قد تكون زلة لسان هي التي كشفت ازدواجية المعايير الغربية تجاه "جهاديي" داعش والنصرة الغربيين، والحقيقة المقابلة، المسكوت عنها طويلا، المتعلقة بأبناء الشمال الأوروبي المنخرطين في صفوف الجيش الإسرائيلي، إذ قالت مقررة الشؤون السياسية عن حزب الشعب الاشتراكي في البرلمان الدنماركي، كارينا لورنتزين، أثناء أيام العدوان على غزة في صيف 2014: "إنني متفاجئة من أن شبابا دنماركيا يشارك في حروب إسرائيل، إنني قلقة بشأن عودة هؤلاء وقد اتجهوا نحو التطرف. هؤلاء يستخدمون السلاح، ويكتسبون خبرة، وشاركوا في حرب غزة. يجب على الاستخبارات الدنماركية أن تضع هؤلاء تحت المراقبة، مثلما تضع الذين ذهبوا إلى سورية".
الردود اليمينية على المسؤولة الحزبية الاشتراكية فتحت نقاشا آخر، إذ يمنع قانون الجنسية الدنماركي الجمع بين جنسيتين، وهؤلاء الذين يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي هم مواطنون ولدوا في دول اسكندنافية، ولا يربطهم بالجنسية الإسرائيلية سوى الديانة، التي تطرح، بالتالي، قضية العلاقة بين الدين والمواطنة.
كيف تجنّد دولة أخرى مواطني دول اسكندنافية؟
الحديث هنا لا يتعلق بقيام مجموعات مسلحة، "جهادية" كانت أم ثورية، بجذب متطوعين للقتال في سبيل قضية تتوافق مع توجهاتهم وعقائدهم وأفكارهم، إذ تعمد دولة الاحتلال إلى تسويق نفسها بخليط من الشعارات الدينية والتقدمية، وقضايا حقوق الإنسان، في فترة المد اليساري، بعيد الحرب العالمية الثانية وتنامي شعارات الاشتراكية، تم تسويق "الكيبوتس"، بوصفه تطبيقا للفكرة الاشتراكية، واكتسب، لهذا السبب، وعند فئات اسكدنافية تميل إلى التقدمية، عطفا وشعبية خاصّين، إضافة، بالطبع، إلى البعد الديني التوراتي في بيئة مسيحية متشددة، شكلت ما يسمى بـ"مسيحيين في خدمة إسرائيل".
بالإضافة إلى نصوص "قانونية" إسرائيلية تعتبر اليهود إسرائيليين ما إن يطأوا أرض فلسطين المحتلة، وبالتالي نشطت حركات صهيونية، في عدد من الدول الاسكندنافية، لتعزيز هذا الانتماء وازدواج الهوية والولاء.
لم يجرؤ أحد من حكومات ثلاث دول اسكندنافية على الإجابة عن سؤال المعارضة اليسارية وأصدقاء فلسطين، إلا مع الحرب على غزة صيف العام الماضي.
يكشف البرلماني البارز في حزب الشعب اليميني الدنماركي المتطرف، سورن اسبرسن، أن مواطني الدول الاسكندنافية يجري جذبهم إلى الجيش الإسرائيلي منذ أن شارك عدة آلاف منهم فيما يسمى "حرب الاستقلال" في إسرائيل، ويقول في كتابه "حرب الاستقلال" (صدر عام 2007) إن هؤلاء، من اليهود وغير اليهود، ممن عادوا إلى اسكندنافيا جرى ربطهم بجهاز الموساد، واعتبارهم جنودا في وحدة "ماحال"، وكانوا يعودون سنويا لخدمة الاحتياط، أو متى تستدعيهم إسرائيل.
في إطار تعبئة الاسكندنافيين للعمل في الجيش الإسرائيلي، لعب حاخامات الدول الاسكندنافية، وسياسيون من أصول يهودية، دورا في عملية خلق اصطفاف تاريخي باسم "التطوع لخدمة إسرائيل".
كان الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية الاسكندنافية، بنت ميلكيور، "الواعظ" والمشجع على تجنيد مواطنين اسكندنافيين من أجل التطوع لخدمة إسرائيل. فيما لا يرى اليمين المحافظ مشكلة في "خدمة إسرائيل" عبر مواطني تلك الدول، بحجة أنها "خدمة في جيش نظامي"، وهي تبريرات رد عليها معارضون لدولة الاحتلال، وشخصيات مسلمة في هذه البلاد، أجمعت في حديث مع "العربي الجديد" على القول: "كيف يكون مقبولا مبدأ المشاركة بأفعال منافية للقانون الدولي في جيش محتل يرتكب مخالفات كبيرة ويقصف مدنيين، فقط لأنه يقوم به جيش نظامي؟ هذا يعني أنه مثلما يحق للحاخامات تجنيد متطوعين للخدمة في الجيش الإسرائيلي، يمكن أيضا السماح لأئمة المساجد بأن يدعوا بأنهم يوالون دولة إسلامية ويجندون متطوعين لها. هذا فهم لا يتسق ومسألة المواطنة التي لا تقوم في بلادنا على مسألة الانتماء الديني".
غموض مقصود
تتبع إسرائيل سياسة الغموض حول أعداد الذين تعتبرهم جنودها الاسكندنافيين. لكن البحث في الأمر قد يقود إلى المنظمة المسؤولة رسميا عن تنظيم هؤلاء. إذ كشفت حرب إسرائيل على غزة في 2008-2009، عن ذلك الانخراط الاسكندنافي في جيش الاحتلال، تحت عنوان "التطوع"، راحت منظمات تابعة لوزارة الحرب الإسرائيلية، وجهاز الموساد، تنشط بين صفوف الشّباب لاجتذاب نحو 3000 عسكري من الخارج، وتعتبر منظمتا "سار إل" (Sar-El) و"ماحال" (Mahal) الأكثر نشاطا في صفوف اليهود، وغير اليهود، في دول الشمال الأوروبي، فيما تهتم منظمة "خدمة لأجل إسرائيل" بجذب فئة الشباب، عبر مواقعها باللغة الاسكندنافية، مع نشر أرقام هواتف ثابتة في كل من ستوكهولم وأوسلو وكوبنهاغن، وهي تعرض على من ترغب في جذبهم لجيش الاحتلال مغريات كبيرة.
مصادر متخصصة قالت لـ"العربي الجديد" إن منظمة "سار إل" تم تأسيسها في عام 1982 من قبل الجنرال أهارون دافيدي، الذي كان مسؤولا في تلك الفترة عن "أنشطة مدنية" في الجولان المحتل، إثر سحب معظم المستوطنين من الجولان للمشاركة في اجتياح لبنان صيف ذلك العام.
في سبيل إنجاز هذا التحقيق، اصطدمنا بغموض الأرقام الذي تتبعه المنظمات الصهيونية الفاعلة في الدول الاسكندنافية. وعبر بعض هؤلاء الذين تحولوا من "مساندين أبديين لإسرائيل" إلى معارضين لها، عرفنا أن "منظمة سار إل لديها ما يقارب 17ــ20 موظفا في كل دولة من دول الشمال، ومهمة هؤلاء تتمثل في تسيير فروع المنظمة بالتعاون مع السفارات ووزارتي الدفاع والهجرة والاستيعاب في إسرائيل".
لدى سؤالنا عن أعداد "جنود إسرائيل" في الدنمارك، تمت إحالتنا إلى ما قاله وزير الخارجية، مارتن ليدغوورد، عن الموضوع في جلسة استجواب في البرلمان أثناء حرب غزة. وفي إجابته على السؤال الذي يميز بين "جهاديي سورية وجنود إسرائيل"، قال وزير الخارجية في تلك الجلسة إن الموضوع يتعلق بـ"بضع عشرات يشاركون في جيش إسرائيل بأعمال غير قتالية". وهو رقم يبقى مثارا يحتاج إلى تأكيد، إذ لا يستقيم مع تلك الموارد البشرية المخصصة من قبل وزارات وأجهزة أمنية إسرائيلية لاستقطاب هؤلاء.
اللافت للنظر أن ممثل فرع منظمة "سار إل" في النرويج اعترف في حديث لصحيفة "كلاسا كامب" (النضال الطبقي) تورغر دال في سبتمبر/أيلول الماضي بأن أعداد الذاهبين للخدمة في الحيش الإسرائيلي تزيد كلما توتر الوضع هناك. وأنه يجري تجنيد ما بين 4 و5 آلاف شاب سنويا للعمل في جيش الدفاع".
اليسار الاسكندنافي
انتقد اليسار في الدول الاسكندنافية التفريق بين متطوعين في منظمات "جهادية" وقيام دولة بتجنيد مواطنيها من ديانات أخرى، وطالب اليسار بسياسة الوضوح، لأن جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة وخرقها للمواثيق الدولية تمت بمساندة بعض مواطني هذه الدول. ويذهب السياسي اليساري كريستيان يول إلى المطالبة بوقف دعم سياسة "إرهاب الدولة الذي تقوم به إسرائيل، وعدم التفريق بين إرهاب وإرهاب منظم".
الاحتياط الاسكندنافي
طرحت صحيفة "بيرلينغستيذنه" الدنماركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 سؤالا على الناطق الاسكندنافي باسم "الاحتياط في اسكندنافيا" ثوركيلد بيترسن، ضابط الاحتياط غير اليهودي، عن أعدادهم، فقال: "ليست لديّ أرقام بهذا الخصوص (....) ولم نجر إحصاء لهم.
هناك بعض الأشخاص يحضرون إلى إسرائيل ويؤدون الخدمة ثم يعودون، لذا يصعب حصر الأرقام سنويا". ويضيف: "من يحضر من اسكندنافيا هم شباب وشابات أيضا، بعضهم للخدمة العسكرية ويبقى بعضهم الآخر. هناك عقود رسمية مع هؤلاء. لا أملك أرقاما، فأنا ضابط احتياط في إسرائيل، وليست مهمتي إحصاء الأرقام. نحن يمكننا دعوة 30 ألفا للاحتياط، ولدينا الضوء الأخضر الذي يمنحنا إمكانية دعوة 45 ألفا أيضا". وفي رده على قصف غزة وقتل المدنيين، قال هذا الضابط: "صواريخنا وقذائفنا دقيقة جدا باتجاه غزة، فهي عبر الليزر والكاميرات وحين نقصف نطلب من المدنيين المغادرة قبل القصف(...)".
أثناء الحرب على غزة ، وتحديدا في شهر أغسطس/آب، كان النقاش يدور عن "محاربي سورية". أجهزة الاستخبارات في كل من الدنمارك والسويد والنرويج، كانت تناقش خطر هؤلاء "الجهاديين" الذين سافروا إلى سورية وغيرها ربما. لعبة الأرقام هي ذاتها منذ أكثر من عام، 100 إلى 300، والاعتراف بأن نصفهم عاد.
المتخصص في الشأن الإسرائيلي والفلسطيني، هانس كريستيانسن، من حزب "اللائحة الموحدة" علق قائلا لـ"العربي الجديد": "العجيب هو تجريم وشيطنة حرية التفكير عند الشباب المسلمين، بينما في حالة التطرف الصهيوني عند المستوطنين الذين يضمون، للأسف، مواطنينا وشركات حراسات أمنية من عندنا، ويخدم بعض هؤلاء على الحواجز وفي السجون الإسرائيلية باسم التجنيد والتطوع، لا يجري التساؤل عنهم. نحن بالتأكيد أمام أكثر من ازدواجية معايير. كيف يسمح لحاخامات التطرف بأن تحشد كل هذا الإرهاب ومساندته في مستوطنات غير شرعية، وفي ذات الوقت يجرم المسلم لأنه يعبر عن رأيه؟ وكيف يركزون على بضعة مراهقين ذهبوا إلى سورية، بينما يتم السكوت عن تجنيد رسمي لمواطنينا من قبل وزارات أجنبية؟".