حتى لو رُفض داعش!

23 اغسطس 2014

عراقيون يتظاهرون في لندن ضد "داعش" (13 أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

بمناسبة داعش، التي يتوازى رفض تصرفاتها عند عامة المسلمين المعاصرين مع قبولهم تفكيرها السياسي بشأن "الدولة" و"الخلافة" و"الحرب"، علينا أن نتذكر أن "التفكير الإسلامي" السائد لا يزال يعتبر الدولة الإسلامية الصحيحة هي تلك المقدسة التي يقودها، ويوجهها، "ربّانيون" لا يأتيهم الباطل، على طريقة دولة الخلافة الراشدة، وصورتها التاريخية المكرّسة، فيما أن ما يذهب إليه آخرون يعتبرون "الدولة الإسلامية" المناسبة لزماننا دولة المواطنين، لأنها التي تنجز مصالح المسلمين المعاصرين، وتمكّنهم من المساهمة في الحضارة البشرية، لا يزال رأياً محدود الانتشار، ولم يصل إلى أذهان عامة العرب والمسلمين، ولم يسيطر على قناعاتهم بعد، على الرغم من أن أصحابه يستندون هم، أيضاً، إلى دولة المدينة المنورة والخلافة الراشدة، ويلاحظون أنها كانت ذات طبيعة بشرية، لا ربانيّة.

هكذا، فإن قبول التفكير السياسي لداعش، أو رفضه، سيظل مرتبطاً بانطباعات الناس عن ماهية الدولة الإسلامية الأولى: ربانية أم بشرية؟ لكن، هل يجوز أن نستغرق في هذا التعارض الظاهر بين الرأيين، ونتناسى أنهما ينبعان من جذر واحد، هو استجداء الشرعية من التاريخ؟! علينا أن نلاحظ مسألتين بخصوص فكرة بشرية دولة الخلافة الأولى.

الأولى: أنها تُكرّس العقبة الأساسية التي ظلت تعاني منها البرامج والأفكار والتطبيقات التي عرفها العالم العربي، على امتداد القرن العشرين، وسببت فشلها الذريع في إنجاز النهوض الحضاري المأمول. تلك العقبة هي اتجاه كل الأفكار، لاختيار نموذج تطبيقي عرفه بشر آخرون غيرنا، سواء عاشوا في زمان آخر أو يعيشون في مكان آخر، والقياس عليه لتحديد مدى وجاهة ما نصنع، وقيمته ونفعه لنا.

فـ"الإسلاميون"، على اختلاف مدارسهم، اتخذوا مجتمع المدينة نموذجاً يقيسون عليه، تماماً كما اتخذ الشيوعيون العرب من قبل الاتحاد السوفياتي نموذجاً يقيسون عليه.. إلخ. وقد منعت فكرة "النموذج" ابتكار تطبيقات وبرامج جديدة بالكامل تناسبنا نحن وحدنا، زماناً ومكاناً.

وتحتفظ، في الوقت نفسه، بالمرجعية الأيديولوجية الأساسية التي تنطلق منها، على طريقة ما حدث، مثلاً، في الصين التي ابتكرت شيوعيتها الخاصة، مستندة فقط إلى النظرية الأصلية، من دون استعمال التطبيقات البشرية الأخرى، بما فيها السوفياتية، فأنجزت نهضتها، أو في دول أميركا اللاتينية التي تبتكر اشتراكيتها الخاصة، مستندة إلى الفكرة المجردة من دون تطبيقاتٍ، جرت في مناطق أخرى من العالم.

في البرامج الإسلامية، يمكننا أن نستند فقط إلى المرجعية الأيديولوجية المتمثلة بالقرآن، لنستخرج تطبيقاتنا نحن، من دون الحاجة لأي نموذج جاهز، حتى لو كان نموذج المدينة، لأنه في النهاية نموذج بشري. وبالتالي، يناسب زمانه ومكانه، ولا يناسبنا نحن بالضرورة.

الثانية: أن القياس على مجتمعٍ وجد قبل مئات السنين، حتى لو كان قياساً إيجابياً، وحتى لو استخدمنا في وصفه مصطلحات معاصرة، مثل المواطنة والدستور والعوامل الاقتصادية، هو قياس يهدر البعد التاريخي في تغيّر بنى المجتمعات البشرية وأحوالها، وطبيعة الدول التي تقوم عليها.

لقد مثلت الثورة الصناعية نقطة تحول كبرى في بنى المجتمعات، وطبيعة الدول. أولاً في الغرب، وتالياً في كل مكان وصل إليه تأثير الغرب، بما في ذلك بلادنا العربية.

صحيح أن مجتعاتنا العربية لم تصل إلى تلك البنى التي وصلت إليها المجتمعات الغربية بعد، إذ ما زالت تراوح، كما يقال، بين الأبوية والحداثة، إلا أن هياكل دولنا معاصرة: فلدينا دساتير وسلطات ثلاث ومؤسسات، مما يعني أننا نحن، أيضاً، عبرنا النقطة المفصلية التي مثّلتها الثورة الصناعية في تاريخ البشرية.

ولذلك، فإن قياس دول ذات شكل معاصر على "دولة"، وجدت قبل الثورة الصناعية المفصلية، هو قياس غير موضوعي، نجد أنه يضطرنا، في حال الإصرار عليه، إما إلى استعمال مصطلحاتنا المعاصرة لوصف تلك الدولة القديمة، مثل الدستور والمواطنة وما شابه، على الرغم من أن تلك الدولة لم تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، أو يضطرنا إلى العكس؛ أي استعمال مفاهيم ومصطلحات تلك "الدولة" القديمة، لوصف دولنا ومجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من أنها لا تناسبنا، ولا تنطبق علينا، وهو ما تورطت فيه حركات إسلامية معاصرة كثيرة، وكثير ممن يدّعون أنهم علماء الإسلام.

هكذا، فحتى لو تغلبت فكرة بشرية "دولة الخلافة الأولى" على فكرة قدسيتها في تفكير عامة العرب والمسلمين، فالنتيجة لن تختلف كثيراً، لأن الإبقاء على شرعية تلك الدولة التاريخية في تقرير إسلامية الدولة من عدم إسلاميتها، في زماننا، هو عين المشكلة!

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.