حفتر في متاهته

14 ديسمبر 2019
+ الخط -
يخرج اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مرة أخرى، معلنا انطلاق حملة السيطرة على العاصمة طرابلس، ومع أن حملته التي أعلنها في 4 إبريل/ نيسان الماضي قد انتهت بكارثة عسكرية لحقت المجموعات التابعة له، إلا أنه يصرّ مجدّدا أنه في الطريق إلى الهيمنة على عاصمة البلاد، وإنهاء وجود حكومة الوفاق.
يأتي الإعلان الجديد هذا في سياق دولي متغير، وفي أفق الإعداد لمؤتمر برلين الذي ينتظر منه إيجاد حل سلمي لصراع عسكري في ليبيا طال أمده، تداخلت فيه عوامل محلية وقوى دولية وإقليمية، يدفع بعضها نحو التأزيم، فيما تحاول أطرافٌ أخرى تحقيق مكاسب من خلال فرض نفسها في الملف الليبي الشائك. ويدرك خليفة حفتر، أكثر من غيره، أن السير نحو الحل السلمي يعني فعليا نهاية وجوده وتأثيره، وإلغاء طموحه الدائم في السيطرة على ليبيا على طريقة زعيمه الراحل معمر القذافي، فقد تقلب هذا الجنرال المتقاعد بين مواقع مختلفة، بداية من عمله تحت إمرة القذافي، ثم وقوعه أسيرا في معارك وادي الدوم في تشاد، حيث انتقل بعدها إلى المعسكر الأميركي. وعلى الرغم من مكوثه في حالة استقالة سياسية سنوات طويلة، فقد أعادت ثورة فبراير الروح له، ليشارك في تقرير مصير ليبيا. وعلى الرغم من مرور السنوات الطوال منذ مشاركته في انقلاب سبتمبر 1969، فإن الأحداث تدل على أن خليفة حفتر لا يزال في متاهته الأولى، ولم يدرك بعد أن فكرة الهيمنة على الشعب الليبي عبر سلطة الحذاء العسكري المدعوم خارجيا أصبحت من قبيل الماضي، في ظل تشكل مشهد سياسي جديد، وظهور نخب سياسية أخرى، تسعى إلى التأثير وتحظى بقبول دولي، ولها أيضا تحالفاتها الدولية والإقليمية.
ومنذ إعلان انقلابه التلفزيوني في فبراير/ شباط 2014، ظل حفتر يتأرجح بين رغبته في الظهور بصورة الرجل القوي في ليبيا، مسوّقا نفسه لدى القوى الغربية الكبرى ضمانةً ضد الإرهاب وتمدد الفوضى في المنطقة، وتحوّله إلى مجرد تابع صغير لدول إقليمية معادية للثورات العربية، في مقدمتها الإمارات ونظام عبد الفتاح السيسي في مصر. وعلى الرغم من الدعم العسكري الواسع الذي تلقّاه من هذه الأنظمة، بالإضافة إلى الدعم الفرنسي، واستعانته أخيرا بالمرتزقة الروس ومجموعات الجنجويد السودانية، فقد فشل حفتر في إحراز نصر عسكري يمنحه المكانة التي يطمح لها.
وبعد هزيمة قوات حفتر في معارك غريان، وانكسار المليشيات التابعة له على مشارف العاصمة، تغيرت معادلات كثيرة، بما فيها موقف الأمم المتحدة الذي أصبح مؤيدا بوضوح للحل السياسي، 
وهو ما يمكن أن نستشفّه من تصريحات المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسّان سلامة. ومن جهة أخرى، الشرعية التي تحظى بها حكومة الوفاق في طرابلس جعلت مهمة حفتر أكثر عسرا، وربما هذا ما سيجعله يندفع في مغامرة أخيرة يائسة، لتحقيق انتصار عسكري، مهما كان حجمه، لفرض نفسه في أي تفاهماتٍ سياسيةٍ مقبلة، ففي مقابل ولاءات حفتر لقوى دولية مختلفة (وهي متضاربة الغايات والمصالح) فقد تمكّنت، في المقابل، حكومة الوفاق من تعزيز موقعها من خلال اتفاقاتها الأمنية أخيرا مع تركيا، بالإضافة إلى تبدّل الموقف الأميركي الذي أصبح داعما لفكرة الحل السياسي، من دون إغفال التأثير الإيطالي الذي يوازن الموقف الفرنسي من حيث الحضور في ليبيا.
هذا التعقيد الذي يطبع الحالة السياسية في ليبيا، ولعبة الأواني المستطرقة المتبادلة بين القوى الكبرى، يجعلان من العسير الحديث عن حسم عسكري في ليبيا، بسبب تشابك الأوضاع على الأرض، من حيث موازين القوى العسكرية، وحتى البنية الديموغرافية وطبيعة الولاءات القبلية، فمن الصعب أن تخضع المنطقة الغربية والعاصمة طرابلس لنفوذ حفتر، مهما كان عديد القوات التي يقودها، ومهما كان حجم الدعم الذي يتلقاه.
قد يستمر الجنرال السابق مزيدا من الوقت في متاهته، قبل أن يدرك أن زمن العسكرتاريا قد ولى، وأن حلم الزعامة المطلقة الذي راوده طويلا أصبح وهما، إلا أن هذه الاستفاقة المتأخرة التي قد تُفرَض عليه ستخلّف وراءها مزيدا من الدمار والأشلاء والدماء من أبناء الشعب الليبي الواحد. المشكلة أن أمثال هذا الجنرال التائه لا يدركون عواقب الأمور، ولا يفهمون حركة التاريخ التي لا تعود إلى الوراء، لأنهم لو فهموا لوفّروا كثيرا من الآلام والعناء على شعوبهم، وفضلوا أن يظلوا بعيدا ليختار الشعب ما يناسبه بعيدا عن منطق الإكراه والهيمنة.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.