24 أكتوبر 2024
جدل الميراث في تونس
يعود الجدل في الأوساط التونسية المختلفة بشأن قضية التساوي في الميراث بين الجنسين، على خلفية المسيرة التي نظمتها جمعيات نسوية في اليوم العالمي للمرأة، للمطالبة بتعديل ما تعتبره قانونا تمييزيا ضد المرأة، وضرورة تساويها في ميراثها مع الرجل. وكان الشعار الذي رفعته "حق موش مزية" (التساوي حق وليس مكرمة) مثيرا للجلبة والنقاشات الصاخبة، في الأوساط النخبوية، وبين العموم، مع تحول الموضوع قضية رأي عام، يتجادل بشأنها الجميع في فضاءات التواصل الاجتماعي والمنتديات العامة.
وبعيدا عن القضايا الفقهية والقانونية، يمكن القول إن إثارة الموضوع في هذه المرحلة شكّلت دافعا لظهور نزاعات حول قضايا الهوية والخصوصية الثقافية، في مواجهة تمسك أطراف بكونية حقوق الإنسان وشموليتها وضرورة السير نحو تعميم المساواة بشكلها المطلق بين الجنسين. وإذا كان الإجماع حاصلا حول استحقاق المرأة التونسية جملة من المكاسب ضمن المنظومة القانونية، وأيضا في إطار العمل السياسي، بداية من مسألة التناصف المفروض قانونا في القوائم الانتخابية وحق المرأة في الزواج من غير المسلم، فإن مسألة الميراث تبدو أعقد من كل التحولات القانونية السابقة، سواء المتعلقة بمنع تعدد الزوجات وحماية المرأة من العنف الأسري، وفرضها شريكا كامل الحقوق في المجتمع. ربما لارتباط الموضوع بجانبين، كلاهما أعقد من الآخر، أولهما وجود نص ديني صريح في القضية، ما يجعل إخضاعه للتأويل صعبا، ولا يمكن إقناع الجمهور به، والعامل الثاني تعلقه بقضية اقتصادية، ما يفرض حسابات كثيرة، بشأن تقسيم التركات والمواريث، وما يثيره من مشكل مجتمعي، كان من قبيل المسلّم به.
ولأن المسألة تتجاوز مجرد الموقف الأخلاقي في مسألة المساواة الشكلية، لتصبح قضية متعلقة بالهوية الإسلامية للمجتمع، جاءت ردود الأفعال متعددة ومتناقضة، في ظل الصمت الرسمي للجهاز الديني الحكومي، كما يمثله مفتي الجمهورية، فقد نددت جمعيات الأئمة والخطباء والمشتغلون بالشأن الديني بهذا المطلب الذي تقف وراءه جمعيات نسوية وأحزاب لائكية نافذة بعلاقاتها الخارجية، وفي أروقة السلطة، لكنها لا تحظى بامتداد جماهيري أو خطاب جذاب، يمكن أن يقنع الجمهور بصحة توجهاتها. وإذا كانت لجنة الحريات الفردية والمساواة التابعة لرئاسة الجمهورية قد أجّلت إعلان ما ورد في تقريرها، فإنها تعرّضت لانتقادات تتعلق بتركيبتها وطبيعة توجهات القائمين عليها، وحالة استبعاد ممثلي الجهات الدينية، مثل الجامعة الزيتونية عن عضويتها، ما أفضى الى إصدار عدد مهم من أساتذة هذه الجامعة بيانا مندّدا باللجنة ومخرجاتها، بوصفها تُقصي المختصين في الشريعة الإسلامية من الحوار في موضوع هو أساسا ذو خلفية دينية.
ويظل الإشكال الحقيقي متعلقا بمدى صواب طرح مثل هذه القضايا في المرحلة الحالية من
الانتقال الديمقراطي بين مؤيد فكرة أن يتم طرح كل المشكلات المجتمعية مرة واحدة للنقاش العمومي ومن يعتبر قضايا، مثل المساواة في الميراث ومنح المرأة إمكانية توريث لقبها لأبنائها، مفتعلة وخارجة عن السياق العام. فالشارع التونسي الذي تحرك في ثورته ضد الاستبداد وضد التفاوت الجهوي، ولحل مشكلات البطالة والفقر، لم يكن في أي يوم معنيا بهذه القضايا النسوية النخبوية، والتي لا تزيد إلا في توتير الأوضاع. وطرح مشكلات مثل هذه، في وقت تعاني فيه الدولة من مشكلات المديونية والفساد، ويعاني فيه الجمهور من مشكلات الفقر والبطالة، ترف لا لزوم له، بل هو وصفة لمزيد من إثارة نزعات الغلو الديني التي تقتات على تكفير الدولة، واعتبارها عدوا للإسلام وخصما للدين.
ولأن زمن الاستبداد، وعلى الرغم من هيمنته البوليسية المطلقة على الشارع، لم يتجرأ على طرح قضايا من هذا القبيل، ربما لتجنب إثارة الرأي، فقد لا يكون من الحكمة الانزياح بالثورة التونسية من أنها محاولة للتحرر من هيمنة نظام استبدادي والحزب الواحد، ليصبح لعبة في يد الجماعات الأقلوية و"النخب" التي استفادت من مواقعها الجديدة ما بعد الثورة لتمرير أجنداتها الثقافية والفكرية، رغما عن الوجدان الشعبي العام. ويظل الموضوع المطروح، وعلى الرغم من كل الجدل حوله، علامة على حيوية الشعب التونسي، وقدرته على طرح قضاياه ومناقشتها في الفضاء العمومي، بعيدا عن وصاية الآباء والمرشدين، بشرط أن تتخلى بعض النخب عن نرجسيتها، ولعب أدوار الهداية بوصفها أدرى بمصالح الناس منهم، فالديمقراطية تقتضي طرح هذه القضايا الخلافية الكبرى للاستفتاء العام، والجميع يدرك أن الجزء الأهم من الرأي العام التونسي ما زال ينفر من مثل هذه التشريعات المفترضة، الأمر الذي يفسر لماذا تتجنب الأحزاب التونسية، حتى أكثرها إغراقا في اللائكية، وضع مثل هذه القضايا على لائحة برامجها المجتمعية، فتعديل القوانين الأسرية وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية، ليس أمرا هينا يمكن فرضه بقانون، أو تعديله من خلال تقارير ترفعها لجان رئاسية.
وبعيدا عن القضايا الفقهية والقانونية، يمكن القول إن إثارة الموضوع في هذه المرحلة شكّلت دافعا لظهور نزاعات حول قضايا الهوية والخصوصية الثقافية، في مواجهة تمسك أطراف بكونية حقوق الإنسان وشموليتها وضرورة السير نحو تعميم المساواة بشكلها المطلق بين الجنسين. وإذا كان الإجماع حاصلا حول استحقاق المرأة التونسية جملة من المكاسب ضمن المنظومة القانونية، وأيضا في إطار العمل السياسي، بداية من مسألة التناصف المفروض قانونا في القوائم الانتخابية وحق المرأة في الزواج من غير المسلم، فإن مسألة الميراث تبدو أعقد من كل التحولات القانونية السابقة، سواء المتعلقة بمنع تعدد الزوجات وحماية المرأة من العنف الأسري، وفرضها شريكا كامل الحقوق في المجتمع. ربما لارتباط الموضوع بجانبين، كلاهما أعقد من الآخر، أولهما وجود نص ديني صريح في القضية، ما يجعل إخضاعه للتأويل صعبا، ولا يمكن إقناع الجمهور به، والعامل الثاني تعلقه بقضية اقتصادية، ما يفرض حسابات كثيرة، بشأن تقسيم التركات والمواريث، وما يثيره من مشكل مجتمعي، كان من قبيل المسلّم به.
ولأن المسألة تتجاوز مجرد الموقف الأخلاقي في مسألة المساواة الشكلية، لتصبح قضية متعلقة بالهوية الإسلامية للمجتمع، جاءت ردود الأفعال متعددة ومتناقضة، في ظل الصمت الرسمي للجهاز الديني الحكومي، كما يمثله مفتي الجمهورية، فقد نددت جمعيات الأئمة والخطباء والمشتغلون بالشأن الديني بهذا المطلب الذي تقف وراءه جمعيات نسوية وأحزاب لائكية نافذة بعلاقاتها الخارجية، وفي أروقة السلطة، لكنها لا تحظى بامتداد جماهيري أو خطاب جذاب، يمكن أن يقنع الجمهور بصحة توجهاتها. وإذا كانت لجنة الحريات الفردية والمساواة التابعة لرئاسة الجمهورية قد أجّلت إعلان ما ورد في تقريرها، فإنها تعرّضت لانتقادات تتعلق بتركيبتها وطبيعة توجهات القائمين عليها، وحالة استبعاد ممثلي الجهات الدينية، مثل الجامعة الزيتونية عن عضويتها، ما أفضى الى إصدار عدد مهم من أساتذة هذه الجامعة بيانا مندّدا باللجنة ومخرجاتها، بوصفها تُقصي المختصين في الشريعة الإسلامية من الحوار في موضوع هو أساسا ذو خلفية دينية.
ويظل الإشكال الحقيقي متعلقا بمدى صواب طرح مثل هذه القضايا في المرحلة الحالية من
ولأن زمن الاستبداد، وعلى الرغم من هيمنته البوليسية المطلقة على الشارع، لم يتجرأ على طرح قضايا من هذا القبيل، ربما لتجنب إثارة الرأي، فقد لا يكون من الحكمة الانزياح بالثورة التونسية من أنها محاولة للتحرر من هيمنة نظام استبدادي والحزب الواحد، ليصبح لعبة في يد الجماعات الأقلوية و"النخب" التي استفادت من مواقعها الجديدة ما بعد الثورة لتمرير أجنداتها الثقافية والفكرية، رغما عن الوجدان الشعبي العام. ويظل الموضوع المطروح، وعلى الرغم من كل الجدل حوله، علامة على حيوية الشعب التونسي، وقدرته على طرح قضاياه ومناقشتها في الفضاء العمومي، بعيدا عن وصاية الآباء والمرشدين، بشرط أن تتخلى بعض النخب عن نرجسيتها، ولعب أدوار الهداية بوصفها أدرى بمصالح الناس منهم، فالديمقراطية تقتضي طرح هذه القضايا الخلافية الكبرى للاستفتاء العام، والجميع يدرك أن الجزء الأهم من الرأي العام التونسي ما زال ينفر من مثل هذه التشريعات المفترضة، الأمر الذي يفسر لماذا تتجنب الأحزاب التونسية، حتى أكثرها إغراقا في اللائكية، وضع مثل هذه القضايا على لائحة برامجها المجتمعية، فتعديل القوانين الأسرية وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية، ليس أمرا هينا يمكن فرضه بقانون، أو تعديله من خلال تقارير ترفعها لجان رئاسية.