بينما يحاول فن العمارة ترسيخ القيم الجمالية بشكل مدروس ومخطّط، جاعلاً لها منافذ وأرضية صلبة، يأتي معسكر القبح في كل مرة ليهدم ما جرى تخطيطه ويمحو أثره، خصوصاً وقد أصبحت له أذرع راسخة لدى الدولة والمتنفّذين فيها.
كانت "قرية القرنة" مشروعاً معمارياً بيئياً فكّر فيه المهندس المصري حسن فتحي (1900 - 1989) في أربعينيات القرن الماضي. لم تكن فقط مشروعاً طموحاً لبناء قرية كاملة على أساس جمالي يعتمد ثيمة المعمار الريفي والبناء بـ"الطوب اللبن"، بل كانت حلاً سريعاً وناجزاً يقدَّم على طبق للدولة المصرية لحل مشكلة الإسكان وبناء "عمارة الفقراء" بمقوّمات قليلة في التكلفة ولها طابع جمالي مميّز يتّسق مع طبيعة البيئة الجغرافية.
لم يتوقف فتحي عند "قرية القرنة"، بل بنى أيضاً "قرية باريس" التي تعتمد في معمارها على الطوب الرملي؛ ليستطيع الوصول إلى خفض درجات الحرارة، حتى تصل إلى 15 درجة مئوية، ما يناسب المناطق الصحراوية ذات الحرارة العالية، كسيناء والعريش وبعض محافظات الصعيد، وبتكلفة مادية قليلة.
الأسئلة التي تُطرح الآن، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تسجيل "قرية القرنة" بقائمة التراث العالمي باليونيسكو، لماذا بدأت العمارة البيئية وانتهت في مصر عند حسن فتحي؟ لماذا انحرفت عن الهدف الذي كانت تتطلع إليه؟ لماذا سُلبت أفكار "القرنة" و"باريس" من قِبل بعضهم، محوّلين الفكرة لإنشاء منتجعات هنا أو هناك للأغنياء؟
تذهب التفسيرات في أكثر من منحى، لكن جميعها يصبّ في اتجاه إدانة الدولة إدارياً وجمالياً. ففي الوقت الذي تزداد فيه نسب العشوائيات في مصر، وبالتالي قبحها المعماري، تقوم وزارة الإسكان بطرح شقق لمحدودي الدخل تصل قيمة الواحدة منها إلى 90 ألف جنيه مصري، وهو مبلغ يمكّن من بناء نصف قرية على طريقة "القرنة".
منهجيًا، لا يمكن فصل نمط إدارة الدولة عن فكرة الجمالية، فالدولة التي تنتهج منهجاً رأسمالياً بحتاً، تشجع الاستثمار وتمنح الحظوة الكبرى للمستثمرين الذين يعتبرون الطبقات محدودة الدخل مجرّد إطار للصورة. بالنسبة إليهم وللدولة، الأهم في اللوحة ليس الجمالية والعمارة البيئية والتناغم المجتمعي، بل أن يستفيد الأثرياء، أصحاب تلك المباني الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية الباهتة؛ وتلك صورة أخرى من العشوائية.
طبعاً، لا يمكننا الفصل بين فكرتي الجمالية والأمان الاجتماعي الذي تفتقده آلاف الأسر المصرية. كما لا يمكننا أن نضع أنفسنا فى زاوية رؤية بطل فيلم "البيات الشتوي" للمخرج التركي نوري سيلان الذي انتقد القبح الواضح في قريته، متناسياً ما يعانيه أهلها من فقر. يبدو مشروع فتحي ممكناً في دولة تنحاز إلى العدالة الاجتماعية. لكن، في غياب هذه الرؤية، لا نستغرب أن نسمع مؤخراً أن "قرية القرنة" تكاد تُمحى بالكامل، ومشروعها/ حلمها يمضي إلى غير رجعة.