31 أكتوبر 2017
حدود المنعة الإسرائيلية
إنْ كانت القدرة على توظيف الموارد الذاتية تعدّ أبرز المتطلبات الموضوعية التي تتسلح بها الأمم والدول، لتحسين مكانتها في معادلة الصراع مع دولٍ توجد في حالة عداء معها، فإن درجة تمتع هذه الدول بالتفوق في هذا الصراع تتوقف على سعة هذه الموارد، وإمكانية أن توفر ردوداً على التحدّيات المختلفة، فكلما اتسعت الموارد الذاتية تعاظمت قدرة الدولة على توظيفها في تحقيق مصالحها والمسّ بـ "العدو". وعندما تكون الموارد الذاتية محدودةً، فإن القيادات المسؤولة توظفها بشكل انتقائي لمواجهة تحدياتٍ مباشرة ذات درجة تهديدٍ أكبر.
وبخلاف الانطباع السائد، تعدّ إسرائيل مثالاً للكيانات التي تعتمد التوظيف الانتقائي للموارد الذاتية في بناء قدراتٍ وإمكاناتٍ لمواجهة تحدياتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ تهدّد أمنها، وقد تؤثر على وجودها، فقد وظفت مواردها الذاتية في بناء قدراتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ واستخبارية، مكّنتها من تجاوز التحدّيات المنبثقة عن الممانعة العربية لوجودها، فانتصرت في حروبٍ مفصلية؛ وحسّنت من قدرتها على مواجهة المقاومة الفلسطينية. لكن، تبين أن الكيان الصهيوني، في المقابل، غير قادر على التصدّي لتحدياتٍ ذات طابع مدني، يمكن أن تشكّل بسهولة تهديداً إستراتيجياً لها، بسبب قصور الموارد الذاتية، فإسرائيل التي سمحت لوسائل إعلامها، ومن باب الرّدع، بالتلميح إلى مسؤوليتها عن اغتيال مهندس الطيران التونسي، محمد الزواري، على بعد آلاف الأميال من فلسطين المحتلة، هي نفسها التي عجزت عن مواجهة الحرائق التي أجبرت عشرات آلاف الصهاينة قبل شهرين على النزوح من منازلهم، واضطرّت للاستعانة بخدمات ثماني دول في محاولة إطفائها، بعد أن كادت أن تأتي على مرافق حسّاسة، كان يمكن أن يفضي المسّ بها إلى إلحاق أضرارٍ إستراتيجية بإسرائيل وأمنها وعمقها المدني. فعلى الرغم من أن إسرائيل تعرّضت في العام 2010 لتحدّي حرائق مماثل، إلا أنها فشلت مجدّدا في مواجهتها بقدراتها الذاتية.
لسع العجز عن مواجهة الحرائق وعي القيادة والنخب الإسرائيلية، إلى درجة أن أياً من مستويات صنع القرار غير قادر على الإجابة عن السؤال: ماذا لو نتجت هذه الحرائق من صواريخ تسقط خلال حروبٍ أو حملات عسكرية، فكيف سيكون في وسع إسرائيل إدارة الجهد الحربي، وفي الوقت ذاته، مواجهة تبعات تلك الحرائق، حيث إن الصواريخ يمكن أن تسقط أيضاً على مرافق حسّاسة، يؤدي المس بها إلى آثار بعيدة المدى على العمق المدني، في كيان
صغير المساحة، تتاخم فيه التجمعات السكانية المرافق الكيماوية ومحطات الطاقة ومعامل التكرير وغيرها. ومن يطرح هذه التساؤلات يعي أن فرص استنفار دول العالم للمساعدة وقت الحروب تؤول إلى الصفر. وفي الوقت ذاته، تبين أن موارد إسرائيل الذاتية عاجزةٌ عن تأمينها دبلوماسياً وسياسياً في الساحة الدولية، فقد وظفت إسرائيل قوتها الناعمة خلال العقد الأخير في محاولة لبناء علاقات مع دول أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، حيث عمدت إلى إمداد بعض هذه الدول بالخبرات الأمنية والتقنية، من أجل إقناعها بدعمها في المحافل الدولية. لكن تمرير قرار 2234 بشأن عدم شرعية الاستيطان، أخيراً، في مجلس الأمن، بمبادرة بعض هذه الدول ودعمها، بعد أن امتنعت إدارة أوباما عن استخدام حق النقض (الفيتو)، يدل على قصور الرهان على القوة الناعمة. ولم يكن مستهجناً أن يرد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بنزقٍ وبشكل هستيري على ما حدث، فيوبخ دولاً، ويوقف الدعم عن أخرى، كما حدث مع السنغال، لأنها تجرأت على تقديم مشروع القرار الذي سحبه نظام عبد الفتاح السيسي. وحتى المنعة الاقتصادية التي تتباهى بها القيادة الإسرائيلية لم تكن فقط نتاج توظيف الموارد الذاتية، بل كانت أيضاً نتاج تحولات البيئة الإقليمية التي لم يكن لإسرائيل دور فاعل في إملائها. فبعد ثورة 25 يناير، وتحديدا بعد فوز محمد مرسي بالرئاسة، قرّرت إسرائيل إحداث تغيير جذري على بناء القوة العسكرية، بشكلٍ كان سيفضي حتماً إلى زيادة النفقات الأمنية، بشكلٍ غير مسبوق لمواجهة تبعات التحولات في مصر، فقد قدّرت إسرائيل حينها أنها مطالبةٌ بإنفاق عشرين مليار دولار، لتحقيق المرحلة الأولى من هذا الهدف، وهو ما كان سيفضي إلى المسّ بقدرة إسرائيل على مواصلة الاستثمار في تطوير الخدمات والبنى التحتية، ما يزيد من فرص حدوث تباطؤ النمو الاقتصادي بشكل كبير (ميكور ريشون، 22-4-2012).
أدركت إسرائيل طابع التحدي الذي تواجهه، وأقرّ نتنياهو، في كلمةٍ أمام خريجي كلية الأمن القومي الإسرائيلي، أخيراً، بأن تفوق إسرائيل النوعي في المجالين، العسكري والاستخباري، وفي منعتها الاقتصادية، غير كاف لمواجهة التحديات الإستراتيجية المختلفة، ما يفاقم الحاجة إلى توسيع دائرة التعاون والتنسيق مع الدول الأخرى.
وإن كانت حادثة اغتيال الزواري تبدو، أول وهلة، ترجمةً لتوظيف إسرائيل المحكم لمواردها الذاتية، فإن المسوّغات التي سيقت لتبرير الاغتيال تدل تحديداً على الطاقة المتواضعة لهذه الموارد، فقد تم تبرير اغتيال الزواري بدوره المستقبلي المحتمل في تحسين قدرات مقاومة غزة في الحرب المقبلة، من خلال إمكانية تزويدها بطائراتٍ بدون طائرات "انتحارية"، ولضمان أمن حقول الغاز، بذريعة أن الزواري كان يخطط لتصميم غواصاتٍ يتم التحكم بها عن بعد (معاريف، 23-12)، فأن كانت إسرائيل تستنفر، على هذا النحو، لتحييد إمكانات شخصٍ واحد من خلال اغتياله، فماذا سيكون في وسعها أن تفعل، لو حملت دولٌ الهم الذي كان يحمله الزواري.
على الرغم من أن الواقع الإقليمي حالياً يعد بيئةً مثاليةً تسمح لإسرائيل بهامش مناورة غير محدود على الصعيد العسكري والاستخباري، وتمنحها القدرة على مواجهة التحديات، فإن أي تحول في مسار الأحداث الإقليمية سيفضي إلى نتائج مغايرة.
وبخلاف الانطباع السائد، تعدّ إسرائيل مثالاً للكيانات التي تعتمد التوظيف الانتقائي للموارد الذاتية في بناء قدراتٍ وإمكاناتٍ لمواجهة تحدياتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ تهدّد أمنها، وقد تؤثر على وجودها، فقد وظفت مواردها الذاتية في بناء قدراتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ واستخبارية، مكّنتها من تجاوز التحدّيات المنبثقة عن الممانعة العربية لوجودها، فانتصرت في حروبٍ مفصلية؛ وحسّنت من قدرتها على مواجهة المقاومة الفلسطينية. لكن، تبين أن الكيان الصهيوني، في المقابل، غير قادر على التصدّي لتحدياتٍ ذات طابع مدني، يمكن أن تشكّل بسهولة تهديداً إستراتيجياً لها، بسبب قصور الموارد الذاتية، فإسرائيل التي سمحت لوسائل إعلامها، ومن باب الرّدع، بالتلميح إلى مسؤوليتها عن اغتيال مهندس الطيران التونسي، محمد الزواري، على بعد آلاف الأميال من فلسطين المحتلة، هي نفسها التي عجزت عن مواجهة الحرائق التي أجبرت عشرات آلاف الصهاينة قبل شهرين على النزوح من منازلهم، واضطرّت للاستعانة بخدمات ثماني دول في محاولة إطفائها، بعد أن كادت أن تأتي على مرافق حسّاسة، كان يمكن أن يفضي المسّ بها إلى إلحاق أضرارٍ إستراتيجية بإسرائيل وأمنها وعمقها المدني. فعلى الرغم من أن إسرائيل تعرّضت في العام 2010 لتحدّي حرائق مماثل، إلا أنها فشلت مجدّدا في مواجهتها بقدراتها الذاتية.
لسع العجز عن مواجهة الحرائق وعي القيادة والنخب الإسرائيلية، إلى درجة أن أياً من مستويات صنع القرار غير قادر على الإجابة عن السؤال: ماذا لو نتجت هذه الحرائق من صواريخ تسقط خلال حروبٍ أو حملات عسكرية، فكيف سيكون في وسع إسرائيل إدارة الجهد الحربي، وفي الوقت ذاته، مواجهة تبعات تلك الحرائق، حيث إن الصواريخ يمكن أن تسقط أيضاً على مرافق حسّاسة، يؤدي المس بها إلى آثار بعيدة المدى على العمق المدني، في كيان
أدركت إسرائيل طابع التحدي الذي تواجهه، وأقرّ نتنياهو، في كلمةٍ أمام خريجي كلية الأمن القومي الإسرائيلي، أخيراً، بأن تفوق إسرائيل النوعي في المجالين، العسكري والاستخباري، وفي منعتها الاقتصادية، غير كاف لمواجهة التحديات الإستراتيجية المختلفة، ما يفاقم الحاجة إلى توسيع دائرة التعاون والتنسيق مع الدول الأخرى.
وإن كانت حادثة اغتيال الزواري تبدو، أول وهلة، ترجمةً لتوظيف إسرائيل المحكم لمواردها الذاتية، فإن المسوّغات التي سيقت لتبرير الاغتيال تدل تحديداً على الطاقة المتواضعة لهذه الموارد، فقد تم تبرير اغتيال الزواري بدوره المستقبلي المحتمل في تحسين قدرات مقاومة غزة في الحرب المقبلة، من خلال إمكانية تزويدها بطائراتٍ بدون طائرات "انتحارية"، ولضمان أمن حقول الغاز، بذريعة أن الزواري كان يخطط لتصميم غواصاتٍ يتم التحكم بها عن بعد (معاريف، 23-12)، فأن كانت إسرائيل تستنفر، على هذا النحو، لتحييد إمكانات شخصٍ واحد من خلال اغتياله، فماذا سيكون في وسعها أن تفعل، لو حملت دولٌ الهم الذي كان يحمله الزواري.
على الرغم من أن الواقع الإقليمي حالياً يعد بيئةً مثاليةً تسمح لإسرائيل بهامش مناورة غير محدود على الصعيد العسكري والاستخباري، وتمنحها القدرة على مواجهة التحديات، فإن أي تحول في مسار الأحداث الإقليمية سيفضي إلى نتائج مغايرة.