آخرين زج سياسات الإسكان المدعم في تلك المساحات، فصراع المال ضد الإنسان لا ينتهي، لكن عواقبه ستدفعها أجيال لا تعرف تاريخها.
مقالات أخرى
26 يناير 2021
08 اغسطس 2020
29 مايو 2020