حق المِلكية والجغرافيا السياسية المتغيرة تاريخياً
في التحضير لفعالية ثقافية دعيت إليها في ألمانيا، طُلب مني، بالإضافة إلى الورقة التي سأقدمها، صورة شخصية، لنشرها في منابر تغطية النشاط إعلاميا، وعلى الموقع الإلكتروني للهيئة المنظمة. بعد أن أرسلت الصورة، وصلت إلي رسالة من الهيئة تسألني فيها إن كانت الصورة شخصية أو هناك من يملك حقوقها. صدمني السؤال، على الرغم من معرفتي بمفهوم الملكية الفكرية ومدى حساسيته منذ أخذ يتبلور، حتى تأسست المنظمة العالمية للمِلكية الفكرية (ويبو) في العام 1970، وانضمت إلى الأمم المتحدة بعدها بأربع سنوات، وكان قد سبقها تاريخ من النمو والتطور والمؤتمرات والاتفاقيات، حتى نضجت الفكرة وأشهرت في ذلك العام، وصار عدد أعضائها يقترب من مائتي دولة.
من غير المجدي حاليًا الكلام عن حقوق المِلكية الفكرية والإبداعية في منطقتنا التي تعاني من ويلات حروبٍ في بعضها، ومن براكين كامنة تحت القشرة التي تبدو مستقرّة في مجتمعات بعضها الآخر، بل وحتى من قبل أن تقع الحروب، وفي مواكبة البراكين الكامنة أيضًا، لم يكن للمِلكية الفكرية والإبداعية حصانة يعتدّ بها، فهي منتهكة بحكم آليات الفساد وانشغال الأنظمة الحاكمة وثقافة المجتمعات المسيطرة بقضايا أخرى حيوية بالنسبة لها أكثر. إنما ما أخذتني إليه تلك الرسالة، والتأكيد على حق الملكية الفكرية، هو مفهوم الملكية بشكل عام، قبل أن نصل إلى هذا الترف، ترف حماية الإبداع والمنتج الثقافي الذي يعاني من شلل وعجز وتراجع وسوء حال في بلداننا، فالمِلكية بحد ذاتها على علاقة وثيقة بمفهوم الفرد الذي ينبثق منه طيفٌ من الحقوق، على الدساتير والقوانين حمايتها، لتمكين العقد المبرم بينه وبين الدولة.
من غير المجدي حاليًا الكلام على حقوق الملكية الفكرية والإبداعية في منطقتنا التي تعاني من ويلات حروبٍ في بعضها
في مراحل تطوّر الحياة البشرية، منذ أول اجتماع للأفراد في مجموعاتٍ تعيش مع بعضها بعضا، كانت هناك المِلكية الجماعية التي تميّزت بها حياة القبيلة، حيث يشترك كل أفراد القبيلة في ملكية كل ما للقبيلة. ومع تطور الحياة وانتقال البشرية إلى المجتمع الزراعي، تعقد مفهوم الملكية، وتبلورت مع الوقت المِلكية العائلية، وبعدها المِلكية الفردية التي راحت تتكثف أكثر، وتزداد مقوّماتها، إلى أن صدر إعلان حقوق الإنسان بعد الثورة الفرنسية في العام 1789، وأعلن أن الملكية حقٌّ مقدس لا يجوز مسّه. ولكن السجال بقي مضطرمًا، فهناك من طرح فكرة أن المِلكية الفردية ليست حقًّا، وإنما هي وظيفة اجتماعية، تمارس في حدود أهداف المجتمع ومناهج الدولة. ويمكن للدولة أن تتدخّل، بموجب القوانين الناظمة، في حال تعارض حق الملكية الفردية مع المصلحة العامة، إذ تكون الغلبة للمصلحة العامة. وتنص القوانين في بلدان كثيرة على تعويض المالك لقاء هذا التفضيل.
ولكن من يمكن أن يحاسب سلطة، خصوصا إذا كانت من الطبيعة الشمولية والقمعية، في تحديد المصلحة العامة؟ بموجب النظريات والأيديولوجيا التي تعتمدها أنظمة الحكم في إدارة شعوبها ومجتمعاتها، يمكن أن يتعرّض موضوع المِلكية للانتهاك بدون أي مقابل يضمن الشعور بالإنصاف والعدل ويحمي الاستقرار في المجتمع، فمثلاً عندما يتجه النظام الحاكم بالمِلكية وجهة اجتماعية، من منطلق النظريات الاشتراكية، فيسعى إلى التأميم ونقل وسائل الإنتاج إلى الدولة، بغاية استخدامها لمصلحة الشعب، ثم يبدأ الفساد والترهل وإثراء الطبقة الحاكمة على حساب الشعب، تصبح الملكية، بحد ذاتها، منتهكة، مثل بقية الحقوق، وتسخر وسائل الإنتاج التي أممت، وغيرها من قطاعات الدولة، في معظمها لصالح طبقة الحكم والسلطة في البلاد.
من يمكن أن يحاسب سلطة، خصوصا إذا كانت من الطبيعة الشمولية والقمعية، في تحديد المصلحة العامة؟
يمكن القول إن جميع الدساتير تنص على مواد تصون الحقوق الفردية والجمعية، ومنها الملكية، ومنها المسكن أيضًا، ولكن ما يحصل في أماكن النزاع والصراعات أن هذا الحق، مثل غيره من الحقوق، يتعرّض للانتهاك مباشرة، إذ يحكم قانون القوة ومسلك المنتصر على مصير الملكيات، خصوصا للأفراد الذين تفرض عليهم الحرب الهجرة من بيوتهم وأملاكهم، نجاة بأرواحهم، تاركين خلفهم جنى عمرهم وما ملكوا، ليحل محلّهم المنتصر في المعركة، ويحتل بيوتهم ويسطو على أملاكهم، وهذا ما شاهدناه بكثافة خلال سنوات عشر من الحرب السورية، إنْ في المناطق التي تحت سيطرة النظام، أو الواقعة تحت سيطرة فصائل معارضة أو مقاتلة أو عسكرية أو إسلاموية، لا فرق، والمدعومة من قوى خارجية، كما شاهدنا في المناطق التي سيطرت عليها قوات مدعومة من تركيا، أو في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد). غالبية المهجرين السوريين، كما الشعب الفلسطيني الذي هُجّر من أرضه ومساكنه ودياره وأملاكه، تمرّ السنون وما زال الفلسطيني يورث حلمه بالعودة إلى أرضه وأملاكه إلى أولاده وأحفاده، ويسلمهم مفاتيح لم تعد تفتح إلا أبواب الذاكرة على حرائق الحنين.
في أماكن النزاع والصراعات أن الحقوق الفردية والجمعية، ومنها حق الملكية، يتعرّض للانتهاك مباشرة، إذ يحكم قانون القوة ومسلك المنتصر على مصير الملكيات
في النتيجة، المِلكية، في كل أشكالها، فردية، جماعية، للشعب، للأمة. جميعها تخضع لقانون القوة، فالأقوى يضع يده عليها، ضاربًا بالقوانين الضامنة والناظمة عرض الحائط. وفي محاولة تهويد فلسطين، ومحو هويتها بحكم القوة، مثال كبير، ولو توسّعنا قليلاً، واستدعينا التاريخ، لرأينا أن الأمم والدول ولإمبراطوريات والقوى في حالة تحوّل دائم في ميزان القوة، فلا إمبراطورية دامت، ولا دولة استطاعت أن تبقى قائدة العالم إلى الأبد. ويمدّنا التاريخ بالحقائق الدالّة على أن القوة جوّالة، لكن ما يبقى هو تراث الشعوب والأمم، وما تترك وراءها عند خسرانها المعارك والحروب من إرث حضاري يقع تحت سيطرة القوى الجديدة، تتصرّف به على هواها، باعتباره صار مِلكية خاصة. وإذا كانت "اليونسكو" إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، منوطا بها حماية التراث العالمي بعد توثيقه، لتبقى قصة الحضارة المتراكمة عبر التاريخ التي ساهمت فيها المجموعات البشرية منارةً تستلهم بواسطتها البشرية بعضًا من إبداعاتها وفكرها، باعتبار أن الحضارة والثقافة فعل تراكمي، فإن هذه المنظمة، مثل غيرها، لا تملك القوة النافذة أو الملزمة. ولا تستطيع أن تحشد عناصر القوة الخاصة لحماية التراث البشري، وعدم استخدامه نوايا ونزعات دينية أو عرقية أو قومية... إلخ، أو تسييسه، فهناك أوطانٌ بحالها تسرق من شعوبها والعالم يتفرّج، ولا حصانة لثقافة أو إبداع أو ملكية من أي نوع أو حياة، طالما أن العالم يعيش على الحروب. وإذا كانت القوى المنتصرة عبر التاريخ سطت على التراث الحضاري والأوابد التي تركتها خلفها الشعوب المهزومة، وحوّلتها إلى ما يخدم عقائدها ومصالحها، فذلك لا يمكن اعتباره قاعدةً يتم الاستناد إليها بالقياس، بل يجب التوجه عالميًا إلى جعل تلك الأوابد وتلك المنتجات الإبداعية التي صنعتها الشعوب ملكًا للبشرية، يوكل أمر رعايتها وإدارتها وحمايتها وتوفير أسباب ديمومتها إلى جهات غير مسيسة، وغير مرتبطة، ومستقلة، وصاحبة قرار.
هذا حلم بعيد عن التطبيق في الوقت الحالي، لكنه مطروح في حمّى التراشق والحروب والنزاعات والمعارك الافتراضية التي تجري في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن قرار الحكومة التركية إرجاع متحف آيا صوفيا إلى مسجد، مثلما صار قبل خمسمائة عام، في وقت تشهد فيه البشرية حروبا ونزاعات عديدة، وأزمات ترجّ النظام العالمي، وتكاد تصدّع أركانه. وفي الوقت نفسه، نعاني، نحن شعوب هذه المنطقة، من عمليات استقطابٍ لم يشهد التاريخ مثل حدّتها، استقطاب ديني وطائفي ومذهبي وعرقي وقومي، يُسخّر في خدمة الصراعات الدائرة، ويعمّق التصدعات والفجوات بين مكونات الشعب الواحد، بدلاً من أن تجتمع النيات والأفكار والجهود والطاقات على دراسة الراهن وما أوصلت إليه الحروب والفتن، فليست المِلكيات فقط هي التي انتهكت، وليس فقط الشعب في قسم كبير منه قد هجّر من بيوته وقراه ومدنه، وتم الاستيلاء على ملكيته، بل إن تاريخًا بحاله قد استبيح، وهوية متشكلة عبر التاريخ قد سرقت، مثلما حصل للآثار والأوابد السورية، وطاقات إبداعية وفكرية كامنة للمستقبل تمّ القضاء عليها وتفتيتها أو تهجيرها، ليستغلها الغرب في رفد تطوّره الحضاري. ليت السوريين يعون هذه البديهيات، ويسعون إلى حماية ما تبقى من ملكياتٍ فردية وجماعية، فكرية وإبداعية ومادية، علّ الجمرة المدفونة تحت رماد حرائقهم تتقد، ويبدأون بإبداع حياتهم مرة أخرى.