04 يناير 2021
حدود القوة الروسية
بعد بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، سبتمبر/أيلول 2015، تناقلت وسائل إعلام عربية وعالمية تحليلاتٍ بشأن احتمال تطور الموقف في سورية إلى مواجهة روسية -غربية مباشرة، ووصل الأمر إلى الحديث عن حربٍ عالميةٍ ثالثة، تلوح في الأفق. تردّد تعبير "حرب عالمية ثالثة" على لسان متحدثين رسميين ومقربين من دوائر صنع القرار، في روسيا والغرب، وكذلك في المنطقة العربية، وأعادت وسائل إعلام عالمية نبش تصريحاتٍ قديمة لوزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أطلقها عام 2011، عن حرب عظمى وشيكة قائلًا: "من لم يسمع طبول الحرب تدق فهو واهم... عندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون الانفجار الكبير".
لم يأت الحديث عن صعود روسيا، وتحولها إلى قوة إمبريالية عالمية من فراغ، فالعالم اليوم يمر بمرحلةٍ انتقالية، بعد حقبةٍ خاطفة من هيمنة القطب الواحد، استمرت أقل من عقدين، وجاءت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، 2007، ثم الأزمة المالية العالمية، 2008، التي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي بعد، لتظهر أن النظام الأحادي غير قابل للاستمرار، فتلك الأزمة، بقدر ما هي عميقة وهيكلية؛ بيّنت أن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادراً على تمويل الهيمنة الأميركية على العالم ودعمها. لذا؛ اتجهت إدارة أوباما، خصوصاً في ولايته الثانية، نحو كبح التدخل الإيجابي الأميركي المباشر في ملفاتٍ كثيرة، والانسحاب التدريجي المنظم من مناطق عدة في العالم، منها منطقتنا، والتركيز على أخرى أكثر حيويةً للولايات المتحدة، وهو اتجاه يُعبر عن إرادة الدولة وفكرها بمؤسساتها، وفي الغالب سيستمر على الرغم من كل جعجعة ترامب، وصقور إدارته.
في ظل هذا الواقع، كان طبيعيًا أن تتقدّم بعض القوى، وفي مقدمتها روسيا، لشغل الفراغ الذي
خلفه أو من المتوقع أن يخلّفه الانسحاب الأميركي. لكن هل هذا يعبر عن بروز قوة بديلة أو منافسة للولايات المتحدة على الهيمنة العالمية؟ هل روسيا اليوم قوة عظمى عالمية؟ وإن لم تكن؛ هل تسعى إلى ذلك؟
كان وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم إيذانًا بانتهاء الفترة الانتقالية المؤلمة والقاسية التي عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي تدهور اقتصادها خلالها إلى أن أوشكت على إعلان الإفلاس، كما باتت وحدة أراضيها مهدّدة، خصوصاً بعد فشل حملتها العسكرية الأولى على الشيشان. كما فقدت الكثير من نفوذها في المحيط الحيوي لنظرية أمنها القومي، مع توغّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيه، الذي لم يكتف بضم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءًا من المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، بل تعدّى ذلك إلى ضم دول البلطيق التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، ووصل نفوذه إلى القفقاز وأوكرانيا.
في ظل ذلك الوضع؛ كان هدف بوتين ونظامه، في البدء، محصوراً في تجاوز مرحلة بوريس يلتسين الكارثية، والعمل على ترميم جدران الدولة الروسية المتصدّعة الآيلة للانهيار، وفق نظام اقتصادي يعتمد إلى حد بعيد على مبادئ "رأسمالية الدولة" على حساب "السوق الحر"، ونظرية أمن قومي ترى العمق الروسي في نطاق "أوراسيا" أو القسم السوفييتي من "أوراسيا"، بحيث تكون روسيا مركزًا لمزيج حضاري، يجمع الروس السلاف المسيحيين الأرثوذوكس بالأقليات القومية المسلمة من سكان روسيا ودول الجوار، كما نظّر، في تسعينات القرن الماضي، الفيلسوف ألكسندر دوغين ملهم النظام الروسي الحالي، لا بل حتى غالبية معارضيه، بمن فيهم الشيوعيون.
أزمات ومشكلات
وعلى الرغم من أن روسيا بوتين نجحت في تجاوز مرحلة الخطر التي كادت أن تعصف بها نهاية التسعينات، إلا أن تحدياتٍ مصيرية مازالت تواجهها، والفشل في أي منها سيكون كارثيًا على مستقبلها، وفي مقدمها الأزمة الديموغرافية، والنزعات الاستقلالية في ظل تعدّد قومي وعرقي وديني، وسعي الغرب إلى عزلها عن محيطها الحيوي غربًا، والخلل في هيكل الاقتصاد، المعتمد إلى حد كبير على الصناعات الاستخراجية، والقدرة على بناء جيش عصري قوي قادر على تحقيق توازن قوى مع الغرب.
أولاً- الأزمة الديموغرافية: تعاني روسيا من أزمة ديموغرافية مركبة، فمن جهة؛ تعداد السكان بشكل عام يتأرجح بين التناقص والثبات. وفي العام الماضي، كان معدل نمو السكان قريباً من الصفر (0.06%). وعلى الرغم من أن عدد سكانها يبلغ 144 مليون نسمة، إلا أنه يعتبر
ضئيلًا، قياسًا إلى جغرافيتها الشاسعة التي تمتد على أكثر من 17 مليون كيلو متر مربع، بكثافة سكانية تزيد قليلًا على ثمانية أفراد في الكيلو متر المربع، وهي من بين أقل الدول من حيث الكثافة السكانية في العالم، فعلى سبيل المثال تبلغ الكثافة السكانية لجارتها الصين نحو 144 فردًا في الكيلو متر المربع، وفي الهند 395، والولايات المتحدة الأميركية 34، وجميعها دول تمتد أقاليمها على مساحةٍ جغرافية شاسعة. ومن جهة ثانية؛ هناك تزايد في نسبة الأقليات القومية المسلمة على حساب الغالبية السلافية.
ثانياً- الخلل الهيكلي في الاقتصاد، والأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات الغربية، وتراجع أسعار النفط: تظهر البيانات الرسمية حجم التراجع في مؤشرات الاقتصاد الروسي منذ فرض العقوبات الغربية، والتي ترافقت مع التراجع الكبير في أسعار النفط العالمية، حيث بلغ الناتج المحلي الروسي 15.390 مليار دولار عام 2014، ليتراجع نهاية العام التالي إلى 8.18 مليارات دولار فقط، كما سجلت نسبة النمو الاقتصادي تراجعًا ملفتًا من 4.3% عام 2011 إلى 0.7% فقط عام 2014، لتهبط بشكل حاد بعد عام، وتصل إلى -3.4، وكان معدل الاستهلاك 7.4% عام 2012، ليتراجع بعد هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية على روسيا إلى -9.6%، كما تراجع معدل الاستثمار من 10.2% عام 2011 إلى -7.6% عام 2015، وانخفض النمو في الانتاج الصناعي إلى -4.3% عام 2015 بعد أن كان 5.1% عام 2011. ووصلت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 إلى 13.6% بعدما كانت 9.5% فقط عام 2011، وارتفع معدل التضخم من 6.1% عام 2011 إلى 12.9% نهاية عام 2015. وشهد عام 2015 انهيارًا كبيرًا في سعر صرف الروبل، حيث بلغ بالمتوسط 72.8 روبلاً مقابل الدولار الأميركي الواحد، بعد أن كان الدولار يعادل 32 روبلاً عام 2011.
ومن مراجعة الأرقام السابقة، يمكن القول إن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجانبه الصواب، حين اعتبر الاقتصاد الروسي في حالةٍ يُرثى لها، في خطاب حالة الاتحاد عام 2015.
صحيح أن اقتصاد روسيا لم ينهرْ كما توقعت دوائر غربية، وصمد حتى الآن في وجه العقوبات الغربية وأزمة أسعار النفط، إلا أنه ما زال بعيدًا عن التعافي.
ثالثاً- بناء جيش عصري يحقق التوازن مع الغرب: أطلقت الحكومة الروسية، مطلع عام 2011، خطة التطوير الشاملة للقوات المسلحة 2011-2020، بعد الأداء المخيب للجيش الروسي في حرب جورجيا، 2008، بميزانية إجمالية 20 ترليون روبل، أي ما يعادل 656 مليار دولار بأسعار ذلك الوقت، بحيث يتم إنفاق 80% من ميزانية الخطة على شراء أسلحة حديثة، و10% على البحوث العسكرية، ومن المفترض، وفق ما هو مخطط، أن تصل نسبة المعدات والعتاد الحديث لدى كل أفرع الجيش الروسي إلى 70%، نهاية عام 2020.
الجيش وتحديثه
أكد الرئيس بوتين، في حديث له مع وكالة أسوشييتد بريس نهاية العام المنصرم؛ أنه لن يتم خفض موازنة خطة تحديث الجيش تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، لكن هناك مؤشرات تقول العكس، منها أنه تم الإعلان عن خفض ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 5% للعام الحالي، كما ألمح بوتين إلى احتمالية تمديد الموعد النهائي لخطة التحديث، حين قال، في الحديث نفسه، إن من المتوقع انتهاء الخطة بعد خمسة أعوام، ما يُفهم منه أنها ستمتد حتى نهاية عام 2021، أي بعد عام من الموعد المقرّر.
لم يكن إطلاق روسيا خطة التحديث الشامل للجيش بهدف تحقيق تفوق عسكري على الغرب، بل هي محاولة لمعالجة أوجه القصور الكبيرة التي كشفتها حرب جورجيا على الرغم من النصر الروسي فيها، وستبقى هناك فجوة كبيرة بين الإمكانات التقليدية للجيش الروسي وقوات بلدان "الناتو" الغربية، وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة، انعكاساً، في المقام الأول، للفجوة الاقتصادية الهائلة بين القوتين. فحين تم إطلاق خطة التحديث الشامل للجيش؛ كانت فقط
10% من أسلحة القوات التقليدية الروسية حديثة، و20% من أسلحة القوات النووية. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي أوضح أن التحديث سيشمل الأسلحة الذكية الدقيقة، وأنظمة الاتصال، والاستطلاع، والتحكم والسيطرة، والحرب الإلكترونية؛ إلا أن مفهوم التحديث غير واضح، هل المقصود به أسلحة حديثة كليًا أم تطوير للتي في الخدمة؟ وعلى كل حال، إطلاق التصريحات المبهمة، والتي تحمل أكثر من معنى، وإعطاء أكثر من رقم حول الشيء نفسه، أمر مألوف في السياسة الروسية.
فعلى سبيل المثال؛ عندما عرضت روسيا المنصة القتالية المدرعة، أرماتا، التي من أبرز نماذجها الدبابة تي 14 وعربة القتال المدرعة تي 15، منتصف عام 2015، أعلنت أنه سيتم تزويد الجيش بـ2300 قطعة بحلول عام 2021، ثم تم تمديد الموعد إلى 2025. بعد ذلك، أُعلن عن تعاقد الجيش الروسي على شراء 100 دبابة للتجربة، في سبتمبر/ أيلول 2016، من دون تحديد عدد الوحدات التي تم تسليمها بالفعل.
وما زاد من الشكوك بشأن إمكانية إحلال "أرماتا" مكان الأجيال السابقة من المدرعات الروسية التي تعود إلى العهد السوفييتي، وما زالت في الخدمة؛ الإعلان قبل أشهر عن برنامج لتطوير 400 دبابة من طراز تي 90 إيه أس، إلى النسخة الأحدث تي 90 أم، وذلك بتزويدها بمزايا عديدة في "أرماتا"، ومن بينها المدفع الجديد، ونظام أفغانيت للحماية النشطة، كما جرى قبل سنوات إطلاق برنامج لتحديث الدبابة تي 72 التي تشكل اليوم نحو 70% من أسطول الدبابات الروسي، بينما خرجت فيه مجايلتها الأميركية أم 60 من الخدمة تمامًا قبل 12 عامًا.
ويبدو أن التوقعات الطموحة التي رافقت الإعلان عن "أرماتا" حول أنها ستكون الدبابة الرئيسية في الجيش الروسي خلال السنوات القريبة المقبلة غير واقعية، في ظل تكلفة إنتاجها العالية نسبيًا، وسينتظر الجيش الروسي طويلاً قبل استلام الـ2300 نسخة التي يحتاجها. وحتى ذلك الحين، سيتم تطوير الأجيال القديمة من الدبابات في الخدمة، واعتبار نتاج عملية التطوير تلك التحديث المخطط بنسبة 70%.
وفي سلاح الجو، تأخرت روسيا كثيرًا في إنتاج طائرات حديثة من الجيل الخامس، وما زالت تستثمر في طائرات الجيل (4++) كسوخوي 30 و35، وميج 31 و35، لعدم قدرتها اقتصاديًا على تبني مشروع إحلال طائرات الجيل الخامس مكان الأجيال القديمة، ناهيك عن العقبات التكنولوجية، لتلحق بالولايات المتحدة التي بدأت بهذه العملية منذ 12 عامًا، فبنت حتى اليوم 345 طائرة من هذا الجيل من طرز إف 22، وإف 35 إيه، وإف 35 بي، دخلت الخدمة فعليًا في أساطيل سلاح الجو وقوات البحرية والمارينز، بالإضافة إلى 20 طائرة تحت الاختبار من طراز إف 35 سي، في إطار برنامج طموح لإحلال طائرات الجيل الخامس، بطرزها المختلفة، مكان طائرات إف 15، وإف 16، وإف 18، وهاريير، بينما لم تنتج روسيا سوى ثماني طائرات تنتمي للجيل الخامس فقط من طراز سوخوي باك فا تي 50، مازالت تحت الاختبار، ومن المتوقع دخولها الخدمة العام المقبل.
ورثت روسيا عن العهد السوفييتي قاعدة بحثية وعلمية عسكرية قادرة على الخروج بابتكارات وتطوير تكنولوجيّات عسكرية مذهلة، وتضع مكاتب التصميم المختلفة مخططاتٍ لأسلحة تضاهي، وربما تتفوق، على كثير مما لدى الغرب، لكن محدودية القدرة الاقتصادية حالت بين تصنيع تلك المخططات والنماذج، أو تصنيع كميات كبيرة منها، وإحلالها بالسرعة المناسبة مكان القديمة.
سلوك تدخلي
منذ عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، أخذت روسيا بقوة تنتهج سلوكًا تدخُليًّا في إقليمها القريب وخارجه، لم تمارسه من قبل، إلا في حالة جورجيا، ما دفع كتابًا وسياسيين كثيرين إلى الحديث عن طموح إمبريالي عالمي لروسيا، خصوصاً وأنه جاء مع ما يمكن وصفها حالة سيولة في النظام الدولي، في ظل تراجع الهيمنة الأميركية العالمية، وأزمة وجود تعصف بالاتحاد الأوروبي، واستمرار التحفظ الذي تنتهجه الصين في سياستها الدولية، إلا أن القراءة في أوضاع روسيا الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية لا تدعم مثل هذا الاستنتاج.
حتى التدخل الروسي في سورية كان مدروسًا بعناية، ولتحقيق أهداف محددة، ليس من بينها بسط السيطرة الروسية التامة على سورية، كما يتضح من سعي الروس إلى تسوية تعترف فيها بنفوذ أميركي وتركي في سورية، ناهيك عن تقاسمها النفوذ مع الإيرانيين في مناطق سيطرة النظام، انعكاسًا لتقاسم المجهود الحربي، هي من الجو وهم على الأرض. تدرك روسيا ما يمكن أن يكتشفه بسرعة أي مطالع لخريطة البحر الأبيض المتوسط، أنه بحرية أطلسية، وهي تريد أن تحتفظ بموطئ قدم فيه، لتعزيز موقفها الاستراتيجي تجاه الغرب، لا كقاعدة إمبريالية توسعية داخل ملعب خصومها.
الهدف المركزي للسياسة الروسية الخارجية هو الحفاظ على المحيط الحيوي الذي يحقق نظرية أمن روسيا القومي، في إقليمها، وهي سياسةٌ دفاعية إلى حد بعيد، وإن بدت غير ذلك.
لم يأت الحديث عن صعود روسيا، وتحولها إلى قوة إمبريالية عالمية من فراغ، فالعالم اليوم يمر بمرحلةٍ انتقالية، بعد حقبةٍ خاطفة من هيمنة القطب الواحد، استمرت أقل من عقدين، وجاءت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، 2007، ثم الأزمة المالية العالمية، 2008، التي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي بعد، لتظهر أن النظام الأحادي غير قابل للاستمرار، فتلك الأزمة، بقدر ما هي عميقة وهيكلية؛ بيّنت أن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادراً على تمويل الهيمنة الأميركية على العالم ودعمها. لذا؛ اتجهت إدارة أوباما، خصوصاً في ولايته الثانية، نحو كبح التدخل الإيجابي الأميركي المباشر في ملفاتٍ كثيرة، والانسحاب التدريجي المنظم من مناطق عدة في العالم، منها منطقتنا، والتركيز على أخرى أكثر حيويةً للولايات المتحدة، وهو اتجاه يُعبر عن إرادة الدولة وفكرها بمؤسساتها، وفي الغالب سيستمر على الرغم من كل جعجعة ترامب، وصقور إدارته.
في ظل هذا الواقع، كان طبيعيًا أن تتقدّم بعض القوى، وفي مقدمتها روسيا، لشغل الفراغ الذي
كان وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم إيذانًا بانتهاء الفترة الانتقالية المؤلمة والقاسية التي عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي تدهور اقتصادها خلالها إلى أن أوشكت على إعلان الإفلاس، كما باتت وحدة أراضيها مهدّدة، خصوصاً بعد فشل حملتها العسكرية الأولى على الشيشان. كما فقدت الكثير من نفوذها في المحيط الحيوي لنظرية أمنها القومي، مع توغّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيه، الذي لم يكتف بضم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءًا من المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، بل تعدّى ذلك إلى ضم دول البلطيق التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، ووصل نفوذه إلى القفقاز وأوكرانيا.
في ظل ذلك الوضع؛ كان هدف بوتين ونظامه، في البدء، محصوراً في تجاوز مرحلة بوريس يلتسين الكارثية، والعمل على ترميم جدران الدولة الروسية المتصدّعة الآيلة للانهيار، وفق نظام اقتصادي يعتمد إلى حد بعيد على مبادئ "رأسمالية الدولة" على حساب "السوق الحر"، ونظرية أمن قومي ترى العمق الروسي في نطاق "أوراسيا" أو القسم السوفييتي من "أوراسيا"، بحيث تكون روسيا مركزًا لمزيج حضاري، يجمع الروس السلاف المسيحيين الأرثوذوكس بالأقليات القومية المسلمة من سكان روسيا ودول الجوار، كما نظّر، في تسعينات القرن الماضي، الفيلسوف ألكسندر دوغين ملهم النظام الروسي الحالي، لا بل حتى غالبية معارضيه، بمن فيهم الشيوعيون.
أزمات ومشكلات
وعلى الرغم من أن روسيا بوتين نجحت في تجاوز مرحلة الخطر التي كادت أن تعصف بها نهاية التسعينات، إلا أن تحدياتٍ مصيرية مازالت تواجهها، والفشل في أي منها سيكون كارثيًا على مستقبلها، وفي مقدمها الأزمة الديموغرافية، والنزعات الاستقلالية في ظل تعدّد قومي وعرقي وديني، وسعي الغرب إلى عزلها عن محيطها الحيوي غربًا، والخلل في هيكل الاقتصاد، المعتمد إلى حد كبير على الصناعات الاستخراجية، والقدرة على بناء جيش عصري قوي قادر على تحقيق توازن قوى مع الغرب.
أولاً- الأزمة الديموغرافية: تعاني روسيا من أزمة ديموغرافية مركبة، فمن جهة؛ تعداد السكان بشكل عام يتأرجح بين التناقص والثبات. وفي العام الماضي، كان معدل نمو السكان قريباً من الصفر (0.06%). وعلى الرغم من أن عدد سكانها يبلغ 144 مليون نسمة، إلا أنه يعتبر
ثانياً- الخلل الهيكلي في الاقتصاد، والأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات الغربية، وتراجع أسعار النفط: تظهر البيانات الرسمية حجم التراجع في مؤشرات الاقتصاد الروسي منذ فرض العقوبات الغربية، والتي ترافقت مع التراجع الكبير في أسعار النفط العالمية، حيث بلغ الناتج المحلي الروسي 15.390 مليار دولار عام 2014، ليتراجع نهاية العام التالي إلى 8.18 مليارات دولار فقط، كما سجلت نسبة النمو الاقتصادي تراجعًا ملفتًا من 4.3% عام 2011 إلى 0.7% فقط عام 2014، لتهبط بشكل حاد بعد عام، وتصل إلى -3.4، وكان معدل الاستهلاك 7.4% عام 2012، ليتراجع بعد هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية على روسيا إلى -9.6%، كما تراجع معدل الاستثمار من 10.2% عام 2011 إلى -7.6% عام 2015، وانخفض النمو في الانتاج الصناعي إلى -4.3% عام 2015 بعد أن كان 5.1% عام 2011. ووصلت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 إلى 13.6% بعدما كانت 9.5% فقط عام 2011، وارتفع معدل التضخم من 6.1% عام 2011 إلى 12.9% نهاية عام 2015. وشهد عام 2015 انهيارًا كبيرًا في سعر صرف الروبل، حيث بلغ بالمتوسط 72.8 روبلاً مقابل الدولار الأميركي الواحد، بعد أن كان الدولار يعادل 32 روبلاً عام 2011.
ومن مراجعة الأرقام السابقة، يمكن القول إن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجانبه الصواب، حين اعتبر الاقتصاد الروسي في حالةٍ يُرثى لها، في خطاب حالة الاتحاد عام 2015.
صحيح أن اقتصاد روسيا لم ينهرْ كما توقعت دوائر غربية، وصمد حتى الآن في وجه العقوبات الغربية وأزمة أسعار النفط، إلا أنه ما زال بعيدًا عن التعافي.
ثالثاً- بناء جيش عصري يحقق التوازن مع الغرب: أطلقت الحكومة الروسية، مطلع عام 2011، خطة التطوير الشاملة للقوات المسلحة 2011-2020، بعد الأداء المخيب للجيش الروسي في حرب جورجيا، 2008، بميزانية إجمالية 20 ترليون روبل، أي ما يعادل 656 مليار دولار بأسعار ذلك الوقت، بحيث يتم إنفاق 80% من ميزانية الخطة على شراء أسلحة حديثة، و10% على البحوث العسكرية، ومن المفترض، وفق ما هو مخطط، أن تصل نسبة المعدات والعتاد الحديث لدى كل أفرع الجيش الروسي إلى 70%، نهاية عام 2020.
الجيش وتحديثه
أكد الرئيس بوتين، في حديث له مع وكالة أسوشييتد بريس نهاية العام المنصرم؛ أنه لن يتم خفض موازنة خطة تحديث الجيش تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، لكن هناك مؤشرات تقول العكس، منها أنه تم الإعلان عن خفض ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 5% للعام الحالي، كما ألمح بوتين إلى احتمالية تمديد الموعد النهائي لخطة التحديث، حين قال، في الحديث نفسه، إن من المتوقع انتهاء الخطة بعد خمسة أعوام، ما يُفهم منه أنها ستمتد حتى نهاية عام 2021، أي بعد عام من الموعد المقرّر.
لم يكن إطلاق روسيا خطة التحديث الشامل للجيش بهدف تحقيق تفوق عسكري على الغرب، بل هي محاولة لمعالجة أوجه القصور الكبيرة التي كشفتها حرب جورجيا على الرغم من النصر الروسي فيها، وستبقى هناك فجوة كبيرة بين الإمكانات التقليدية للجيش الروسي وقوات بلدان "الناتو" الغربية، وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة، انعكاساً، في المقام الأول، للفجوة الاقتصادية الهائلة بين القوتين. فحين تم إطلاق خطة التحديث الشامل للجيش؛ كانت فقط
فعلى سبيل المثال؛ عندما عرضت روسيا المنصة القتالية المدرعة، أرماتا، التي من أبرز نماذجها الدبابة تي 14 وعربة القتال المدرعة تي 15، منتصف عام 2015، أعلنت أنه سيتم تزويد الجيش بـ2300 قطعة بحلول عام 2021، ثم تم تمديد الموعد إلى 2025. بعد ذلك، أُعلن عن تعاقد الجيش الروسي على شراء 100 دبابة للتجربة، في سبتمبر/ أيلول 2016، من دون تحديد عدد الوحدات التي تم تسليمها بالفعل.
وما زاد من الشكوك بشأن إمكانية إحلال "أرماتا" مكان الأجيال السابقة من المدرعات الروسية التي تعود إلى العهد السوفييتي، وما زالت في الخدمة؛ الإعلان قبل أشهر عن برنامج لتطوير 400 دبابة من طراز تي 90 إيه أس، إلى النسخة الأحدث تي 90 أم، وذلك بتزويدها بمزايا عديدة في "أرماتا"، ومن بينها المدفع الجديد، ونظام أفغانيت للحماية النشطة، كما جرى قبل سنوات إطلاق برنامج لتحديث الدبابة تي 72 التي تشكل اليوم نحو 70% من أسطول الدبابات الروسي، بينما خرجت فيه مجايلتها الأميركية أم 60 من الخدمة تمامًا قبل 12 عامًا.
ويبدو أن التوقعات الطموحة التي رافقت الإعلان عن "أرماتا" حول أنها ستكون الدبابة الرئيسية في الجيش الروسي خلال السنوات القريبة المقبلة غير واقعية، في ظل تكلفة إنتاجها العالية نسبيًا، وسينتظر الجيش الروسي طويلاً قبل استلام الـ2300 نسخة التي يحتاجها. وحتى ذلك الحين، سيتم تطوير الأجيال القديمة من الدبابات في الخدمة، واعتبار نتاج عملية التطوير تلك التحديث المخطط بنسبة 70%.
وفي سلاح الجو، تأخرت روسيا كثيرًا في إنتاج طائرات حديثة من الجيل الخامس، وما زالت تستثمر في طائرات الجيل (4++) كسوخوي 30 و35، وميج 31 و35، لعدم قدرتها اقتصاديًا على تبني مشروع إحلال طائرات الجيل الخامس مكان الأجيال القديمة، ناهيك عن العقبات التكنولوجية، لتلحق بالولايات المتحدة التي بدأت بهذه العملية منذ 12 عامًا، فبنت حتى اليوم 345 طائرة من هذا الجيل من طرز إف 22، وإف 35 إيه، وإف 35 بي، دخلت الخدمة فعليًا في أساطيل سلاح الجو وقوات البحرية والمارينز، بالإضافة إلى 20 طائرة تحت الاختبار من طراز إف 35 سي، في إطار برنامج طموح لإحلال طائرات الجيل الخامس، بطرزها المختلفة، مكان طائرات إف 15، وإف 16، وإف 18، وهاريير، بينما لم تنتج روسيا سوى ثماني طائرات تنتمي للجيل الخامس فقط من طراز سوخوي باك فا تي 50، مازالت تحت الاختبار، ومن المتوقع دخولها الخدمة العام المقبل.
ورثت روسيا عن العهد السوفييتي قاعدة بحثية وعلمية عسكرية قادرة على الخروج بابتكارات وتطوير تكنولوجيّات عسكرية مذهلة، وتضع مكاتب التصميم المختلفة مخططاتٍ لأسلحة تضاهي، وربما تتفوق، على كثير مما لدى الغرب، لكن محدودية القدرة الاقتصادية حالت بين تصنيع تلك المخططات والنماذج، أو تصنيع كميات كبيرة منها، وإحلالها بالسرعة المناسبة مكان القديمة.
سلوك تدخلي
منذ عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، أخذت روسيا بقوة تنتهج سلوكًا تدخُليًّا في إقليمها القريب وخارجه، لم تمارسه من قبل، إلا في حالة جورجيا، ما دفع كتابًا وسياسيين كثيرين إلى الحديث عن طموح إمبريالي عالمي لروسيا، خصوصاً وأنه جاء مع ما يمكن وصفها حالة سيولة في النظام الدولي، في ظل تراجع الهيمنة الأميركية العالمية، وأزمة وجود تعصف بالاتحاد الأوروبي، واستمرار التحفظ الذي تنتهجه الصين في سياستها الدولية، إلا أن القراءة في أوضاع روسيا الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية لا تدعم مثل هذا الاستنتاج.
حتى التدخل الروسي في سورية كان مدروسًا بعناية، ولتحقيق أهداف محددة، ليس من بينها بسط السيطرة الروسية التامة على سورية، كما يتضح من سعي الروس إلى تسوية تعترف فيها بنفوذ أميركي وتركي في سورية، ناهيك عن تقاسمها النفوذ مع الإيرانيين في مناطق سيطرة النظام، انعكاسًا لتقاسم المجهود الحربي، هي من الجو وهم على الأرض. تدرك روسيا ما يمكن أن يكتشفه بسرعة أي مطالع لخريطة البحر الأبيض المتوسط، أنه بحرية أطلسية، وهي تريد أن تحتفظ بموطئ قدم فيه، لتعزيز موقفها الاستراتيجي تجاه الغرب، لا كقاعدة إمبريالية توسعية داخل ملعب خصومها.
الهدف المركزي للسياسة الروسية الخارجية هو الحفاظ على المحيط الحيوي الذي يحقق نظرية أمن روسيا القومي، في إقليمها، وهي سياسةٌ دفاعية إلى حد بعيد، وإن بدت غير ذلك.