جريمة لن تقتل إرادة الحياة

30 يونيو 2015

في موقع سقوط ضحايا الجريمة في تونس (28 يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
كان سيف الدين اليعقوبي، ابن ولاية القيروان، يطلق النار على ضحاياه بكثافة، وكلما اعترض طريقه تونسي، كان يتجنبه ويطلب منه الابتعاد، فهو جاء إلى الفندق ليقتل أكبر عدد يطاله من السياح الغربيين. منطق غريب ومفعم بمفاهيم خطيرة وعرجاء ومخيفة. 
لم يميز القرآن الكريم بين قاتل وآخر، بناء على هوية المقتول، كان قاطعاً في تحميل مسؤولية ثقيلة للقاتل في قوله تعالى "من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً". ولكن، يُحوّل التأويل الفاسد لآيات الرحمن الفرد من كائن سوي إلى مجرم خطير. وبدل أن يضمن الجنة التي وعدوه بها إثر مغادرته الحياة الدنيا، سيجد نفسه يُحاسب عند الله على تهمة قتل الإنسانية بمجملها، وليس فقط 38 أوروبياً. هكذا يصنع الجهل بأصحابه، حين يحولهم إلى مجرمين بامتياز، بعد أن كانت مؤهلاتهم ستجعل منهم عناصر بناء في المجتمع.
لا تبني تجارة الموت مشروعاً حضارياً، ولا تعيد إلى الأمة مجدها. ولا علاقة للسياق الراهن بسياق الجهاد الذي شرعه الإسلام، وفق شروط وضوابط محددة. ولا توجد أي مقارنة يمكن الاستناد إليها، لتبرير ما يقوم به هؤلاء بين حق الدفاع الشرعي ضد مغتصب الأرض وقتل سياح على الهوية، لمجرد أن جنسياتهم وبشرتهم ولغاتهم تدل على أنهم غير عرب أو مسلمين. ولو كانت هذه رسالة الإسلام لانتهى منذ قرون، فقوته في القيم التي جاء بها، وفي الآفاق الرحبة التي يفتحها أمام معتنقيه، بعيداً عن منطق العنف أو الإكراه.
رفض التونسيون بشدة رسالة العنف التي يبشرهم بها هؤلاء. رفضوها عندما لم يستجيبوا لدعواتهم بالانضمام إليهم، والتمرد على الدولة وجيشها وأجهزتها الأمنية. صحيح، تحدث صدامات بين المواطنين والبوليس، وقد تصل إلى درجة حرق مقرات الشرطة، لكن ذلك لا يتم بناء على منطق هذه الجماعات، وإنما لدوافع اجتماعية، سرعان ما يقع تجاوزها، ليطالب الجميع بعودة الأمنيين إلى المدن التي انسحبوا منها، حفاظاً على مصالح السكان وحياتهم.
رفض التونسيون رسالة العنف، عندما وضعوا باقات الزهور أمام الفندق الذي حدثت فيه المجزرة، ترحماً على الضحايا، من دون بحث عن دياناتهم وجنسياتهم. أما الجرحى فقد تلقوا الإسعافات، ولمسوا معها، عن قرب، طبيعة التونسيين وثقافتهم العميقة، حين سارعوا إلى إنقاذهم، وزاروهم في المستشفيات، ويسّروا عودتهم إلى بلادهم، ومن أصر منهم على البقاء في تونس، لقي الترحاب وحسن الضيافة، فعانقهم كل من التقى بهم، وشكرهم على تضامنهم مع الشعب التونسي، في هذه المحنة التي يمر بها، واعتذروا لهم باسم تونس، وهناك من أدخلوهم ديارهم، وحوّلوهم إلى أصدقاء، تبادلوا معهم المحبة والتقدير ورفض الكراهية.
ثقافة الموت تنتج ضدها، وبدل أن تنشر الخوف وتعمق الإحباط، يحصل خلاف ذلك حين يسود التحدي، وتولد إرادة قوية لدى كل مواطن يؤمن بوطنه، ويريد العيش فيه حراً لتحقيق مصالحه وآماله. تونس حزينة، بكت ضيوفها، ولعنت من أجرم من أبنائها، وأكدت حرصها على مزيد من دعم الأمنيين والعسكريين، وأعلنت بوضوح رفضها القاطع لكل من يدعو شعبها إلى تبني مشروع الحرب الدائمة ضد المختلفين في الدين، والمخالفين في فهمه.
اضطربت رؤية التونسيين للقضايا، على الرغم مما أنجزوه منذ ثورتهم، وشعر كثيرون منهم بإحباط، بسبب تأخر الحصاد، وحدوث ما لم يكن في الحسبان، وسادهم تشكيك قوي في نخبتهم السياسية والفكرية. لكنهم، في كل الأحوال، لم يفقدوا البوصلة، ولم يستسيغوا الغلو في الدين، ولم تستهوهم دعوات كراهية الأجانب، وبقوا أوفياء لتقاليدهم الراسخة، والتي تحثهم على أن يكونوا فاعلين في العالم، ويرفضوا بشدة كل من يدعوهم إلى العيش خارج العالم.
تونس، يا قوم، لم تنهر ولن تنهار. هكذا يبدو المستقبل، وهذا ما ستثبته السنوات المقبلة، مهما كانت الخسائر، ومهما تعددت الجرائم في حق الوطن.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس