11 نوفمبر 2024
حملة يوسف الشاهد على الفساد
حين كانت أنظار الناس في تونس مشدودةً إلى منطقة الكامور الصحراوية، أين انتهى اعتصام المحتجين نهاية دموية، حيث سقط الشاب أنور السكرافي مدهوساً بسيارة أمنية، بعد تحرّك سلمي دام قرابة الشهرين، وفي الساعة التي كان جلهم يتابعون جنازة الفقيد، انتشرت إشاعات تفيد باعتقال رجال أعمال وموظفين رفيعين في الجمارك، تتالت بعدها الإيقافات والمداهمات لشركات وضيعات ومقرات شملت مستودعات بضائع ومخازن ومحلات وفيلات.. إلخ.
لم يتبيّن التونسيون إلى الآن الأسباب، إن كانت متعلقة بتهم فساد أو ضلوع في تقويض الأمن الوطني، خصوصاً بعد تلميحات مقتضبة لوزراء في ضلوع بعض المعتقلين في أحداث الكامور ذاتها، وبعض الاحتجاجات الاجتماعية الأخرى التي قد يكونون حرّضوا عليها أو موّلوها.. وسط تكتم شديد كهذا، تضاعفت التخمينات وحتى الشكوك في مغزى هذه العملية وتوقيتها وحجمها.
في ظل هذه المعلومات الشحيحة أصلاً، فُتح الباب على مصراعيه للإشاعة والنكتة التي حوّلت العملية إلى ما يشبه مصيدة مفتوحة على الجميع، بمن فيهم القائمون عليها. كانت هذه العملية مباغتةً، حتى لهيئة الحوكمة ومكافحة الفساد وللسلطة القضائية ذاتها، وهي آخر من يعلم، إذ بينت التصريحات الأولى للنيابة العمومية أنها لم تكن على علم، وأنه لا علاقة لها بالاعتقالات الجارية (نُسبت الى وزارة الداخلية عملاً بقانون الطوارئ). وكان على الأحزاب السياسية أن تتجاوز حالة الارتباك، لتنزل بياناتها ومواقفها بعد يومين على الأقل من اندلاع تلك الحملة. وعلى الرغم من كل هذه الاستدراكات، ما زالت غاية الحملة مجهولة إلى حد الآن، فكل ما أدلى به أعضاء الحكومة يظل ضمن العموميات التي تثني على الحملة، وترى فيها واجباً وطنياً لإنقاذ البلاد.
ولكن، حتى نفهم حقيقة ما حدث، لا بد أن ننتبه إلى تصريحات رئيس الحكومة نفسه مساء
اليوم الثاني من بدء العملية التي فيها يضع الحكومة والشعب أمام خيارين لا ثالث لهما: "إما الفساد أو الدولة"، مكتفياً بأنه أمام هذين الخيارين فقد اختار الدولة، فالاعتقالات التي طاولت بعض المشتبه فيهم تستند إلى هذه الخلفية التي توجه هذه الحملة، وتمنحها شرعية ومشروعية. أما ما يعيننا على فهم أعمق لما حدث، فهو السياق الذي وردت فيه هذه الحملة، والتي تزامنت مع ثلاثة معطيات:
يتعلق الأول بأحداث منطقة الكامور في الجنوب التونسي التي أشرنا إليها سابقاً، والتي تحرّكها مطالب تنموية، تتعلق بجهة تنتج البترول ولكنها تسجل أعلى نسب البطالة على المستوى الوطني، في ظل شكوك متنامية حول فساد ينخر هذا القطاع. أما المعطى الثاني فهو استنفار التعبئة المواطنية والمدنية لمواجهة "قانون المصالحة" الذي طرحته رئاسة الجمهورية مجدّداً على نواب الشعب، وهو المشروع نفسه الذي تم سحبه، بعد أن عرض سنة 2015، وقد لاقى آنذاك معارضة شديدة على اعتباره تبييضاً للفساد، باعتباره يقنن الإعفاء عنهم من دون محاسبة أو مساءلة.
أما المعطى الثالث والأخير فهو تقرير مجموعة الأزمات الدولية الذي يرى أن تونس بعد الثورة منحدرة إلى دولة المافيا، بعد أن قدر تقريرها أن حوالى 300 رجل أعمال فاسد استباحوا الدولة واخترقوها، ووظفوا أجهزتها لفائدة مصالحهم الخاصة، ما جعل الدولة التونسية شبيهة بدولة المافيا.
أحرجت هذه المعطيات رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، وهو الذي نصت وثيقة قرطاج
التي على أساسها اختير رئيساً للحكومة، بأن تكون محاربة الفساد إحدى أولوياته. كما سبق له وأن تعهد بخوض معركته ضد الفاسدين، موضحاً، مرات، أن مكان الفاسدين هو السجن.
سيكون من السابق لأوانه الحكم على هذه الحملة، خصوصاً وأن المعركة تبدو شاقة ومعقدة وغير متكافئة، في ظل الحديث عن تغلغل هذه المافيا في أجهزة الدولة الأكثر حرجاً: الأمن والقضاء والجمارك والإعلام.. إلخ، إذ استطاعت أن تزرع هذه المافيا خلايا نائمة في جل أجهزة الدولة، بما فيها مجلس النواب وحتى مجلس الوزراء.
ليس من السهل أن يثق التونسيون في هذه الحملة، وقد رأوا خلال سبع سنوات من الثورة كيف تجرأ هؤلاء الفاسدون على الدولة، ونكّلوا بها وحقروا من شأنها في منابر إعلامية، من دون خجل أو حياء. لقد تمكن هؤلاء من شراء كل شيء وتسخيره لفائدتهم، لذلك لا يثق الناس في هذه الحملة، ويعتبرونها تحويلاً للاهتمام، ولفت نظر عما يجري في الكامور حالياً، كما أنهم يعتقدون أيضاً أن رئيس الحكومة يعمد إلى توظيف هذه المعركة، لتجديد شرعيته ومشروعيته التي تآكلت بشكل مخيف، في ظل تعثر أدائه السياسي وأخطاء التحويرات والإقالات التي شملت أربعة وزراء في ظرف زمني وجيز، ناهيك عن رعونة ما في معالجة أحداث الكامور. وتتزايد هذه الشكوك أيضاً في ظل شبهاتٍ تحوم حول انتقائية الحملة التي تختار من تشاء، وتعفي من تشاء من الفاسدين، خصوصاً وأن شقاً آخر من الفاسدين لم تشمله بعد هذه الحملة، ما دفع بعضهم إلى الحديث عن '"تصفية حسابات" بين شقوق الفاسدين انخرطت فيها الدولة رغماً عنها.
بقطع النظر عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه هذه الحملة وحجمها وجديتها ومبدئيتها، فلقد استطاع رئيس الحكومة في ظرف وجيز أن يحصد نسباً عالية من التعاطف والتأييد الشعبيين. ولذلك، سيكون من الصعب التخلي عنه قريباً، لأنه سيتحول آنذاك إلى بطل قومي، أقالته مافيا الفساد.
لم يتبيّن التونسيون إلى الآن الأسباب، إن كانت متعلقة بتهم فساد أو ضلوع في تقويض الأمن الوطني، خصوصاً بعد تلميحات مقتضبة لوزراء في ضلوع بعض المعتقلين في أحداث الكامور ذاتها، وبعض الاحتجاجات الاجتماعية الأخرى التي قد يكونون حرّضوا عليها أو موّلوها.. وسط تكتم شديد كهذا، تضاعفت التخمينات وحتى الشكوك في مغزى هذه العملية وتوقيتها وحجمها.
في ظل هذه المعلومات الشحيحة أصلاً، فُتح الباب على مصراعيه للإشاعة والنكتة التي حوّلت العملية إلى ما يشبه مصيدة مفتوحة على الجميع، بمن فيهم القائمون عليها. كانت هذه العملية مباغتةً، حتى لهيئة الحوكمة ومكافحة الفساد وللسلطة القضائية ذاتها، وهي آخر من يعلم، إذ بينت التصريحات الأولى للنيابة العمومية أنها لم تكن على علم، وأنه لا علاقة لها بالاعتقالات الجارية (نُسبت الى وزارة الداخلية عملاً بقانون الطوارئ). وكان على الأحزاب السياسية أن تتجاوز حالة الارتباك، لتنزل بياناتها ومواقفها بعد يومين على الأقل من اندلاع تلك الحملة. وعلى الرغم من كل هذه الاستدراكات، ما زالت غاية الحملة مجهولة إلى حد الآن، فكل ما أدلى به أعضاء الحكومة يظل ضمن العموميات التي تثني على الحملة، وترى فيها واجباً وطنياً لإنقاذ البلاد.
ولكن، حتى نفهم حقيقة ما حدث، لا بد أن ننتبه إلى تصريحات رئيس الحكومة نفسه مساء
يتعلق الأول بأحداث منطقة الكامور في الجنوب التونسي التي أشرنا إليها سابقاً، والتي تحرّكها مطالب تنموية، تتعلق بجهة تنتج البترول ولكنها تسجل أعلى نسب البطالة على المستوى الوطني، في ظل شكوك متنامية حول فساد ينخر هذا القطاع. أما المعطى الثاني فهو استنفار التعبئة المواطنية والمدنية لمواجهة "قانون المصالحة" الذي طرحته رئاسة الجمهورية مجدّداً على نواب الشعب، وهو المشروع نفسه الذي تم سحبه، بعد أن عرض سنة 2015، وقد لاقى آنذاك معارضة شديدة على اعتباره تبييضاً للفساد، باعتباره يقنن الإعفاء عنهم من دون محاسبة أو مساءلة.
أما المعطى الثالث والأخير فهو تقرير مجموعة الأزمات الدولية الذي يرى أن تونس بعد الثورة منحدرة إلى دولة المافيا، بعد أن قدر تقريرها أن حوالى 300 رجل أعمال فاسد استباحوا الدولة واخترقوها، ووظفوا أجهزتها لفائدة مصالحهم الخاصة، ما جعل الدولة التونسية شبيهة بدولة المافيا.
أحرجت هذه المعطيات رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، وهو الذي نصت وثيقة قرطاج
سيكون من السابق لأوانه الحكم على هذه الحملة، خصوصاً وأن المعركة تبدو شاقة ومعقدة وغير متكافئة، في ظل الحديث عن تغلغل هذه المافيا في أجهزة الدولة الأكثر حرجاً: الأمن والقضاء والجمارك والإعلام.. إلخ، إذ استطاعت أن تزرع هذه المافيا خلايا نائمة في جل أجهزة الدولة، بما فيها مجلس النواب وحتى مجلس الوزراء.
ليس من السهل أن يثق التونسيون في هذه الحملة، وقد رأوا خلال سبع سنوات من الثورة كيف تجرأ هؤلاء الفاسدون على الدولة، ونكّلوا بها وحقروا من شأنها في منابر إعلامية، من دون خجل أو حياء. لقد تمكن هؤلاء من شراء كل شيء وتسخيره لفائدتهم، لذلك لا يثق الناس في هذه الحملة، ويعتبرونها تحويلاً للاهتمام، ولفت نظر عما يجري في الكامور حالياً، كما أنهم يعتقدون أيضاً أن رئيس الحكومة يعمد إلى توظيف هذه المعركة، لتجديد شرعيته ومشروعيته التي تآكلت بشكل مخيف، في ظل تعثر أدائه السياسي وأخطاء التحويرات والإقالات التي شملت أربعة وزراء في ظرف زمني وجيز، ناهيك عن رعونة ما في معالجة أحداث الكامور. وتتزايد هذه الشكوك أيضاً في ظل شبهاتٍ تحوم حول انتقائية الحملة التي تختار من تشاء، وتعفي من تشاء من الفاسدين، خصوصاً وأن شقاً آخر من الفاسدين لم تشمله بعد هذه الحملة، ما دفع بعضهم إلى الحديث عن '"تصفية حسابات" بين شقوق الفاسدين انخرطت فيها الدولة رغماً عنها.
بقطع النظر عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه هذه الحملة وحجمها وجديتها ومبدئيتها، فلقد استطاع رئيس الحكومة في ظرف وجيز أن يحصد نسباً عالية من التعاطف والتأييد الشعبيين. ولذلك، سيكون من الصعب التخلي عنه قريباً، لأنه سيتحول آنذاك إلى بطل قومي، أقالته مافيا الفساد.